المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: ذكر الأدلة - موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن بين المتعاصرين

[خالد الدريس]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأولتعريف بالإمامين والمسألة

- ‌الفصل الأولتعريف موجز بالبخاري ومسلم

- ‌المبحث الأولتعريف بالأمام البخاري

- ‌المبحث الثاني تعريف بالإمام مسلم

- ‌الفصل الثانيالإسناد المعنعن والاختلاف في الاحتجاج به

- ‌المبحث الأول: تعريف العنعنة

- ‌المبحث الثاني:العنعنة وعلاقتها بالتدليس والانقطاع

- ‌المبحث الثالثالاختلاف في الاحتجاج بالعنعنة

- ‌المبحث الرابعحكم الألفاظ التي بمنزلة "عن

- ‌المبحث الخامسالعنعنة في السند هل هي من الشيخ أم من تصرف التلميذ ومن دونه

- ‌الفصل الثالثتمييز هذه المسألة من المسائل المشاهبة

- ‌المبحث الأول: تمييزها من مسائل عدم الاتصال في السند

- ‌المبحث الثانيتمييزها من مسألة شرط البخاري ومسلم

- ‌الفصل الرابعالجذور التاريخية للمسألة

- ‌الباب الثانيموقف الإمام البخاري

- ‌الفصل الأولعناية البخاري الفائقة بهذه المسألة

- ‌المبحث الأول: تأثر البخاري في هذه المسألة بمن سبقه

- ‌المبحث الثانياهتمام البخاري بالمسألة في مصنفاته

- ‌الفصل الثانيوسائل إثبات اللقاءوالسماع عند الإمام البخاري

- ‌المبحث الأول: هل يكتفي البخاري بثبوت اللقاء أم يشترط التصريح بالسماع

- ‌المبحث الثانيوسائل إثبات اللقاء

- ‌المبحث الثالثشروط الاحتجاج بوسائل اللقاء

- ‌المبحث الرابعكم يكفي لإثبات اللقاء

- ‌المبحث الخامسما يقوم مقام اللقاء

- ‌الفصل الثالثهل عدم ثبوت اللقاء أوالسماع مؤثر في صحة الحديث عند الإمام البخاري

- ‌المبحث الأول: هل ثبوت اللقاء شرط في أعلى الصحة أم في أصل الصحة

- ‌المبحث الثانيهل قوى البخاري أحاديث لم يثبت فيها لقاء أو سماع

- ‌الفصل الرابعما يحتج به للبخاري على اشتراط اللقاء

- ‌الفصل الخامسمنهج البخاري في نصوصه النقدية المتعلقة باشتراط اللقاء

- ‌المبحث الأولوصف لطريقة نقد البخاري لسماعات الرواة

- ‌المبحث الثانيفرز النصوص النقدية

- ‌المبحث الثالثمعالم في النصوص النقدية

- ‌الفصل السادسالعلماء الذين أيدوا البخاريفي هذه المسألة

- ‌الفصل السابعالمأخذ على الإمام البخاري في هذه المسألة

- ‌الباب الثالثموقف الإمام مسلم

- ‌الفصل الأولتحرير الإمام مسلملمحل النزاع مع مخالفه

- ‌المبحث الأول: من الذي عناه مسلم بالرد عليه

- ‌المبحث الثانيعرض الإمام مسلم لرأيه ورأي مخالفه

- ‌الفصل الثانيضوابط الاكتفاء بالمعاصرة عند الإمام مسلم

- ‌المبحث الأول: ثقة الرواة

- ‌المبحث الثانيالعلم والمعاصرة

- ‌المبحث الثالثتحديد المقصود بإمكانية اللقاء

- ‌المبحث الرابعالسلامة من التدليس

- ‌المبحث الخامسعدم وجود ما يدل على نفي السماع أو اللقاء

- ‌الفصل الثالثأدلة الاكتفاء بالمعاصرة عند مسلم وغيره

- ‌المبحث الأول: ذكر الأدلة

- ‌المبحث الثانيمناقشة الأدلة

- ‌الفصل الرابعهل أخرج مسلم في صحيحه أسانيد معنعنةبمجرد الاكتفاء بالمعاصر

- ‌الفصل الخامسهل أخرج مسلم في صحيحه أسانيد تكلم البخاريفيها بعدم ثبوت السماع

- ‌الفصل السادسالعلماء الذين أيدوا مسلمًافي هذه المسألة

- ‌الفصل السابعالمأخذ على الإمام مسلم

- ‌الباب الرابعالموازنة بين الرأيين والترجيح

- ‌الفصل الأولمواطن الاتفاق والاختلاف بين الرأيين

- ‌الفصل الثانيالترجيح وأسبابه

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌المبحث الأول: ذكر الأدلة

‌الفصل الثالث

أدلة الاكتفاء بالمعاصرة عند مسلم وغيره

من العلماء ومناقشتها

‌المبحث الأول: ذكر الأدلة

.

المبحث الثاني: مناقشة الأدلة.

المبحث الأول

ذكر الأدلة

استدل الإمام مسلم لمذهبه في السند المعنعن بأدلة ترجع في حقيقتها إلى ثلاثة أدلة، وهي في واقع الأمر مناقشة لمخالفه وإلزام له ببعض الأمور.

وقد ذكر بعض العلماء المؤيدين لمذهب مسلم أدلة أخرى لم يذكرها لتقوية رأيه في الاكتفاء بالمعاصرة.

وسيكون هذا المبحث مقتصرًا على ذكر الأدلة بالتفصيل وهي تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الأدلة التي ذكرها مسلم.

القسم الثاني: الأدلة التي ذكرها بعض المؤيدين لمسلم.

القسم الأول: الأدلة التي ذكرها مسلم:

لم يرتب الإمام مسلم أدلته بالتسلسل، ولكن الناظر فيها يمكنه حصرها في ثلاثة أدلة. هي:

الدليل الأول: قال الإمام مسلم (فيقال لمخترع هذا القول الذي وصفنا مقالته، أو للذاب عنه: قد أعطيت في جملة قولك أن خبر الواحد الثقة عن الواحد

ص: 355

الثقة حجة يلزم به العمل. ثم أدخلت فيه الشرط بعد فقلت: حتى نعلم أنهما قد كانا التقيا مرة فصاعدًا أو سمع منه شيئًا، فهل تجد هذا الشرط الذي اشترطته عن أحد يلزم قوله؟ وإلا فهلم دليلاً على ما زعمت.

فإن ادعى قول أحد من علماء السلف بما زعم من إدخال الشريطة في تثبيت الخبرة، طولب به، ولن يجد هو ولا غيره إلى إيجاده سبيلا) (1) .

وقال في موضع آخر: (وما علمنا أحدًا من أئمة السلف، ممن يستعمل الأخبار ويتفقد صحة الأسانيد وسقمها، مثل أيوب السختياني وابن عون ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ومن بعدهم من أهل الحديث، فتشوا عن موضع السماع في الأسانيد كما ادعاه الذي وصفنا من قبل.

وإنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته. ويتفقدون ذلك منه كي تنزاح عنهم علة التدليس.

فمن ابتغى ذلك من غير مدلس على الوجه الذي زعم من حكينا قوله، فما سمعنا ذلك عن أحد ممن سمينا، ولم نسم من الأئمة) (2) .

الدليل الثاني: قال مسلم: (فيقال له: فإن كانت العلة في تضعيفك الخبر وتركك الاحتجاج به إمكان الإرسال فيه، لزمك أن لا تثبت إسنادًا معنعنًا حتى ترى في السماع من أوله إلى آخره.

وذلك أن الحديث الوارد علينا بإسناد هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فبيقين نعلم أن هشامًا قد سمع من أبيه وأن أباه قد سمع من عائشة كما نعلم أن عائشة قد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يجوز إذا لم يقل هشام في رواية يرويها عن أبيه: سمعت أو أخبرني أن يكون بينه وبين أبيه في تلك الرواية إنسان آخر أخبره بها عن أبيه، ولم يسمعها هو من أبيه لما أحب أن يرويها مرسلاً ولا يسندها إلى من سمعها منه.

(1) مقدمة صحيح مسلم (1/30) .

(2)

مقدمة صحيح مسلم (1/32-33) .

ص: 356

وكما يمكن ذلك في هشام عن أبيه فهو أيضًا ممكن في أبيه عن عائشة، وكذلك كل إسناد لحديث ليس فيه ذكر سماع بعضهم من بعض.

وإن كان قد عرف في الجملة أن كل واحد منهم قد سمع من صاحبه سماعًا كثيرًا، فجائز لكل واحد منهم أن ينزل في بعض الرواية فيسمع من غيره عنه بعض أحاديثه، ثم يرسله عنه أحيانًا، ولا يسمى من سمع منه، وينشط أحيانًا فيسمى الرجل الذي حمل عنه الحديث ويترك الإرسال.

وما قلنا من هذا موجود في الحديث مستفيض من فعل ثقات المحدثين وأئمة أهل العلم، وسنذكر من رواياتهم على الجهة التي ذكرنا عددًا يستدل بها على أكثر منها إن شاء الله تعالى.

فمن ذلك أن أيوب السختياني وابن المبارك ووكيعًا وابن نمير وجماعة غيرهم رووا عن هشام بن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله ولحرمه بأطيب ما أجد".

فروى هذه الرواية بعينها الليث بن سعد وداود العطار وحميد بن الأسود ووهيب بن خالد وأبوأسامة عن هشام قال أخبرني عثمان بن عروة عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى هشام عن أبيه عن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض".

فرواها بعينها مالك بن أنس عن الزهري عن عروة عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى الزهري وصالح بن أبي حسان عن أبي سلمة عن عائشة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم؟

فقال يحيى بن أبي كثير في هذا الخبر في القبلة: أخبرني أبوسلمة بن عبد الرحمن أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن عروة أخبره أن عائشة أخبرته "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم".

وروى ابن عيينة وغيره عن عمرو بن دينار عن جابر قال: "أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر".

ص: 357

فرواه حماد بن زيد عن عمرو عن محمد بن علي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا النحو في الروايات كثير يكثر تعداده وفيما ذكرنا منها كفاية لذوي الفهم.

فإذا كانت العلة عند من وصفنا قوله من قبل في فساد الحديث وتوهينه إذا لم يعلم أن الراوي قد سمع ممن روى عنه شيئًا إمكان الإرسال فيه لزمه ترك الاحتجاج في قياد قوله برواية من يعلم أنه قد سمع ممن روى عنه. إلا في نفس الخبر الذي فيه ذكر السماع لما بينا من قبل عن الأئمة الذين نقلوا الأخبار، أنهم كانوا لهم تارات يرسلون فيها الحديث إرسالاً ولا يذكرون من سمعوه منه، وتارات ينشطون فيها فيسندون الخبر على هيئة ما سمعوا فيخبرون بالنزول فيه إن نزلوا، وبالصعود إن صعدوا كما شرحنا ذلك عنهم) (1) .

الدليل الثالث: ذكر مسلم أن هناك أسانيد لا يثبت فيها سماع الراوي من المروي عنه وهي عند أئمة الحديث من الأسانيد الصحيحة التي يحتج بها، وذكر أمثلة على ذلك فقال:

(فمن ذلك أن عبد الله بن يزيد الأنصاري - وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد روى عن حذيفة وعن أبي مسعود الأنصاري عن كل واحد منهما حديثًا يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس في روايته عنهما ذكر السماع منهما، ولا حفظنا في شيء من الروايات أن عبد الله بن يزيد شافه حذيفة وأبا مسعود بحديث قط، ولا وجدنا ذكر رؤيته إياهما في رواية بعينها.

ولم نسمع عن أحد من أهل العلم ممن مضى، ولا ممن أدركنا أنه طعن في هذين الخبرين اللذين رواهما عبد الله بن يزيد عن حذيفة وأبي مسعود بضعف فيهما. بل هما وما أشبههما عند من لاقينا من أهل العلم بالحديث من صحاح الأسانيد وقويها يرون استعمال ما نقل بها والاحتجاج بما أتت من سنن وآثار.

وهي في زعم من حكينا قوله من قبل: واهية مهملة حتى يصيب سماع الراوي عمن روى. ولو ذهبنا نعدد الأخبار الصحاح عند أهل العلم - ممن يهن بزعم هذا القائل - ونحصيها لعجزنا عن تقصي ذكرها وإحصائها كلها. ولكنا

(1) مقدمة صحيح مسلم (1/30-32) .

ص: 358

أحببنا أن تنصب منها عددًا يكون سمة لما سكتنا عنه منها.

وهذا أبوعثمان النهدي وأبورافع الصائغ - وهما ممن أدرك الجاهلية وصحبا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البدريين هلم جرا، ونقلا عنهم الأخبار حتى نزلا إلى مثل أبي هريرة وابن عمر وذويهما - قد أسند كل واحد منهما عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا.

ولم نسمع في رواية بعينها أنهما عاينا أبيا أو سمعا منه شيئًا.

وأسند أبوعمر الشيباني وهو ممن أدرك الجاهلية، وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً، وأبومعمر عبد الله بن سخبرة كل واحدة منهما عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرين.

وأسند عبيد بن عمير عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا، وعبيد بن عمير ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأسند قيس بن أبي حازم - وقد أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أخبار.

وأسند عبد الرحمن بن أبي ليلى - وقد حفظ عن عمر بن الخطاب وصحب عليًا - عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا.

وأسند ربعي بن حراش عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين، وعن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا، وقد سمع ربعي من علي بن أبي طالب وروى عنه.

وأسند نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأسند النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري ثلاثة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأسند عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا.

وأسند سليمان بن يسار عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا.

وأسند حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث.

فكل هؤلاء التابعين الذين نصبنا روايتهم عن الصحابة الذين سميناهم لم

ص: 359

يحفظ عنهم سماع علمناه منهم في رواية بعينها، ولا أنهم لقوهم في نفس خبر بعينه.

وهي أسانيد عند ذوي المعرفة بالأخبار والروايات من صحاح الأسانيد لا نعلمهم وهنوا منها شيئًا قط، ولا التمسوا فيها سماع بعضهم من بعض إذ السماع لكل واحد منهم ممكن من صاحبه غير مستنكر لكونهم جميعًا كانوا في العصر الذي اتفقوا فيه) (1) .

القسم الثاني: الأدلة التي ذكرها بعض المؤيدين لمسلم:

ذكر الشيخ المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله، والأستاذ الشيخ عبد الفتاح أبوغدة بعض الأدلة في تأييد الاكتفاء بالمعاصرة لم يذكرها الإمام مسلم رحمه الله فسأذكرها هنا في الدليل الرابع، والخامس، والسادس، لأنها مكملة لما ذكره مسلم.

الدليل الرابع: أن الأصل في الرواية أن تكون عما شاهده الراوي. قال الشيخ المعلمي مبينًا ذلك:

(الأصل في الرواية أن تكون عما شاهده الراوي أو أدركه، فتأمل هذا وافرض أمثلة بريئة عن القرائن من الطرفين.

كأن تكون ببلدة فتسمع برجل غريب جاءها، وبعد أيام تلقاه فيخبرك عن أناس عن أهل تلك البلدة أن فلانًا قال كذا، وفلانًا قال كذا من دون أن يصرح بسماع، ولا علمت لقاءه لهم، ولكنك تعتقد أنه لا مانع له من لقائهم.

ثم توسع في الأمثلة ولاحظ أنها واقعة في عصر التابعين حين لا برق ولا بريد ولا صحافة ولا تأليف، وإنما كان يتلقى من الأفواه، والناس مشمرون لطلب العلم، ولاسيما للقاء أصحاب نبيهم صلى الله عليه وسلم.

ثم لاحظ أنه لم يكن يوجد منهم إلا نادرًا من لم يزر الحرمين، وفيهما يمكن اجتماع الراوي بالمروي عنه إذا كانا متعاصرين، وبهذا يندفع ما يوهمه تباعد البلدين مع عدم اللقاء. فإذا كان الحال ما ذكر وثبت أن أحد المتعاصرين روى عن الآخر بلا تصريح بسماع ولا عدمه كان المتبادر السماع.

(1) مقدمة صحيح مسلم (1/33-35) .

ص: 360

فكيف إذا لاحظت أن كثيرًا من السلف كان يزور الحرمين كل عام فكيف إذا كان أحدهما ساكن أحد الحرمين. فكيف إذا ثبت أن الآخر زارهما، وكذا إذا كان أحد الشخصين ببلد قد زاره الآخر فأما إذا كانا ساكنين بلدًا واحدًا فإنه يكاد يقطع باللقاء.

وزد على هذا أن الإسناد كان شائعًا في عهد السلف لا تكاد تجد أحدًا إلا وهو يقول: عن فلان أن فلانًا أخبره عن فلان مثلاً. مع أن السلف كانوا أهل تثبيت واحتياط.

إذا تقرر هذا فما المانع من الأخذ بهذه الأدلة الظاهرة المحصلة للظن المستوفية لنصاب الحجية.

إن قيل: كان اصطلاح السلف خلاف ما يقتضيه الأصل بدليل شيوع الإرسال فيهم. قلت: أما الإرسال الجلي فمسلم، ولكن أقل من الإسناد كما يعلم بالاستقراء فهو كالمجاز لا يقدح شيوعه في تقديم الحقيقة عليه، وأما الخفي فقليل حتى أنه أقل من التدليس.

فإذا قيل: فإن ذهاب ابن المديني والبخاري - رحمهما الله تعالى - إلى اشتراط اللقاء يدل على شيوع الإرسال الخفي في السلف. قلت: الاستقراء أقوى من هذا الاستدلال مع أن مسلمًا رحمه الله نقل في مقدمة صحيحه الإجماع على عدم اشتراط اللقاء - أي قبلهما - كما أشار إليه بالتشنيع على بعض معاصريه فقيل: إنه أراد به البخاري، ولا مانع من أن يريده وشيخه ابن المديني فقد كان أيضًا معاصرًا له.

فلا يخدش خلافهما وخلاف من عاصرهما أو تبعهما في الإجماع السابق على أن أقل ما يثبت بنقل مسلم أن الغالب في عهد السلف أن تكون الرواية على السماع.

والبخاري وشيخه لا ينكران أن الظاهر من الرواية السماع بدليل تصحيحهما لعنعنة الملاقي غير المدلس، فلولا وفاقهما على أن الظاهر من الرواية السماع لكانا إنما يعتمدان مجرد اللقاء فيلزمهما أن يثبتا لكل من لقي شخصًا أنه سمع منه جميع حديثه. وهذا كما ترى.

ص: 361

وإنما اشترطا ثبوت اللقاء لأن الدلالة معه تكون أقوى وأظهر، وهذا صحيح غالبًا، ولكنه لا يقتضي إهدار الحاصلة مع عدم ثبوت اللقاء مادامت دلالة ظاهرة محصلة للظن مستكملة النصاب كما مر) (1) .

الدليل الخامس: أن الإرسال الخفي أقبح وأشنع من التدليس فلا يجوز اتهام الراوي به لأن الأصل السلامة منه.

قال المعلمي: (الإرسال الخفي أقبح وأشنع من التدليس - كما سيأتي - فالثقة أشد تباعدًا عنه تدينًا وخوفًا من نقد النقاد الذين كانوا يومئذ بالمرصاد بخلاف التدليس فإنه أشد خفاء على الناقد

[وقد قالوا] : بأن احتمال العنعنة لعدم السماع مع ثبوت اللقاء اتهام للراوي بالتدليس، والفرض سلامته منه، بخلاف احتمالها مع عدم ثبوت اللقاء، فإنما فيها اتهامه بالإرسال الخفي قط.

ويرد بأنه قد نقل محققون من أهل الفن أن الإرسال الخفي تدليس، منهم ابن الصلاح والنووي والعراقي وقال:"إنه المشهور بين أهل العلم بالحديث"(2) .

ولنا بحث في تحقيق ذلك والإجابة عما ذكره الحافظ (3) رحمه الله لا حاجة لإثباته هنا لأن الخلاف لفظي للاتفاق على أن في الإرسال الخفي إيهامًا فاتهام الراوي به كاتهامه بالتدليس فإذا اتهمتم الراوي بأنه يرسل خفيًا وإن لم يوصف به فيلزمكم أن تتهموا الراوي بأنه مدلس وإن لم يوصف به فإن قلتم: أن الأصل في الثقة عدم التدليس. قلنا: وكذا الإرسال الخفي.

فإن قلتم: الإيهام في الإرسال الخفي أضعف منه في التدليس فهو أقرب إلى اتصال الثقة به. قلنا: مسلم غالباً، ولكن هذا لا يقتضي أن لا يكون الأصل في الثقة عدم مادام فيه إبهام وتغرير وغش مناف لكمال الثقة مع أن الإبهام في الإرسال الخفي لأمرين كلاهما خلاف الواقع: السماع لذلك الحديث واللقاء.

بخلاف التدليس فإنه وإن دل على الأمرين فاللقاء موافق للواقع فتبين أن

(1) عمارة القبور (ل82-84) .

(2)

انظر التقييد والإيضاح (ص98) .

(3)

انظر النكت على كتاب ابن الصلاح (2/615) .

ص: 362

الإرسال الخفي أقبح وأشنع من التدليس كما قاله ابن عبد البر في التمهيد (1) ، ونحوه ليعقوب بن شيبة انظر فتح المغيث (ص74-75) ، وعليه فالثقة أشد بعدًا عنه تدينًا وخوفًا من نقد النقاد كما مر.

فإذا اتهمتم الثقة به من غير أن يوصف به لزمكم من باب أولى اتهام الثقة بالتدليس، وإن لم يوصف به. فإن قيل: لعل السامع يكون عالمًا لعدم اللقاء فلا إيهام فلا إرسال خفيًا. قلنا: وكذلك لعل السامع يكون عالمًا بعدم السماع مطلقًا أو لذلك الحديث فلا إبهام فلا تدليس.

والتحقيق أنه لو كان الراوي يعلم بعدم اللقاء أو عدم السماع وهو ثقة غير مدلس لبينه لمن يأخذ عنه، ولو فرض أن الثاني كان عالمًا بذلك فاستغنى عن التبيين فيلزم الثاني أن يبينه للثالث وهكذا.

فإذا جاءنا الحديث من رواية الثقات غير الموصوفين بالتدليس والإرسال الخفي إلى ثقة كذلك روى بالعنعنة عمن عاصره وأمكن لقاؤه له، ولم ينص أحد من رجال السند، ولا غيرهم على عدم اللقاء؛ فهو كما إذا جاءنا الحديث من رواية الثقات غير الموصوفين بالتدليس إلى ثقة كذلك روى بالعنعنة عمن لقيه وأمكن سماعه لذلك الحديث منه، ولم ينص أحد من رجال السند أو غيرهم على عدم السماع.

ففي قبول الأول احتمال اللقاء والسماع، وفي رده اتهام الثقة بإيهام اللقاء والسماع قبول الثاني احتمال السماع فقط، وفي رده اتهام الثقة بإبهام السماع فقط فهذه بتلك.

فإذا لاحظنا قلة الإرسال الخفي في السلف، واعتيادهم للإسناد، وخوفهم من نقد النقاد كان الأمر واضح. فكيف إذا اعتبرنا القرائن الدالة على اللقاء كما سبق بيانها أول البحث) (2) .

الدليل السادس: ذكره الشيخ عبد الفتاح أبوغدة على سبيل الإلزام لمن

(1) انظر التمهيد (1/15) ، وابن عبد البر نقل كلامًا لغيره وليس له وانظر التمهيد (1/16-17) .

(2)

عمارة القبور (ل85- 87) .

ص: 363