الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
*
سبب نهضة العلوم الإسلامية بالأندلس:
تزهو العلوم بين الأمة، وتضرب أشعتها في طول البلاد وعرضها، متى هيأ الله لها من أمرها سببين اثنين، هما: صحة طرق التعليم، ثم ما تكون عليه الدولة من كياسة وشعور بقيمة العلم ورجاله المصلحين.
أما صحة طرق التعليم، فهي التي تنهض بطلاب العلم الأذكياء على أن يرسخوا في فهم أصول الشريعة، وتعرّف مقاصدها في وقت غير بعيد، فيتيسر لطالب هذه العلوم أن يبلغ فيها أشدَّه، وهو لا يزال في عنفوان شبابه، فيتصدى للتدريس أو التأليف أو الدعوة، وعزمه في قوة، وهمته في نشاط، وفؤاده في ذكاء.
وأما كياسة الدولة ويقظتها لما في علوم الإسلام من سنن الرقي وسعادة الحياة، فذلك ما يجعلها تعمل على نفاقها، وذلك ما يدعو إلى التنافس في طلبها، فلا يلبث الناس أن يروا لأهل العلم مواقف شريفة، وآثاراً فاخرة، وما هذه المواقف والآثار إلا عصمة للعقول من أن تضل، ووقاية للدولة من أن تستخف بالشرائع، فتمقتها الأمة وتشقى.
قد يخرج من بين التعاليم الملتوية، أو يظهر في عهد الدولة الجافية أفرادٌ يسمو بهم صفاء الفطرة أن يكون علمهم غزيراً متناسقاً، وتفكيرهم موزوناً مثمراً، ولكني أتحدث عن الثقافة الفائقة تسود بين طلاب العلم، فهذه لا تظفر بها المعاهد والمدارس الإسلامية إلا أن تستقيم طرق التعليم، ويكون أولو الأمر ممن يرجون لله وقاراً.
إذا اجتمع هذان الأمران: سداد نظام التعليم، وسلامة ضمير الدولة،
سعدت هذه المعاهد والمدارس، وأطلعت من أعلام الهداية وحماة الفضيلة خلقاً كثيراً.
وقد كان منهج التعليم في بلاد الأندلس جيداً، وكان رجال دولها - في أغلب أحوالهم - ينطوون على ضمائر سليمة، وسرائر مطمئنة بالإيمان.
نعني بجودة منهج التعليم: أنهم كانوا يسيرون في دراسة العلم على طريقة البحث في نفس العلم، والغوص على لبابه، ولم تأكل المختصرات المعلقة، والمناقشات اللفظية من مجهوداتهم وأوقاتهم ما هم في حاجة إلى إنفاقه في حقائق العلم، وإنَّ حقائق العلم لشيء كثير.
ولا يغيب عنا أنهم ابتلوا في أواخر حياتهم - كما ابتلي غيرهم - بشيء من هذه المختصرات، وأخذت المناقشات في ألفاظ المؤلفين تشغل طرفاً من أوقاتهم، ولكنها لم تشتد كما اشتدت في معاهدنا منذ زمن، وأوشكت أن تصير دون المباحث الأصلية في العلم حجاباً مستوراً.
وأما احتفاء أمراء الأندلس بعلوم الإسلام، فإن تاريخهم ينطق بأنهم كانوا يعملون لحياتها ونمائها، ويوجهون عنايتهم على الاستكثار من رجالها، ولهذه العناية مظاهر شتى:
من هذه المظاهر: رعايتهم لمقامات العلماء، ونظرهم إليها بعطف واحترام.
قال أبو عبد الله المقري في وصف الأندلس: "وإن ملوكها كانوا يتواضعون لعلمائها، ويرفعون أقدارهم".
وسنسوق إلى حضراتكم في بعض الفصول الآتية وقائع تشهد بأن أمراء الأندلس كانوا يجلون علماء الشريعة، ويحتملون منهم الأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر، ولو كان غليظاً خشناً؛ لأنهم يحسون منهم الإخلاص حين ينهون، وحين يأمرون، وشأن المخلص في قول الحق أن ترمقه القلوب بمهابة، وإن كانت مطبوعة على قسوة واستبداد.
ومن هذه المظاهر: حملهم أهل العلم على التأليف في علوم الدين، وتلقيهم للمؤلفات القيمة بما شأنه أن يبعث الهمم على الإتيان بأمثالها. وأذكر في هذا الباب: أن بعض علماء المالكية بالعراق شرع في تأليف سماه "الاستيعاب"، وقصد فيه إلى جمع أقوال الإمام مالك، لا يشركها بقول أحد من أصحابه، وكتب منه خمسة أجزاء، ثم أدركه الموت وهو لم يتمه بعد، ووقعت هذه الأجزاء إلى الحكم بن عبد الرحمن الناصر، فأعجب بها، واقترح على أبي بكر القرشي، وأبي عمرو الإشبيلي أن يكملا هذا الكتاب، وفتح لهما دار كتبه للبحث والتنقيب، فأكملاه في مئة جزء، ولما قدماه إليه، ابتهج به سروراً، وقلدهما منصب الشورى في مجلس القضاء. على أن أول الأستاذين المؤلفين، وهو أبو بكر القرشي لم يزد عمره يوم وُلِّي هذا المنصب على ثلاثين سنة.
ومن هذه المظاهر: أن في الأمراء أنفسهم من كانوا يقبلون على درس علوم الشريعة درساً وافياً؛ كعبد الرحمن الأوسط، والحكم بن عبد الرحمن الناصر، ومجاهد العامري أحد ملوك الطوائف شرقي الأندلس. ومنهم من كانوا يعقدون مجالس يتحاور فيها أهل العلم بحضرتهم، وقد كان للمنصور ابن أبي عامر مجلس في كل أسبوع، يجتمع فيه أهل العلم للمناظرة بحضرته، ولا يدعه إلا حين يخرج مجاهداً في سبيل الله.
ومما نهض بالعلوم في الأندلس: إقبال أهل العلم على الرحلة إلى