الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
تحديد المقصود بإمكانية اللقاء
ورد في كلام مسلم عندما نقل اتفاق أهل الحديث على الاحتجاج بالسند المعنعن إذا رواه ثقة عن مثله قوله: (وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه، لكونهما جميعًا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام
…
) (1) .
وظاهر كلام مسلم هذا أن مجرد ثبوت المعاصرة كاف لإمكان اللقاء، وأن معنى إمكان اللقاء هو ثبوت المعاصرة فقط، ولكن ذكر مسلم نصًا آخر يختلف عما سبقه إذ قال في معرض بيانه أن المخالف لم يحتج بـ (كل إسناد لحديث فيه فلان عن فلان، وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به
…
) (2) .
فهنا فرق مسلم بين العلم بالمعاصرة وجواز اللقاء فجعله زائدًا على العلم بالمعاصرة كما يقيده سياق النص، وإلى هذا ذهب العلائي والصنعاني في تحديدهما لمذهب مسلم في الحديث المعنعن.
فقال العلائي: (والقول الرابع: أنه يكتفي بمجرد إمكان اللقاء دون ثبوت أصله فمتى كان الراوي بريئًا من تهمة التدليس، وكان لقاؤه لمن روى عنه بالعنعنة ممكنًا من حيث السن والبلد كان الحديث متصلاً، وإن لم يأت أنهما اجتمعا قط، وهذا قول الإمام مسلم)(3) .
وكلام العلائي يفيد أن هناك أمر زائد على ثبوت المعاصرة، وهو أن يكون اللقاء ممكنًا من حيث بلد الراويين المعنعن، والمعنعن عنه: فإما أن يكونا من نفس البلد، أو تكون بلادهما متقاربة، أو يعلم دخولهما لبلد معين في زمن
(1) مقدمة صحيح مسلم (1/29-30) .
(2)
مقدمة صحيح مسلم (1/29) .
(3)
جامع التحصيل (ص117) .
متقارب. ويفهم من كلام العلائي أن تباعد البلاد لا يجعل اللقاء ممكنًا.
وقال الصنعاني: (على أن المعاصرة لا تكفي مطلقًا بأن يكون أحدهما في بغداد، والآخر في اليمن، بل لابد من تقارب المحلات ليمكن اتصال الرواة)(1) .
والذي قاله العلائي والصنعاني في فهم كلام الإمام مسلم ملح نظر لما يلي:
1-
إن اشتراط تقارب البلاد أو إمكان اللقاء بالنظر إلى بلاد المعنعن والمعنعن عنه لم ينص عليه الإمام مسلم في كلامه الوارد في مقدمة "صحيحه".
2-
حدد مسلم رحمه الله المقصود بإمكان اللقاء في سياق كلامه في موضعين من "المقدمة" فقد قال: (وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه، لكونهما جميعًا كانا في عصر واحد)(2) .
وقال بعد إخراجه للأسانيد التي صححها العلماء واللقاء غير ثابت بين رواتها من التابعين والصحابة: (إذ السماع لكل واحد منهم ممكن من صاحبه غير مستنكر، لكونهم جميعًا كانوا في العصر الذي اتفقوا فيه)(3) .
ففي هذين النصين اللذين يتضح من سياقهما أن اللقاء عند مسلم إنما يصبح ممكنًا بسبب ثبوت المعاصرة فقط.
3-
إن قول مسلم عن المخالف له بأنه رد ولم يحتج بكل حديث معنعن (وقد أحاط العلم بأنهما قد كطان في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به)(4) . لا يدل على تقارب بلاد المتعاصرين، وإنما يدل على جواز السماع من بعضهما مطلقًا لعدم وجود مانع يمنع ذلك الجواز ويجعله مستبعدًا. ثم إن أقوى أنواع تفسير النصوص وإزالة اللبس عنها يكون بنفس كلام صاحب النص المراد تفسيره، وقد مر معنا أن مسلمًا وضح أن معنى إمكانية اللقاء وجواز السماع لكون المعنعن والمعنعن عنه في عصر
(1) توضيح الأفكار (1/43) .
(2)
مقدمة صحيح مسلم (1/29-30) .
(3)
مقدمة صحيح مسلم (1/35) .
(4)
مقدمة صحيح مسلم (1/29) .
واحد، ولم يزد على ذلك شيئًا آخر.
4-
احتج مسلم في صحيحه بأحاديث، وجدنا فيها المعنعن والمعنعن عنه من بلدين مختلفين متباعدين، ومن ذلك:
أخرج مسلم في صحيحه حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة مرفوعًا في أن أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم (1) .
وحميد بن عبد الرحمن الحميري بصري، وأبوهريرة رضي الله عنه مدني، وقد ذكر مسلم في المقدمة (2) حديث حميد عن أبي هريرة من ضمن الأحاديث التي لا يعلم فيها لقاء التابعي للصحابي.
وأخرج مسلم في صحيحه أيضًا حديث عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة مرفوعًا في فضل صوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء (3) .
وعبد الله بن معبد بصري، وأبوقتادة مدني، وقد نص البخاري على أنه لا يعرف لعبد الله بن معبد سماع من أبي قتادة (4) .
وأخرج مسلم في صحيحه أيضًا حديث أبي أيوب يحيى بن مالك المراغي عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا في مواقيت الصلاة (5) .
وأبوأيوب المراغي بصري، وعبد الله بن عمرو العاص تنقل بين الشام ومصر والطائف، ومات في مصر - على الصحيح (6) -، وقد قال المنذري:(أبوأيوب ثقة ما أراه سمع عبد الله)(7) .
واحتجاج مسلم بهذه الأحاديث مما يدل على أن المقصود بإمكان اللقاء ليس
(1) صحيح مسلم (2/821) .
(2)
مقدمة صحيح مسلم (1/35) .
(3)
صحيح مسلم (2/818) .
(4)
التاريخ الكبير (3/68) .
(5)
صحيح مسلم (1/426) .
(6)
تهذيب التهذيب (5/338) .
(7)
الترغيب والترهيب (1/282) .
تقارب البلاد وإنما أن يكون اللقاء محتملاً وغي مستبعد، ولاحظ دلالة قوله:"فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا" فإنه فسر الإمكان لكونهما في عصر واحد.
فالراجح أن معنى إمكانية اللقاء عند مسلم ليست تقارب البلاد، وإنما اتفاق العصر. فاللقاء يكون ممكنًا أو متباعدة مادام اللقاء محتملاً وغير مستبعد مع مراعاة الضوابط الأخرى، وهذا الذي يدل عليه قول مسلم:(أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثًا، وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه، لكونهما جميعًا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام، فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئًا. فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبدًا حتى تكون الدلالة التي بينا)(1) .
وما رجحته هو ظاهر كلام ابن حجر، والمعلمي.
فقد قال ابن حجر: (واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة)(2) .
وقال المعلمي مبينًا أن تباعد البلاد غير ضار في قبول معنعن المتعاصرين: (ثم لاحظ أنه لم يكن يوجد منهم - أي التابعين - إلا نادرًا من لم يزد الحرمين، وفيهما يمكن اجتماع الراوي بالمروي عنه إذا كانا متعاصرين، وبهذا يندفع ما يوهمه تباعد البلدين مع عدم اللقاء.
فإذا كان الحال ما ذكر، وثبت أن أحد المتعاصرين روى عن الآخر بلا تصريح بسماع، ولا عدمه كان المتبادر السماع. فكيف إذا لاحظت أن كثيرًا من السلف كان يزور الحرمين كل عام فكيف إذا كان أحدهما ساكن أحد الحرمين فكيف إذا ثبت أن الآخر زارهما، وكذا إذا كان أحد الشخصين ببلد قد زاره الآخر.
فأما إذا كانا ساكنين بلدًا واحدًا فإنه يكاد يقطع باللقاء) (3) .
يشهد لذلك قول أيوب: (كانوا يحجون للقي)(4) .
(1) مقدمة صحيح مسلم (1/29-30) .
(2)
نزهة النظر (ص31) .
(3)
عمارة القبور للمعلمي (ل83) .
(4)
العلل لأحمد (2/324) تحقيق د. وصي الله عباس.
وقد بين المعلمي رحمه الله أن احتمال اللقاء يكون على ثلاث درجات من حيث القوة في قوله:
(المعاصرة المعتد بها على قول مسلم ضبطها بقوله: "كل رجل ثقة روى عن مثله حديثًا وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه لكونهما كانا في عصر واحد
…
" وجمعه بين "جائز وممكن" يشعر بأن المراد الإمكان الظاهر الذي يقرب في العادة والأمثلة التي ذكرها مسلم واضحة في ذلك.
والمعنى يؤكد هذا فإنه قد ثبت ن الصيغة - يعني "عن" - بحسب العرف - ولاسيما عرف المحدثين، وما جرى عليه عملهم - ظاهرة في السماع (1) فهذا الظهور يحتاج إلى دافع.
فمتى لم يعلم اللقاء فإن كان مع ذلك مستبعدًا، الظاهر عدمه، فلا وجه للحمل على السماع لأن ظهور عدم اللقاء يدافع ظهور الصيغة، وقد يكون الراوي عند ظهور عدم اللقاء قرينة على أنه لم يرد صيغة السماع.
وإن احتمل اللقاء احتمالاً لا يترجح أحد طرفيه فظهور الصيغة لا معارض له.
فأما إذا كان وقوع اللقاء ظاهرًا بينًا فلا محيص عن الحكم بالاتصال، وذلك كمدني روىعن عمر، ولم يعلم لقاؤه له نصًا لكنه ثبت أنه ولد قبل وفاة عمر بخمس عشرة سنة مثلاً فإن الغالب الواضح أن يكون قد شهد خطبة عمر في المسجد مرارًا.
فأما إذا كان الأمر أقوى من هذا كرواية قيس بن سعد المكي عن عمرو بن دينار فإنه يحكم باللقاء حتمًا، والحكم به في ذلك أثبت بكثير من الحكم به لشامي
(1) هذا فيه نظر لأن الصيغة "عن" استخدمت في الأسانيد غير المتصلة بكثرة، وهي تحتمل السماع بقرائن، وتدل عليه بشروط، أما مجردة من القرائن والشروط، فهي غير ظاهرة في السماع لاحتمالها الاتصال وعدمه ولا مرجح لأحدهما. قال السخاوي في فتح المغيث (1/167) :("عن" لا إشعار لها بشيء من أنواع التحمل، ويصح وقوعها فيما هو منقطع، كما إذا قال الواحد منا مثلاً عن رسول الله أو عن أنس أو نحوه) .
روى عن يمان لمجرد أنه وقع في رواية واحدة التصريح بالسماع) (1) ، وذلك لكون (قيس ولد بعد عمرو، ومات قبله، وكان معه بمكة، وسمع كل منهما من عطاء، وطاووس، وسعيد بن جبير، ومجاهد وغيرهم، وكان عمرو لا يدع الخروج إلى المسجد الحرام، والقعود فيه إلى أن مات، كما تراه في ترجمته من "طبقات ابن سعد" (2) ، وكان قيس قد خلف عطاءًا في مجلسه كما ذكره "ابن سعد"(3) أيضًا، وسمع عمرو من ابن عباس، وجابر، وابن عمر، وغيرهم ولم يدركهم قيس.
فهل يظن بقيس أنه لم يلق عمرًا، وهو معه بمكة منذ ولد قيس إلى أن مات؟! أو لم يكونا يصليان معًا في المسجد الحرام الجمعة والجماعة؟! أو لم يكونا يجتمعا في حلقة عطاء وغيره في المسجد، ثم كان لكل منهما حلقة في المسجد قد لا تبعد إحدى الحلقتين عن الأخرى إلا بضعة أذرع. أو يظن بقيس أنه استنكف من السماع من عمرو لأنه قد شاركه في صغار مشايخه ثم يرسل عنه إرسالاً؟!) (4) .
وبما تقدم من كلام الشيخ المحقق عبد الرحمن المعلمي نعلم أن "إمكانية اللقاء" بين المعنعن والمعنعن عنه التي يحتج بها الإمام مسلم على درجتين:
الدرجة الأولى: أن يكون اللقاء ممكنًا جدًا لقوة القرائن التي من أهمها اشتراك المتعاصرين في البلدة نفسها التي ينتمي لها كل واحد منهما.
الدرجة الثانية: أن يكون اللقاء ممكنًا ومحتملاً لا يترجح أحد طرفيه لا الثبوت، ولا العدم، ويكون المعنعن غير مدلس يترجح - عند مسلم - احتمال اللقاء على عدمه.
ومما يحسن التنبيه عليه هنا أن الأئمة الذين لا يكتفون بالمعاصرة، ويشترطون ثبوت السماع يرون تباعد البلاد بين المتعاصرين قرينة على عدم
(1) التنكيل (1/83-84) .
(2)
انظر طبقات ابن سعد (5/479-480) .
(3)
انظر طبقات ابن سعد (5/483) .
(4)
التنكيل (2/165) .