الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوّمناه، لا نبتغي بذلك الإصلاح والتقويم إلا أن نكون خير أمة تمثل الشهامة والحكمة والكمال.
وعلى هذا القصد أتقدم إلى حضراتكم بكلمة أبحث فيها عن التصوف؛ فإن الطرق المنتمية إلى الصوفية باسطة أجنحتها في الشرق والغرب، وأملنا معقود بأن نرى رجالها يقتدون بسيرة الصدر الأول من الصحابة والتابعين، ذلك العهد الذي ظهر فيه الإسلام بحقائقه النقية، وأصوله المحكمة، والعهد الذي ظهرت به أمة الإسلام في أسنى مظهر من العزة والرحمة والسلطان الكريم.
*
نشأة التصوف:
إن الإسلام دين ينظم شؤون هذه الحياة؛ كما يرشد إلى سبيل السعادة في تلك الحياة، وهو الدين الذي عني بتصفية النفوس من طبائعها الرديئة، وتخليصها من شهواتها الطاغية، ثم عطف على الأجسام، فخلّى سبيلها لأن تتمتع من نعيم هذه الحياة وزهرتها إلا أن تطغى، فبقدر ما يدرك الإنسان من صفاء النفس، وسلامة الضمير، وبقدر ما يكون له من السلطان على شهواته، فلا تتعدى حدود الاعتدال، يصعد في مراقي الفلاح، ويدنو من مقام الكرامة والوجاهة عند الله. يقول الفيلسوف الأندلسي أبو بكر بن الطفيل:
يا باكياً فرقة الأحباب عن شحطٍ
…
هلاً بكيت فراقَ الروح للبدنِ
نور تردد في طين إلى أجل
…
فانحاز علواً وخلّى الطين للكفنِ
يا شدّ ما افترقا من بعد ما اجتمعا
…
أظنها هدنة كانت على دَخَنِ (1)
إن لم يكن في رضا الله اجتماعهما
…
فيا لها صفقةً تمت على غبنِ
(1) دَخَن: يقال: هدنة على دخن؛ أي: سكون لعلة، لا لصلح - "القاموس".
واجتماع الروح والبدن في رضا الله، هو ما يعمل له أولو الألباب من الناس، وقد رسم الإسلام للعمل في هذا السبيل خططاً، من انحرف عنها، أو تجاوز حدها، كان إلى الخسران أقرب منه إلى النجاح.
روي أن فريقاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا، وقرروا فيما بينهم أن يسردوا (1) الصيام، ويعكفوا على العبادة، ولا يقربوا النساء والطيب، وأن يرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الأرض، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم، فنهاهم في خطبة جامعة، وأنزل الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87].
كان أصحاب رسول الله يجدُّون في العمل الصالح ما استطاعوا، ويزهدون في الدنيا زهْد من لا يتناول منها إلا حلالاً طيباً، وزهْدَ من لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وزهْدَ من يعاف أن تكون يده السفلى، ويد غيره العليا، وهم في هذا السبيل يتسابقون ويتفاضلون، وقد اشتهر كثير منهم بالجد في العبادة، والبلوغ في الزهد مكانة فضلى، ومن هذه الطائفة: أبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي.
أما أبو ذر، فكان يعظ عمّال عثمان رضي الله عنه حينما يراهم يتسعون في المراكب والملابس، فيتلو عليهم قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]. وكان يملأ آذانهم تقريعاً، ويدعوهم، ويشتد في دعوته إلى أن ينفقوا ما زاد على حاجتهم في سبيل الخير، وهذا أمر يطيقه الخاصة، ولا يحتمله كل إنسان، فأنهى معاوية أمره إلى عثمان، فكتب عثمان يأمر أبا ذر بالقدوم إلى
(1) يسردوا: يتابعوا.
المدينة، فقدمها، واجتمع إليه الناس، فجعل يسلك بهم ما كان يسلك في الشام، فقال له عثمان: لو اعتزلت، ومعناه: أن من كان مثلك في هذه المكانة من الزهد، فحاله يقتضي أن ينفرد عن الناس، أو يخالطهم في رفق، ويخلي سبيلهم ما قضوا حقوق أموالهم، وأدوا فريضة الزكاة على وجهها، فخرج أبو ذر إلى الربذة (1) زاهداً ورعاً، وترك من ورائه قوماً يضاهونه، أو يقاربونه زهداً وورعاً.
وأما سلمان الفارسي، فكان عطاؤه خمسة آلاف، فإذا خرج عطاؤه، تصدق به جميعاً، ولا يقتات إلا بما كسبت يده؛ تمسكاً بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري:"ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده". ويدلكم على مكانته في الزهد والتقوى: كتابه الذي بعث به من العراق إلى أبي الدرداء، وهو يومئذ القاضي بدمشق، ومما يقول فيه:"أما بعد: فقد كتبت إلي أن الله رزقك مالاً وولداً، اعلم أن الخير ليس في المال والولد، وإنما الخير أن يكثر حلمك، وينفعك علمك. وكتبت إليّ: أنك نزلت في الأرض المقدسة، اعلم أن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله".
هكذا كانت سيرة الزهاد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا مواعظهم: أعمال مشروعة خالصة، وأقوال رشيدة واضحة.
ومما حدث في عهدهم: أن أناساً لم يدركوا زمن النبوة يسمع أحدهم الآية، فيخرُّ كأنه مغشي عليه، فكان الصحابة الأكرمون لا يرضون عمن هذا شأنه، ويقابلونه بتعجب وإنكار.
مرّ عبد الله بن عمر برجل ساقط، فقال: ما شأنه؟ فقالوا: إذا قرئ عليه
(1) الربذة: مكان قرب المدينة.
القرآن، يصيبه هذا، فقال: إنا لنخشى الله عز وجل، وما نسقط.
وقال حصين بن عبد الرحمن: قلت لأسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قراءة القرآن؟ قالت: كانوا كما ذكرهم الله، تدمع عيونهم، وتقشعر جلودهم، فقلت لها: هاهنا رجال إذا قرئ على أحدهم القرآن، غشي عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: جئت إلى أبي يوماً، فقال: أين كنت؟ فقلت: وجدت أقواماً ما رأيت خيراً منهم، يذكرون الله، فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله، فقعدت معهم. فقال لي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر يتلون القرآن، ولا يصيبهم هذا، أفتراهم أخشعَ لله من أبي بكر وعمر؟ قال: فرأيت أن ذلك كذلك، فتركتهم.
رحم الله أصحاب رسوله الكريم، لم يعدوا في كمال معرفة الله، أو في كمال خشيته أن يسمع الرجل القرآن، فيقع مغشياً عليه، إنهم كانوا على بصائر مشرقة، وأحلام راجحة، يعرفون كيف يتقربون إلى الله زلفى، وكيف يتدبرون آياته بسكينة وحسن سمت، تمتلئ له أعين الناظرين مهابة وإجلالاً.
وفي عهد التابعين أقبلت طائفة من فضلائهم يتحدثون في أحوال النفس؛ من حيث صفاؤها، وصلتها بالخالق، وزهدها في زخرف هذه الحياة، واشتدت عنايتهم بالحديث في هذه الآداب، وكانوا يأخذون بها أنفسهم، ويرشدون إليها غيرهم، ويلقبون لذلك العهد: الزهاد، والوعاظ.
ومن أشهر هذه الطائفة: الحسن البصري، وكان صاحب حديث وفقه، وبيان وعلم بالقرآن، فصحبه طوائف من الناس شتى، فمنهم من صحبه ليأخذ
عنه الحديث والأخبار، ومنهم من صحبه ليستفيد منه البلاغة والبيان وعلم القرآن، ومنهم من صحبه ليتلقى عنه الفقه والأحكام، وهو-مع هذا- يتكلم في محاسبة النفس، والمراقبة، والأخلاق، والمحبة، واليقين، والاستهتار بذكر الله، وكان يعقد للحديث في هذا السبيل مجلساً في منزله، لا يشهده إلا طائفة يتوسم فيهم الكفاية لأن يفهموا، والقوة على أن يعملوا، وكان لا يتحدث في هذا المجلس إلا في هذا الباب من العلم.
قال أبو سعيد بن الأعرابى: لم يبلغنا أن أحداً ممن تكلم في هذه المذاهب (يعني: أحوال النفس)، ودعا إليها، وزاد في بيانها وترتيبها وصفات أهلها، مثل الحسن بن يسار البصري.
كان هؤلاء الفضلاء يصرفون هممهم إلى تزكية النفوس من نقائصها، وإسلام القلوب إلى ربها، يشهد بهذا كلمهم الطيب، ومواعظهم الحسنة.
ومن مواعظ الحسن البصري: حادثوا هذه القلوب بذكر الله؛ فإنها سريعة الدثور، واردعوا هذه النفوس؛ فإنها طلعة تنزع إلى الشر عادة.
وعلى هذا الطراز يقول عامر بن قيس أحد زهاد التابعين: لقد أحببت الله حباً سهّل علي كل مصيبة، ورضّاني بكل قضية، فما أبالي مع حبي له ما أصبحت عليه، وما أمسيت.
وأخذ بعض الناس في عهد التابعين ينحو نحو الغلو في الزهد، وكان الحسن البصري نفسه ممن يحارب هذا الغلو الذي لا يرتضيه الإسلام، ومما نقرؤه في تاريخ هؤلاء: أن رجلاً قال: أنا لا آكل الخبيص (1)؛ لأني
(1) الخبيص: نوع من الحلواء معمول من التمر والسمن.
لا أقوم بشكره، فقال الحسن البصري: هذا رجل أحمق، وهل يقوم بشكر الماء البارد؟!.
فزهد الحسن البصري وأمثاله من فضلاء التابعين، لا يحيد عن منهج الشريعة يميناً ولا يساراً.
وتخرج في مجالس الحسن البصري وغيره طبقة عالمة زاكية، منهم: مالك بن دينار، وحبيب العجمي، وعبد الواحد بن زيد، وبقي هؤلاء الذين يلقبون الزهاد والوعاظ لا يمتازون عن جمهور الناس إلا بكثرة ما يعملون من صالح، وبشدة ما يحملون من خشية الله، والعزة به، والاعتماد عليه، وبانصراف هممهم عن التعلق بما في هذه الحياة من شهوات أو حطام.
وفي خلال النصف الأول من القرن الثاني صار الزهاد والوعاظ يسمّون بالصوفية، وأول من دعي بهذا الاسم: أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة 150 هـ، وقد اختلف الناس في مأخذ هذا اللقب، فزعم بعضهم أنه مأخوذ من الصفّة؛ لشبه هؤلاء الزهاد بأهل الصفَّة، وهم جماعة من فقراء الصحابة كانوا يقيمون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عابدين متعففين، لا يفارقونه إلا لجهاد عدو، وهذا الوجه لا يوافق قاعدة النسب في اللغة؛ فإنها تقتضي أن يقال في النسب إلى صفّة: صُفّية، لا صوفية.
وذهب ابن الجوزي وآخرون إلى أن الصوفية نسبة إلى صوفة؛ تشبيهاً لهؤلاء الزهاد بآل صوفة، وهم قوم كانوأ يخدمون الكعبة في الجاهلية، ويتنسكون. والأقرب أنهم تسموا بالصوفية لأنهم كانوا يؤثرون لبس الصوف؛ تجنباً للبس الفاخر من الثياب.
أخذ الزهاد والوعاظ لقب الصوفية، وما برحت طريقتهم قائمة على