المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيالترجيح وأسبابه - موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن بين المتعاصرين

[خالد الدريس]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأولتعريف بالإمامين والمسألة

- ‌الفصل الأولتعريف موجز بالبخاري ومسلم

- ‌المبحث الأولتعريف بالأمام البخاري

- ‌المبحث الثاني تعريف بالإمام مسلم

- ‌الفصل الثانيالإسناد المعنعن والاختلاف في الاحتجاج به

- ‌المبحث الأول: تعريف العنعنة

- ‌المبحث الثاني:العنعنة وعلاقتها بالتدليس والانقطاع

- ‌المبحث الثالثالاختلاف في الاحتجاج بالعنعنة

- ‌المبحث الرابعحكم الألفاظ التي بمنزلة "عن

- ‌المبحث الخامسالعنعنة في السند هل هي من الشيخ أم من تصرف التلميذ ومن دونه

- ‌الفصل الثالثتمييز هذه المسألة من المسائل المشاهبة

- ‌المبحث الأول: تمييزها من مسائل عدم الاتصال في السند

- ‌المبحث الثانيتمييزها من مسألة شرط البخاري ومسلم

- ‌الفصل الرابعالجذور التاريخية للمسألة

- ‌الباب الثانيموقف الإمام البخاري

- ‌الفصل الأولعناية البخاري الفائقة بهذه المسألة

- ‌المبحث الأول: تأثر البخاري في هذه المسألة بمن سبقه

- ‌المبحث الثانياهتمام البخاري بالمسألة في مصنفاته

- ‌الفصل الثانيوسائل إثبات اللقاءوالسماع عند الإمام البخاري

- ‌المبحث الأول: هل يكتفي البخاري بثبوت اللقاء أم يشترط التصريح بالسماع

- ‌المبحث الثانيوسائل إثبات اللقاء

- ‌المبحث الثالثشروط الاحتجاج بوسائل اللقاء

- ‌المبحث الرابعكم يكفي لإثبات اللقاء

- ‌المبحث الخامسما يقوم مقام اللقاء

- ‌الفصل الثالثهل عدم ثبوت اللقاء أوالسماع مؤثر في صحة الحديث عند الإمام البخاري

- ‌المبحث الأول: هل ثبوت اللقاء شرط في أعلى الصحة أم في أصل الصحة

- ‌المبحث الثانيهل قوى البخاري أحاديث لم يثبت فيها لقاء أو سماع

- ‌الفصل الرابعما يحتج به للبخاري على اشتراط اللقاء

- ‌الفصل الخامسمنهج البخاري في نصوصه النقدية المتعلقة باشتراط اللقاء

- ‌المبحث الأولوصف لطريقة نقد البخاري لسماعات الرواة

- ‌المبحث الثانيفرز النصوص النقدية

- ‌المبحث الثالثمعالم في النصوص النقدية

- ‌الفصل السادسالعلماء الذين أيدوا البخاريفي هذه المسألة

- ‌الفصل السابعالمأخذ على الإمام البخاري في هذه المسألة

- ‌الباب الثالثموقف الإمام مسلم

- ‌الفصل الأولتحرير الإمام مسلملمحل النزاع مع مخالفه

- ‌المبحث الأول: من الذي عناه مسلم بالرد عليه

- ‌المبحث الثانيعرض الإمام مسلم لرأيه ورأي مخالفه

- ‌الفصل الثانيضوابط الاكتفاء بالمعاصرة عند الإمام مسلم

- ‌المبحث الأول: ثقة الرواة

- ‌المبحث الثانيالعلم والمعاصرة

- ‌المبحث الثالثتحديد المقصود بإمكانية اللقاء

- ‌المبحث الرابعالسلامة من التدليس

- ‌المبحث الخامسعدم وجود ما يدل على نفي السماع أو اللقاء

- ‌الفصل الثالثأدلة الاكتفاء بالمعاصرة عند مسلم وغيره

- ‌المبحث الأول: ذكر الأدلة

- ‌المبحث الثانيمناقشة الأدلة

- ‌الفصل الرابعهل أخرج مسلم في صحيحه أسانيد معنعنةبمجرد الاكتفاء بالمعاصر

- ‌الفصل الخامسهل أخرج مسلم في صحيحه أسانيد تكلم البخاريفيها بعدم ثبوت السماع

- ‌الفصل السادسالعلماء الذين أيدوا مسلمًافي هذه المسألة

- ‌الفصل السابعالمأخذ على الإمام مسلم

- ‌الباب الرابعالموازنة بين الرأيين والترجيح

- ‌الفصل الأولمواطن الاتفاق والاختلاف بين الرأيين

- ‌الفصل الثانيالترجيح وأسبابه

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌الفصل الثانيالترجيح وأسبابه

‌الفصل الثاني

الترجيح وأسبابه

من أصعب الأمور على النفس أن تختار بين أمرين كلاهما حسن. كما هو الحال في ترجيح رأي أحد الإمامين في هذه المسألة، ولكن لابد مما لابد منه، وكلا الرأيين قد قال بهما أئمة كبار، فقد نصر جمع من الأئمة والعلماء رأي الإمام البخاري، كما نصر جمع من الأئمة والعلماء رأي الإمام مسلم، فلا جناح على باحث عن الحق إن رجح أحد الرأيين لأسباب يراها صالحة لترجيح إحدى كفتي الميزان.

ولا يصح ظن البعض أن ترجيح رأي يستلزم القدح والتنقص من الرأي الآخر. وذلك لأن الترجيح هنا في واقع الأمر بين جيد وأجود، وقوي وأقوى، وليس بين رأي قوي وآخر ضعيف، أو رأي جيد وآخر ساقط.

ولا يؤثر في مكانة الإمامين البخاري ومسلم - رحمهما الله - قدح قادح لأن اسميهما قد حفرا في ذاكرة التاريخ، وسكنت محبتهما قلب كل مسلم متتبع لصحيح السنة النبوية، فمن تنقص أحدهما فقد آذى نفسه، ومن قدح في أحدهما كان حقًا على أهله أن يداووه.

فكلاهما في مكانة رفيعة وعالية، غير أنهما ليسا بمعصومين من الخطأ. كما قال الإمام مالك:"كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم ".

وينبني الترجيح على تحديد الإجابة عن سؤالين مهمين:

الأول: ما هي مواطن القوة في الرأيين؟

الثاني: هل كل حديث لا يثبت اللقاء في سنده يترك الاحتجاج به عند من يرجح اشتراط اللقاء؟

الإجابة عن السؤال الأول:

أ - مواطن القوة في رأي البخاري:

1-

إن أدلته أقوى من أدلة مسلم كما ظهر في مناقشة أدلة مسلم -

ص: 479

رحمه الله - فقد ظهر لي أن أدلة مسلم رحمه الله وأدلة بعض المؤيدين لمذهبه غير قوية بعكس أدلة البخاري فهي أقوى. كما يظهر ذلك من فصل أدلة البخاري، وفصل أدلة مسلم.

2-

إن رأيه أحوط لأن اللقاء إذا ثبت غلب على الظن اتصال السند المعنعن بعكس إذا لم يثبت اللقاء فإن احتمال عدم الاتصال يكون واردًا لذا كان في اشتراط اللقاء احتياط من احتمال عدم السماع.

3-

لم يهمل القرائن الدالة على قوة احتمال اللقاء فقد قوى أحاديث لم يثبت في سندها اللقاء لوجود قرائن تدل على أن اللقاء قوي الاحتمال.

4-

مما يقوي رأي البخاري أنه اختيار كبار أئمة النقد المتقدمين كشعبة وابن القطان، وابن المديني، وابن معين، وأحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي وغيرهم.

ب - مواطن القوة في رأي مسلم:

يعتبر رأي مسلم قويًا إذا نظرنا إلى احتمال أن تكون العنعنة في السند من تصوف بعض الرواة، كأن يصرح الثقة المعاصر بالتحديث عن شيخه ثم يأتي أحد رواة السند فيبدل صيغة "حدثنا" بـ "عن" طلبًا للاختصار والتخفيف - كما بينت ذلك في المبحث الخامس، من الفصل الثاني، في الباب الأول -.

ففي الأخذ برأي مسلم وقاية من ترك الاحتجاج بأحاديث ثبوت اللقاء فيها محتمل، ولكن نقلت إلينا بالعنعنة، إذ لا يبعد أن يرد مشترط اللقاء أحاديث صحيحة الاتصال في الأصل تصادف أن بعض الرواة نقلها بالعنعنة وذلك بحجة أن اللقاء لم يثبت في تلك الأحاديث.

الإجابة عن السؤال الثاني:

أن المعمول به عند عدد من كبار الأئمة ممن يشترطون اللقاء أو السماع تقوية إمكانية السماع بين رواة لبعض الأسانيد لم يثبت لهم لقاء أو سماع من بعضهم البعض، ومقتضى هذا أن لا يحكم على تلك الأسانيد بضعف، ولكن يجب التأكيد على أن احتمال اللقاء يكون قويًا لوجود قرائن تدل عليه، ومن ذلك:

ص: 480

الأحاديث التي قواها الإمام البخاري ولم يثبت اللقاء بين بعض رواتها - كما بينت ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني -.

ومما يلحق بذلك أيضًا نص آخر للبخاري يفيد تقوية إمكانية السماع بين راويين متعاصرين لم يثبت بينهما سماع، ولكن احتمال لقائهما يعد قويًا.

قال البخاري: (حدثني عبيدة ثنا عبد الصمد ثنا عبد الله بن بكر بن عبد الله المزني سمعت يوسف بن عبد الله بن الحارث: كنت عند الأحنف بن قيس وهو يوسف ابن أخت محمد بن سيرين.

وعبد الله أبوالوليد روى عن عائشة وأبي هريرة، ولا ننكر أن يكون سمع منها لن بين موت عائشة والأحنف قريب من اثنتي عشرة سنة) (1)(2) .

أبوالوليد هو عبد الله بن الحارث الأنصاري والد يوسف، وهو زوج أخت محمد بن سيرين (3)(4) ، وروايته عن عائشة وأبي هريرة عند مسلم في صحيحه (5)(6) .

وأبوالوليد معاصر لعائشة ولأبي هريرة رضي الله عنهما كما يفيد كلام البخاري هنا، فقد استدل رحمه الله على ذلك بأن يوسف بن عبد الله بن الحارث قد جالس الأحنف بن قيس، ويوسف هو أحد أبناء عبد الله بن الحارث، وبين وفاة عائشة رضي الله عنها والأحنف بن قيس قريب من اثنتي عشرة سنة، فإدراك عبد الله بن الحارث لعائشة رضي الله عنها وقد ماتت قبل أبي هريرة متحقق.

ومما يؤكد قدم عبد الله بن الحارث هذا النص الذي أخرجه البخاري في ترجمته حيث قال:

(قال سليمان: حدثنا حماد عن هشام عن ابن سيرين: حج بنا أبوالوليد عبد الله بن الحارث ونحن ولد سيرين سبعة قمر بنا على المدينة فأدخلنا على

(1) التاريخ الصغير (1/187) . وقد تصفحت كلمة "ننكر" إلى "نفكر" وصححتها من الطبعة الهندية (ص81) ، ومن مخطوطة في الظاهرية للتاريخ الصغير (ق98/أ) .

(2)

(3)

انظر التاريخ الكبير (5/64) .

(4)

انظر صحيح مسلم (1/414) ، (3/1232) .

(5)

التاريخ الكبير (5/65) ، وانظر أيضًا المعرفة والتاريخ (2/58) ، وتاريخ بغداد (5/332) .

(6)

التاريخ الكبير (1/90) ، وتاريخ بغداد (5/333)، وقال الإمام أحمد:(محمد بن سيرين في أبي هريرة لا يقدم عليه أحد) انظر العلل لعبد الله (1/135) .

ص: 481

زيد بن ثابت فقال: هؤلاء ولد سيرين. فقال زيد: هذان لأم، وهذان لأم، وهذا لأم، فما أخطأ) (1)(2) .

ومقتضى هذا النص الصحيح أن يكون عبد الله بن الحارث أكبر من محمد بن سيرين، وسماع ابن سيرين من أبي هريرة متفق عليه بل هو من أصحابه الأثبات (3)(4) .

ويدل قول البخاري: (ولا ننكر أن يكون سمع منهما) على أنه يقوي احتمال سماع عبد الله بن الحارث من عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما ومن المؤكد أن البخاري لو وقف على نص يثبت السماع لما احتاج إلى أن يقول: (ولا ننكر

) ، ومن المؤكد أيضًا أنه لم يضعف حديث عبد الله بن الحارث عنهما وإلا لقال:"لا يعرف سماعه منهما" كما هي عادته.

وقد وقفت على بعض النصوص المنقولة من علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وهم من كبار الأئمة الذين يشترطون اللقاء أو السماع في السند المعنعن، وتدل تلك النصوص على أنهم يقوون في بعض الأحيان إمكانية سماع راو معاصر من آخر مع عدم ثبوت اللقاء أو السماع بينهما، ومن ذلك:

أولاً: ما جاء عن علي بن المديني:

1-

قال علي بن المديني في ترجمة عطاء بن يزيد الشامي: (وقد لقي عطاء بن يزيد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لقي أبا أيوب، وأبا هريرة، وأبا سعيد الخدري، وتميمًا الداري، وأبا شريح الخزاعي، ولا ننكر أن يكون سمع من أبي أسيد)(5)(6) .

وعطاء بن يزيد مدني سكن الشام (7)(8) ، وولد سنة خمس وعشرين، وأما أبو

(1)

(2)

(3)

(4)

(5)

العلل لابن المديني (ص68) .

(6)

انظر تهذيب التهذيب (7/217) .

(7)

انظر الاصابة (4/7-8) .

(8)

ص: 482

أسيد بن ثابت الأنصاري الزرقي المدني فلم أجد من ذكر له تاريخ وفاة (1)(2) ، وهو الذي روى عنه عطاء بن يزيد الشامي.

ويحتمل أن علي بن المديني يرى أن الذي روى عنه عطاء بن يزيد هوأبوأسيد مالك بن ربيعة الساعدي المتوفى سنة أربعين (3)(4) ، فقد ذكر الحافظ ابن حجر أن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وغيرهما. قد أخرجا حديث عطاء في مسند أبي أسيد الساعدي (5)(6) ، ولكن رجح الدارقطني والخطيب البغدادي أنه أبا أسيد - بالفتح (7)(8) -.

والذي يعنينا هنا هو أن علي بن المديني مال إلى تقوية احتمال سماع عطاء بن يزيد من أبي أسيد أو أبي أسيد مع أنه - كما يظهر لي من عباراته - لم يقف على نص يثبت السماع أو اللقاء.

2-

قال علي بن المديني: (أبوبكر بن عبد الرحمن أحد العشرة، أحد الفقهاء، وهو قديم، لقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أنكر أن يكون سمع من صفوان بن المعطل)(9)(10) .

أبوبكر بن عبد الرحمن المخزومي المدني أحد فقهاء المدينة السبعة ولد في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (11)(12) ، وأما صفوان بن المعطل رضي الله عنه فاختلف في وفاته فقيل مات سنة سبعة عشر، وقيل مات في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه (13)(14) -، والظاهر أن علي بن المديني يميل إلى القول الثاني، إذ مقتضى القول الأول أن يكون أبوبكر بن عبد الرحمن لم يدرك صفوان بن المعطل.

(1)

(2)

(3)

سير أعلام النبلاء (2/538) . وقيل في تاريخ وفاته غير ذلك.

(4)

انظر النكت الظراف (9/125) .

(5)

انظر موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي (2/179-182) .

(6)

تاريخ دمشق لابن عساكر (8/346) .

(7)

انظر طبقات ابن سعد (5/207) .

(8)

انظر الإصابة (2/191) .

(9)

(10)

(11)

(12)

(13)

(14)

ص: 483

وهذا النص يفيد أن علي بن المديني يقوي إمكانية سماع أبي بكر بن عبد الرحمن من صفوان بن المعطل، ومع عدم وجود ما يثبت السماع، ورغم ذلك فلم يضعف حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن صفوان بن المعطل.

ثانيًا: ما جاء عن أحمد بن حنبل:

1-

سئل الإمام أحمد هل سمع عمرو بن دينار من سليمان اليشكري؟ فقال: (قتل سليمان في فتنة ابن الزبير، وعمرو رجل قديم قد حدث عنه شعبة عن عمرو عن سليمان، وأراه قد سمع منه)(1)(2) .

وفي هذا النص يقوي الإمام أحمد احتمال سماع عمرو بن دينار من سليمان اليشكري، لاسيما وأن شعبة قد روى حديث عمرو عن سليمان، والغالب أن شعبة يوقف شيوخه على السماع سواء المدلسين منهم وغير المدلسين وقد ولد عمرو بن دينار سنة خمس أو ست وأربعين (3)(4) ، وسليمان اليشكري مات بين السبعين والثمانين (5)(6) .

ولم يأت نص يدل على سماع عمرو من سليمان - فيما أظن - وإلا لقال الإمام أحمد: "نعم سمع عمرو من سليمان"، ويدل على ذلك أن الإمام يحيى بن معين نص على أن عمرو بن دينار لم يسمع من سليمان اليشكري (7)(8) .

ثالثًا: ما جاء عن أبي حاتم الرازي:

1-

قال أبوحاتم: (يشبه أن يكون زيد بن أبي أنيسة قد سمع من عبيد بن فيروز لأنه من أهل بلده)(9)(10) .

وفي هذا النص يقوي أبوحاتم الرازي إمكانية سماع زيد من عبيد بأنهما من

(1) العلل برواية عبد الله بن أحمد (2/250) .

(2)

انظر سير أعلام النبلاء (5/300) .

(3)

انظر تهذيب التهذيب (4/215) .

(4)

تاريخ ابن معين برواية الدوري (2/233) .

(5)

العلل لابن أبي حاتم (2/43) .

(6)

انظر تهذيب التهذيب (3/397) ترجمة زيد، وانظر أيضًا تهذيب التهذيب (7/72) ترجمة عبيد بن فيروز.

(7)

انظر العلل لابن أبي حاتم (2/43) .

(8)

(9)

(10)

ص: 484

نفس البلد إذ كلاهما من الجزيرة وأصلهما من الكوفة (1)(2)، ولو كان السماع ثابتًا عنده لجزم بذلك ولم يقل: "يشبه

".

والحديث الذي قال فيه أبوحاتم ما قال لم ينفرد به زيد بن أبي أنيسة بل له أكثر من متابع (3)(4) .

2-

قال أبوحاتم: (ويحتمل أن يكون أبوإدريس قد سمع من عوف والمغيرة أيضًا فإنه من قدماء تابعي أهل الشام، وله إدراك حسن)(5)(6) .

وعوف هو ابن مالك الأشجعي صحابي توفي سنة ثلاث وسبعين، وقد سكن الشام (7)(8) . والمغيرة بن شعبة صحابي توفي سنة خمسين وقد دخل الشام (9)(10) ، وأما أبوإدريس الخولاني فهو عائذ الله بن عبد الله من كبار التابعين في الشام ولد سنة ثمان عام حنين (11)(12) .

ويظهر من النص السابق أن أبا حاتم لم يجزم بسماع أبي إدريس من عوف والمغيرة رضي الله عنهما، وإنما قوى عنده احتمال أن يكون أبوإدريس قد سمع منهما لقدمه ومكانته.

ومما يندرج ضمن النصوص السابقة ما قاله ابن رشيد والعلائي.

فقد قال ابن رشيد رادًا على الإمام مسلم رحمه الله الأحاديث التي استشهد بها على مخالفه:

(إن هذه أمثلة خاصة لا عامة، جزئية لا كلية، يمكن أن تقترن بها قرائن تفهم اللقاء أو السماع، كمن سميت ممن أدرك الجاهلية ثم أسلم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وصحب البدريين فمن بعدهم. فهذا يبعد فيه ألا يكون سمع ممن روى

(1)

(2)

(3)

(4)

(5)

العلل لابن أبي حاتم (1/40) .

(6)

انظر تهذيب التهذيب (8/168) .

(7)

انظر تاريخ دمشق لابن عساكر (17/65-91) .

(8)

انظر سير أعلام النبلاء (4/272-276) .

(9)

السنن الأبين (ص135) .

(10)

(11)

(12)

ص: 485

عنه. وإن جوزنا أنه لم يسمع منه قلنا: الظاهر روايته عن الصحابة، والإرسال لا يضره) (1)(2) .

(فقد يكون لكل حديث حكم يخصه فيطلع فيه على ما يفهم اللقاء أو السماع، ويثير ظنًا خاصًا في صحة ذلك الحديث، فيصحح اعتمادًا على ذلك لا من مجرد العنعنة، ومثل هذا أيها الإمام لا يقدر على إنكاره وقد فعلت في كتابك مثله من رعي الاعتبار بالمتابعات والشواهد، وذلك مشهور عند أهل الصنعة، فيتبعون ويستشهدون بمن لا يحتمل انفراده، ومثل ذلك لا ينكر في الفقه وأصوله)(3)(4) .

وكلام ابن رشيد يدل على أن ما لم يثبت اللقاء فيه من الأسانيد المعنعنة لا يترك الاحتجاج به إن كانت هناك قرائن تقوي إمكانية السماع، وابن رشيد كما هو معروف من المؤيدين لمذهب البخاري في السند المعنعن.

وقال العلائي في ترجمة حميد بن عبد الرحمن بن عوف: (قال أبوزرعة: حديثه عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما مرسل. قلت: قد سمع من أبيه وعثمان رضي الله عنهما فكيف يكون عن علي مرسلاً وهو معه بالمدينة؟!)(5)(6) .

وقال أيضًا في ترجمة قيس بن أبي حازم: (قال ابن المديني: لم يسمع من أبي الدرداء، ولا من سليمان، وروى عن بلال ولم يلقه، وروى عن عقبة بنعام ولا أدري سمع منه أم لا؟. قلت: في هذا القول نظر فإن قيسًا لم يكن مدلسًا، وقد ورد المدينة عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بها مجتمعون فإذا روى عن أحد الظاهر سماعه منه)(7)(8) .

والعلائي من المؤيدين لمذهب البخاري في السند المعنعن، وهو هنا في هذين النصين يرجح اتصال السند المعنعن إذا حفت به قرائن قوية تجعل إمكانية السماع قوية.

(1)

(2)

(3)

السنن الأبين (ص137) .

(4)

جامع التحصيل (ص168) .

(5)

جامع التحصيل (ص257) .

(6)

(7)

(8)

ص: 486

وقال ابن رجب مبينًا موقفه الشخصي من الأسانيد المعنعنة على مذهب مسلم: (فإن قال قائل: هذا يلزم منه طرح أكثر الأحاديث وترك الاحتجاج بها. قيل: من ههنا عظم ذلك رحمه الله عظم ذلك على مسلم رحمه الله. والصواب أن ما لم يرد فيه السماع من الأسانيد لا يحكم باتصاله، ويحتج به مع إمكن اللقي كما يحتج بمرسل أكابر التابعين كما نص عليه الإمام أحمد)(1)(2) .

وبعد استعراض النصوص السابقة يتبين أن عددًا من كبار الأئمة الذين يشترطون العلم باللقاء أو السماع لاتصال السند المعنعن لم يهملوا القرائن المقوية لاحتمال السماع، ولم يتركوا الاحتجاج بكل حديث لم يثبت اللقاء في سنده إذا كانت هناك قرائن ترجح احتمال السماع على احتمال عدم السماع.

وبالإجابة عن السؤالين السابقين يترجح لي أن مذهب البخاري أقوى من مذهب مسلم، والأصل أن العلم باللقاء ولو مرة شرط لاتصال السند المعنعن، وإذا لم يتوفر العلم باللقاء فلا يعد الحديث منقطعًا، وإنما فيه شبهة عدم اتصال، لذا فهو أعلى من المنقطع، ودون المتصل، فنتوقف على الاحتجاج به لذلك.

فإذا توفرت الأمور التي ذكرها مسلم في الاكتفاء بالمعاصرة وكانت هناك قرائن تقوي احتمال السماع فالأولى الأخذ بها ويحتج بذلك السند الذي لم يثبت فيه اللقاء، والقرائن متعددة ومتنوعة ويصعب حصرها وضبطها، ويظهر لي استخلاصًا مما تقدم من مناقشات في هذا البحث أن أهم القرائن:

1-

أن تكون فترة المعاصرة طويلة نسبيًا - بحيث يغلب على الظن استبعاد احتمال عدم اللقاء - مع اتحاد بلد الراويين كأن يكون كلاهما من المدينة أو من البصرة.

قال الشيخ المعلمي: (إذا كان وقوع اللقاء ظاهرًا بينًا فلا محيص عن الحكم بالاتصال، وكذلك كمدني روى عن عمر، ولم يعلم لقاؤه له نصًا، لكنه ثبت أنه ولد قبل وفاة عمر بخمس عشر سنة مثلاً فإن الغالب الواضح أن يكون قد شهد خطبة عمر في المسجد مرارًا.

فأما إذا كان الأمر أقوى من هذا كرواية قيس بن سعد المكي عن عمرو بن

(1) شرح علل الترمذي (1/373-374) .

(2)

ص: 487

دينار فإنه يحكم باللقاء حتمًا، والحكم به في ذلك أثبت بكثير من الحكم به لشامي روى عن يمان لمجرد أنه وقع في رواية واحدة التصريح بالسماع) (1)(2) .

وقال أيضًا في معرض كلامه عن القرائن الدالة على اللقاء: (وكذا إذا كان أحد الشخصين ببلد قد زاره الآخر فأما إذا كانا ساكنين بلدًا واحدًا فإنه يكاد يقطع باللقاء)(3)(4) .

2-

إذا روى الثقة المعاصر عن أحد أقاربه كأحد والديه أو إخوته فإن هذا مما يغلب على الظن وجود السماع فيه.

ومن الأمور المقوية لأحاديث غير المدلسين من الثقات المعاصرين الذين لم يثبت لهم اللقاء:

1-

وجود متابع ثقة يروي عن نفس الشيخ.

2-

وجود شواهد صحيحة لنفس الحديث الذي يرويه.

3-

أن يكون الراوي معروفًا بأن شيوخه كلهم ثقات.

وإنما قبلت الاحتجاج بالسند الذي لم يثبت فيه اللقاء إذ توفرت فيه إحدى القرائن القوية مع العلم بالمعاصرة والسلامة من التدليس وعدم وجود ما يدل على الانقطاع لما يلي:

أولاً: صنيع الإمام البخاري وابن المديني وأحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي فقد قووا بعض الأحاديث والأسانيد التي لم يثبت فيها اللقاء - كما تقدم بيان ذلك قبل قليل -.

ثانيًا: إن تصرف التلاميذ ومن دونهم في صيغ الأداء - أحيانًا - وميلهم إلى استخدام العنعنة لخفة ذلك عليهم يجعل من الضروري اعتماد القرائن لاحتمال أن يكون الراوي صرح بسماعه من شيخه وجاء أحد رواة السند وأبدل صيغة السماع بعنعنة لذا كان لابد من اعتماد القرائن.

ثالثًا: إن اشتراط اللقاء في السند المعنعن يراد منه رفع احتمال عدم الاتصال فإذا كان احتمال الاتصال أقوى من احتمال عدمه ترجح الجانب الأقوى. واشتراط

(1) التنكيل (1/84) .

(2)

عمارة القبور (ل8) .

(3)

(4)

ص: 488

اللقاء ليس غاية في ذاته وإنما هو احتياط خشية أن يكون هناك انقطاع، ومن الخطأ أن تعامل كل الأسانيد التي لم يثبت فيها اللقاء معاملة واحدة.

هذا هو الراجح - في نظري -: أن العلم باللقاء ولو مرة شرط لاتصال السند المعنعن كما هو مذهب ابن المديني والبخاري وغيرهما من الأئمة، ولكن ذلك لا يمنع من الاحتجاج بالحديث إذا توفرت فيه إحدى القرائن المقوية لاحتمال السماع مع المعاصرة والسلامة من التدليس وعدم وجود ما يدل على الانقطاع.

أما الحكم بالاتصال على السند المعنعن لمطلق المعاصرة، كما هو مذهب الإمام مسلم، فلا أميل إليه لأن احتمال السماع، واحتمال عدم السماع متساويان في هذه الحالة ولا يكفي - في نظري - ترجيح احتمال السماع بمجرد المعاصرة وأن اللقاء ممكن.

وبما رجحته أكون قد اخترت راي الإمام البخاري رحمه الله، وبعض رأي الإمام مسلم رحمه الله وذلك باختياري لأقوى مراتب إمكان اللقاء عنده.

ولاشك أن رأي الإمام مسلم رحمه الله له وجاهته ولا يخلو من قوة، ولكن الأمر كما قلت في أول هذا المبحث إن الترجيح ليس بين رأيين أحدهما قوي والآخر ساقط وإنما بين رأي قوي وآخر قوى، ورحم الله الإمام الشافعي الذي قال:(رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) ، وحري بنا أن نتأدب بأدب هذا الإمام الفذ.

هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

ص: 489