المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالثشروط الاحتجاج بوسائل اللقاء - موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن بين المتعاصرين

[خالد الدريس]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأولتعريف بالإمامين والمسألة

- ‌الفصل الأولتعريف موجز بالبخاري ومسلم

- ‌المبحث الأولتعريف بالأمام البخاري

- ‌المبحث الثاني تعريف بالإمام مسلم

- ‌الفصل الثانيالإسناد المعنعن والاختلاف في الاحتجاج به

- ‌المبحث الأول: تعريف العنعنة

- ‌المبحث الثاني:العنعنة وعلاقتها بالتدليس والانقطاع

- ‌المبحث الثالثالاختلاف في الاحتجاج بالعنعنة

- ‌المبحث الرابعحكم الألفاظ التي بمنزلة "عن

- ‌المبحث الخامسالعنعنة في السند هل هي من الشيخ أم من تصرف التلميذ ومن دونه

- ‌الفصل الثالثتمييز هذه المسألة من المسائل المشاهبة

- ‌المبحث الأول: تمييزها من مسائل عدم الاتصال في السند

- ‌المبحث الثانيتمييزها من مسألة شرط البخاري ومسلم

- ‌الفصل الرابعالجذور التاريخية للمسألة

- ‌الباب الثانيموقف الإمام البخاري

- ‌الفصل الأولعناية البخاري الفائقة بهذه المسألة

- ‌المبحث الأول: تأثر البخاري في هذه المسألة بمن سبقه

- ‌المبحث الثانياهتمام البخاري بالمسألة في مصنفاته

- ‌الفصل الثانيوسائل إثبات اللقاءوالسماع عند الإمام البخاري

- ‌المبحث الأول: هل يكتفي البخاري بثبوت اللقاء أم يشترط التصريح بالسماع

- ‌المبحث الثانيوسائل إثبات اللقاء

- ‌المبحث الثالثشروط الاحتجاج بوسائل اللقاء

- ‌المبحث الرابعكم يكفي لإثبات اللقاء

- ‌المبحث الخامسما يقوم مقام اللقاء

- ‌الفصل الثالثهل عدم ثبوت اللقاء أوالسماع مؤثر في صحة الحديث عند الإمام البخاري

- ‌المبحث الأول: هل ثبوت اللقاء شرط في أعلى الصحة أم في أصل الصحة

- ‌المبحث الثانيهل قوى البخاري أحاديث لم يثبت فيها لقاء أو سماع

- ‌الفصل الرابعما يحتج به للبخاري على اشتراط اللقاء

- ‌الفصل الخامسمنهج البخاري في نصوصه النقدية المتعلقة باشتراط اللقاء

- ‌المبحث الأولوصف لطريقة نقد البخاري لسماعات الرواة

- ‌المبحث الثانيفرز النصوص النقدية

- ‌المبحث الثالثمعالم في النصوص النقدية

- ‌الفصل السادسالعلماء الذين أيدوا البخاريفي هذه المسألة

- ‌الفصل السابعالمأخذ على الإمام البخاري في هذه المسألة

- ‌الباب الثالثموقف الإمام مسلم

- ‌الفصل الأولتحرير الإمام مسلملمحل النزاع مع مخالفه

- ‌المبحث الأول: من الذي عناه مسلم بالرد عليه

- ‌المبحث الثانيعرض الإمام مسلم لرأيه ورأي مخالفه

- ‌الفصل الثانيضوابط الاكتفاء بالمعاصرة عند الإمام مسلم

- ‌المبحث الأول: ثقة الرواة

- ‌المبحث الثانيالعلم والمعاصرة

- ‌المبحث الثالثتحديد المقصود بإمكانية اللقاء

- ‌المبحث الرابعالسلامة من التدليس

- ‌المبحث الخامسعدم وجود ما يدل على نفي السماع أو اللقاء

- ‌الفصل الثالثأدلة الاكتفاء بالمعاصرة عند مسلم وغيره

- ‌المبحث الأول: ذكر الأدلة

- ‌المبحث الثانيمناقشة الأدلة

- ‌الفصل الرابعهل أخرج مسلم في صحيحه أسانيد معنعنةبمجرد الاكتفاء بالمعاصر

- ‌الفصل الخامسهل أخرج مسلم في صحيحه أسانيد تكلم البخاريفيها بعدم ثبوت السماع

- ‌الفصل السادسالعلماء الذين أيدوا مسلمًافي هذه المسألة

- ‌الفصل السابعالمأخذ على الإمام مسلم

- ‌الباب الرابعالموازنة بين الرأيين والترجيح

- ‌الفصل الأولمواطن الاتفاق والاختلاف بين الرأيين

- ‌الفصل الثانيالترجيح وأسبابه

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌المبحث الثالثشروط الاحتجاج بوسائل اللقاء

من الألفاظ التي هي قرائن على قوة احتمال وقوع اللقيا، والعمدة في هذا الباب على القرائن، ومدى قوتها.

‌المبحث الثالث

شروط الاحتجاج بوسائل اللقاء

يشترط للاحتجاج بوسائل اللقاء أمران:

1-

صحة السند.

2-

السلام مما يمنع ثبوت اللقاء.

1-

صحة السند:

إذا روي ما يدل على لقاء راو بشيخ في خبر من الأخبار، ولكن من طريق ضعيف فلا يعتد بذلك حتى يجيء من طريق صحيح، فصحة السند شرط للأخذ بوسيلة اللقاء.

قال البخاري: (قال: إنما صح عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث)(1) .

وقال: (وسماع الحسن من سمرة من جندب صحيح)(2) .

ومعنى هذا أن سماع الحسن من هذين الصحابين ثبت بسند صحيح، وقد تكلم الإمام البخاري في سماعات بعض الرواة لأنها لم ترد من طرق يعتمد عليها، فقال في ترجمة عبد الله بن عكيم:(لا يعرف له سماع صحيح)(3)، وقال في موضع آخر:(قال عباد بن ميسرة حدثنا الحسن قال ثنا أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبوعبد الله: ولا يصح سماع الحسن من أبي هريرة في هذا)(4) .

(1) التاريخ الصغير (1/122) .

(2)

العلل الكبير للترمذي (2/963) ، والتاريخ الصغير (1/282) نقلاً عن علي بن المديني.

(3)

التاريخ الكبير (5/39) ، والضعفاء (ص66) .

(4)

التاريخ الكبير (5/35) .

ص: 122

ومما ينبغي التنبيه عليه أن الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - لا يبالغ في التشدد إزاء رجال سند الخير الذي يتضمن ثبوت اللقاء أو السماع فمن ذلك:

قال الترمذي: (سألت محمدًا عن هذا الحديث، وقلت له: محمد بن المنكدر سمع من عائشة؟ فقال: نعم. روى مخرمة بن بكير عن أبيه عن محمد بن المنكدر قال: سمعت عائشة)(1) .

ومخرمة بن بكير متكلم في سماعه من أبيه فقد قال مخرمة: (هذه كتب أبي لم أسمع منها شيئًا)(2) ، وقد تكلم ابن معين وعلي بن المديني وأبوداود وابن حبان في سماع مخرمة من أبيه (3)، وقيل إنه سمع منه بعض الشيء قال ابن المديني:(لعله سمع الشيء اليسير، ولم أجد أحدًا بالمدينة يخبرني عن مخرمة أنه كان يقول في شيء من حديثه سمعت أبي)(4) .

فهذا السند فيه انقطاع، ولكن لعل البخاري احتج بخبر مخرمة بن بكير عن أبيه لأن التدليس كان نادرًا جدًا في المدينة، والسند الذي هو محمد بن المنكدر عن عائشة سند مدني لذا ساغ التساهل فيه، ولعل هناك قرائن أخرى أملت على الإمام البخاري الأخذ بهذا السند، وتساهل البخاري هو في اعتماده هنا على الوجادة، وقد احتج بالوجادة بعض أهل العلم.

2-

السلامة مما يمنع من ثبوت اللقاء:

أ - موانع قادحة:

1-

وجود ما يمنع ثبوت اللقاء تاريخيًا:

إذا جاء في خبر أن فلانًا اجتمع مع فلان إلا أن التاريخ لا يسمح بحدوث ذلك لكون أحدهما مات قبل مجيء الآخر، أو رجل عن بلدة قبل دخول الآخر

(1) العلل الكبير للترمذي (1/373) ، وقد تكلم في سماع ابن المنكدر من عائشة، انظر تهذيب التهذيب (9/474، 475) .

(2)

التاريخ الكبير (8/16) .

(3)

تهذيب التهذيب (10/70 - 71) .

(4)

تهذيب التهذيب (10/71) .

ص: 123

إليها، فإن الراجح أخذ ما جاء في التاريخ إلا أن يكون هناك ما يطعن في صحة النقل التاريخي أو يشكك في صدقه.

ساق البخاري حديثًا من طريق: (محمد بن عبد الله عن المطلب عن أبي هريرة: "دخلت على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة عثمان وفي يدها مشط")(1) .

ثم عقب عليه منتقدًا بقول: (لا أدري حفظ؟!، لأن رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم ماتت أيام بدر، وأبوهريرة هاجر بعد ذلك بنحو من خمس سنين أيام خيبر، ولا تقوم به الحجة)(2) .

فرفض البخاري الحديث ولم يحتج بما ذكر فيه من لقاء أبي هريرة لرقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم لمعارضة ذلك لحقائق التاريخ.

2-

تصريح الراوي بنفسه أنه لم يسمع ممن روى عنه:

إذ صرح الراوي بنفسه أنه لم يسمع من فلان الذي روى عنه كان ذلك التصريح أقوى من غيره إذا كان سند النص المصرح فيه بعدم السماع صحيحًا، ومن ذلك:

جاء في بعض الأسانيد أن جميل بن زيد قال حدثنا ابن عمر (3)، وقد قال جميل بن زيد نفسه:

(هذه أحاديث ابن عمر بما سمعت من ابن عمر شيئًا، إنما قالوا لي: اكتب أحاديث ابن عمر فقدمت المدينة فكتبتها)(4) .

3-

دخول التحديث خطأ في الإسناد:

يحدث أحيانًا أن يروى سند فيه التصريح بالسماع بين راو وشيخه، ولكن يكون ذلك خطأ وليس صوابًا، فلا يحتج بالتصريح بالسماع لمجرد وروده في سند حتى يتأكد من أنه ليس بخطأ، وقد نبه البخاري على بعض من ذلك:

(1) التاريخ الكبير (1/129) ، والتاريخ الصغير (1/43) .

(2)

التاريخ الصغير (1/43) .

(3)

التاريخ الصغير (2/75) .

(4)

التاريخ الصغير (2/74 - 75) ، وسند النص أحمد بن حنبل عن أبي بكر بن عياش عن جميل، فالسند إلى جميل قوي.

ص: 124

قال البخاري: (قال لي ابن حجر: ولد عبد الجبار (1) بعد موت أبيه بستة أشهر، وقال فطر عن أبي إسحاق عن عبد الجبار سمعت أبي، ولا يصح) (2) .

وقال البخاري في سند روي فيه تصريح الحسن البصري بسماعه من أبي هريرة: (ولا يصح سماع الحسن من أبي هريرة)(3) .

وقال البخاري: (أبولقمان سمع أبا هريرة، قال ابن مهدي، وابن صالح نا أبولقمان عن عبد الله عن أبي هريرة، وهذا أصح)(4) . يعني بينه وبين أبي هريرة رجل، ومقتضى هذا أن السماع دخل خطأ.

ولابن رجب كلام طيب حول هذه النقطة، فقد قال: (وكان أحمد يستنكر دخول التحديث في كثير من الأسانيد، ويقول: هو خطأ، يعني ذكر السماع:

قال في رواية هدية عن حماد عن قتادة نا خلاد الجهني: "هو خطأ، خلاد قديم، ما رأى قتادة خلادًا، وذكروا لأحمد قول من قال: عن عراك بن مالك سمعت عائشة فقال: "هذا خطأ" وأنكره، وقال: عراك أين سمع من عائشة؟ إنما يروي عن عروة عن عائشة".

وكذلك ذكر أبوحاتم الرازي: أن بقية بن الوليد كان يروي عن شيوخ ما لم يسمعه، فيظن أصحابه أنه سمعه، فيروون عنه تلك الأحاديث ويصرحون بسماعه لها من شيوخه، ولا يضبطون ذلك.

وحينئذ فينبغي التفطن لهذه الأمور، ولا يغتر بمجرد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد، فقد ذكر ابن المديني أن شعبة وجدوا له غير شيء يذكر فيه الإخبار عن شيوخه، ويكون منقطعًا.

وذكر أحمد أن ابن مهدي حدث بحديث عن هشيم أنا منصور بن زاذان، قال أحمد:"ولم يسمعه هشيم من منصور") (5) .

(1) هو عبد الجبار بن وائل بن حجر الحضرمي.

(2)

التاريخ الكبير (1/69) .

(3)

التاريخ الكبير (2/35) .

(4)

التاريخ الكبير (8/66) .

(5)

شرح علل الترمذي (1/369 - 370) .

ص: 125

ب - موانع غير قادحة:

1-

معارضة أحد الأئمة المتقدمين:

في بعض الأحيان نجد تعارضًا في بعض الأقوال بين البخاري وأحد الأئمة المتقدمين عليه في العمر، فذلك الإمام يقول: فلان لم يسمع من فلان، والبخاري: يقول سمع، وفي هذا ما يدل على أن الإمام البخاري لم يجعل أحكام الأئمة من قبله إذا عارضها الدليل مانعًا تسوغه حجة: لعله بلغهم ما لم يبلغني، ومن الشواهد على ذلك:

أثبت البخاري لمجاهد السماع من علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1) ، بينما أنكر ابن معين ذلك (2) .

وأخرج البخاري في صحيحه (3) لمجاهد عن عائشة عدة أحاديث مثبتًا بذلك سماع مجاهد عن عائشة، وقد قال شعبة، ويحيى بن سعيد القطان، وابن معين، أن مجاهدًا لم يسمع من عائشة (4) .

وأثبت البخاري سماع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه، ونفي ذلك شعبة، قال البخاري:(قال شعبة: لم يسمع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه، وحديث ابن خثيم أولى عندي)(5) .

وهذه الأقوال تثبت إمامة البخاري ومكانته الاجتهادية في العلم.

2-

عدم صحة ما ينفي اللقاء تاريخيًا:

إذا جاء في سند صحيح ما يثبت اللقاء، ولكن هناك ما يعارضه من أقوال المؤرخين غير المعتمدين فإن ما في السند الصحيح يقدم على قول أهل التاريخ

(1) التاريخ الكبير (7/412) .

(2)

المراسيل لابن أبي حاتم (ص161) .

(3)

صحيح البخاري (3/701/ [1776] ) ، كتاب الحج، باب كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث سماع مجاهد لصوت عائشة.

(4)

المراسيل لابن أبي حاتم (ص161-162) .

(5)

التاريخ الصغير (1/99) وفي حديث ابن خثيم إثبات أن عبد الرحمن كان مع أبيه شاهدًا لما أخر الوليد بن عقبة الصلاة.

ص: 126

الذين فيهم نظر، وهذا ما فعله البخاري في حديث مسروق عن أم رومان الذي أخرجه في صحيحه (1)، فقد قال:(وروى علي بن زيد عن القاسم: ماتت أم رومان زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر، وحديث مسروق أسند)(2) ، ويعني البخاري أن تصريح مسروق بلقائه لأم رومان أصح سندًا من قول القاسم أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأن قول القاسم من رواية علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.

وقد طعن غير واحد في حديث مسروق عن أم رومان الذي أخرجه البخاري في صحيحه، ومن هؤلاء ابن السكن، والخطيب البغدادي، والقاضي عياض، والسهيلي، وابن سيد الناس، والمزي، والذهبي (3) ، والعلائي (4)، وحجتهم في ذلك ما ذكره ابن كثير عنهم بقوله:(وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم)(5) .

وممن أيد البخاري ونصره ابن القيم (6)، وكذلك الحافظ ابن حجر الذي قال: (والذي ظهر لي بعد التأمل أن الصواب مع البخاري، لأن عمدة الخطيب ومن تبعه في دعوى الوهم الاعتماد على قول من قال: إن أم رومان ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم سنة أربع وقيل سنة خمس، وقيل ستة ست، وهو شيء ذكره الواقدي، ولا يتعقب الأسانيد الصحيحة بما يأتي عن الواقدي، وذكره الزبير بن بكار بسند منقطع فيه ضعف أن أم رومان ماتت سنة ماتت سنة ست في ذي الحجة، وقد أشار البخاري إلى رد ذلك في تاريخه الأوسط والصغير، فقال بعد أن ذكر أم رومان في فصل من مات في خلافة عثمان: روى علي بن زيد عن القاسم قال ماتت أم رومان في زمن

(1) صحيح البخاري (7/500/ [4143] ) ، كتاب المغازي، باب حديث الإفك، وفيه قال مسروق:"حدثتني أ/ رومان".

(2)

التاريخ الصغير (1/63) .

(3)

فتح الباري (7/503) .

(4)

جامع التحصيل (ص277 - 278) .

(5)

تفسير ابن كثير (5/68) .

(6)

زاد المعاد (3/266-267) .

ص: 127

النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست، قال البخاري: وفيه نظر، وحديث مسروق أسند أي أقوى إسنادًا وأبين اتصالاً) (1) .

3-

دخول واسطة في السند بين من ثبت لهما اللقاء:

معنى الواسطة في السند أن يدخل في سند بين راو وآخر رجل مثل أن يروي عراك بن مالك عن عائشة، ثم يجيء في سند آخر بينهما واسطة فيكون السند هكذا: عراك بن مالك عن عروة بن الزبير عن عائشة، وهذه المسألة لا تخرج عن حالتين:

الحالة الأولى: دخول واسطة في السند بين من ثبت لهما اللقاء.

الحالة الثانية: دخول واسطة في السند بين من لم يثبت لهما لقاء.

ولكل حالة من هاتين الحالتين حكم سأذكره مع الأمثلة من نصوص الإمام البخاري فيما يلي:

الحالة الأولى: دخول واسطة في السند بين من ثبت لهما اللقاء:

دل صنيع البخاري وأقواله على أنه لا يعد دخول الواسطة بين من ثبت لهما اللقاء من الموانع القادحة التي يحتج بها على نفي ثبوت اللقاء، ورد النص المنقول الذي ثبت فيه اللقاء، والشواهد على ذلك من كلامه عديدة، وسأكتفي بذكر الآتي:

أثبت البخاري سماع عبد الله البهي من عائشة (2) رضي الله عنها، وقد ثبت أنه حدث عن عروة بن الزبير عن عائشة (3) ، ،قد أجاب الإمام أحمد بن حنبل لما سئل: عبد الله البهي سمع من عائشة؟ بقوله:

(ما أرى في هذا شيئًا، إنما يروي عن عروة، وقال في حديث زائدة عن السدي عن البهي قال: حدثتني عائشة في حديث الخمرة: وكان عبد الرحمن قد

(1) فتح الباري (7/502) ، وقد فصل ابن حجر الأدلة في الرد على خطأ الخطيب البغدادي ومن تبعه. في هدي الساري (ص392) ، والإصابة (4/450 - 452) ، والتهذيب (12/467 - 468) .

(2)

التاريخ الكبير (5/56) .

(3)

تحفة الأشراف (12/14) وللبهي ثلاثة أحاديث بهذا الإسناد.

ص: 128

سمعه من زائدة، فكان يدع فيه "حدثتني عائشة" وينكره) (1) .

وأثبت البخاري سماع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه (2) ، وقد ثبت أن عبد الرحمن حدث عن مسروق عن عبد الله بن مسعود (3) ، وقد ذهب شعبة، وابن معين في رواية عنه، والحاكم إلى أن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه (4) ، ولعل حجتهم في ذلك أن عبد الرحمن كان صغيرًا عند وفاة والده، ولأنه أدخل في بعض حديثه عن أبيه واسطة.

وأثبت البخاري سماع أبي الزبير من ابن عباس (5) ، وقد ثبت أن أبا الزبير روى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (6) ، وروى عن طاووس عن ابن عباس (7) ، وروى عن مجاهد عن ابن عباس (8) ، ورى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس (9) ، وعن عكرمة عن ابن عباس (10) ، وقد تكلم ابن عيينة، وأبوحاتم الرازي في سماع أبي الزبير من ابن عباس (11) ، ولعل مستندهم أن أكثر حديث أبي الزبير عن ابن عباس جاء بواسطة.

وفي كل الأمثلة السابقة رأينا أن البخاري أثبت سماع أولئك الرواة عن شيوخهم رغم أنهم يدخلون في بعض ما رووه عن أولئك واسطة، وذلك لأن البخاري رحمه الله ثبت عنده لقاء أولئك الرواة بيقين. ولعله يحمل دخول

(1) المراسيل لابن أبي حاتم (ص101) ، وانظر جامع التحصيل (ص218) .

(2)

التاريخ الكبير (5/299) .

(3)

تحفة الأشراف (7/145) روى عبد الرحمن بهذا الإسناد حديثًا واحدًا، والحديث في الصحيحين.

(4)

تهذيب التهذيب (6/215-216) .

(5)

العلل الكبير للترمذي (1/388) .

(6)

تحفة الأشراف (4/441) ، لأبي الزبير بهذا الإسناد أربعة أحاديث.

(7)

تحفة الأشراف (5/27-29) ، لأبي الزبير بهذا الإسناد سبعة أحاديث.

(8)

تحفة الأشراف (5/236) ، لأبي الزبير بهذا الإسناد حديثان.

(9)

تحفة الأشراف (5/99) ، ولأبي الزبير بهذا الإسناد حديث واحد.

(10)

تحفة الأشراف (5/167) ، ولأبي الزبير بهذا الإسناد حديث واحد.

(11)

المراسيل لابن أبي حاتم (ص154) .

ص: 129

الواسطة على تنوع مصادر الرواية، ولا يحمله على تناقض الراوي، والاستدلال بذلك على عدم سماعه من شيخه.

الحالة الثانية: دخول واسطة في السند بين من لم يثبت لهما لقاء:

يختلف موقف الإمام البخاري، وحكمه على هذه الحالة عن حكمه على الحالة الأولى، وقد ثبت لدي أنه يستدل على دخول الواسطة بين من لم يثبت لهما اللقاء على عدم السماع، ومن الشواهد التي تثبت هذا:

قال البخاري: (مكحول لم يسمع من عنبسة، روى عن رجل عن عنبسة عن أم خبيبة "من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة")(1) .

وقال: (لم يسمع الحسن من سلمة بينهما قبيصة بن حريث)(2) .

وقال: (ما أرى يونس بن عبيد سمع من نافع، وروى يونس بن عبيد عن ابن نافع عن أبيه حديثًا)(3) .

وقال: (عمرو بن دينار لم يسمع من البراء، وبينهما عندي رجل)(4) .

وبما سبق يتأكد أن الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - يفرق بين دخول الواسطة في سند ثبت اللقاء بين رواته، ودخول الواسطة في سند لم يثبت اللقاء بين رواته. فبينما يستدل في الحالة الثانية على عدم سماع الراوي، نجده في الحالة الأولى لا يستدل بذلك لأن اللقيا بين الراوي وشيخه صحيحة، ومن الجائز أن يروي الراوي عن شيخ سمع منه، ثم يحدث عن رجل عن ذلك الشيخ الذي ثبت سماعه منه، وبهذا يتقرر حكم البخاري في دخول الواسطة في السند.

(1) العلل الكبير للترمذي (1/160) .

(2)

التاريخ الكبير (4/72) .

(3)

العلل الكبير للترمذي (1/523) .

(4)

العلل الكبير للترمذي (1/476) .

ص: 130