الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب الرجل يتحرك سِنُّه هل يَشُدُّها بالذهب أم لا
؟
ش: أي هذا الباب باب في بيان حكم الرجل الذي يتحرك سِنُّه، هل يجوز له أن يشدها بالذهب أم لا؟
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: قد اختلف الناس في الرجل يتحرك سنه، فيريد أن يشدها بالذهب، فقال أبو حنيفة: ليس له ذلك، وله أن يشدها بالفضة. وقال محمَّد بن الحسن: لا بأس إن شدها بالذهب كذلك.
حدثنا محمد بن العباس، قال: ثنا على بن معبد، عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، وقال أصحاب الإملاء -منهم: بشر بن الوليد-: عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة: أنه لا بأس أن يشدها بالذهب.
وقال محمَّد بن الحسن: لا بأس أن يشدها بالذهب، فكان من الحجة لأبي حنيفة في قوله الذي رواه محمَّد، عن أبي يوسف عنه: أنه قد نهي عن الذهب والحرير، فنهي عن استعمالهما، فكان ما نهي عنه من الحرير يدخل فيه لباسه وعصب الجراح به، فكذلك ما نهي عنه من استعمال الذهب يدخل فيه شد السن به.
وكان من الحجة لمحمد فيما ذهب إليه من ذلك على أبي حنيفة في روايته عن أبي يوسف عنه: أن ما ذكر من تعصيب الجراح بالحرير إن كان مما فعل لأنه علاج للجراح فلا بأس به؛ لأن ذلك دواء، كما أباح رسول الله عليه السلام للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما لبس الحرير من الحكة التي كانت بهما، فكذلك عصائب الحرير إن كانت علاجا للجرح لتقِلَّ مدته، كما الثوب الحرير علاج للحكة؛ فلا بأس بها، وإن لم تكن علاجا للجرح [وكانت](1) هي وسائر العصائب في ذلك سواء؛ فهي مكروهة.
(1) في "الأصل، ك": "كانت"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
فكذلك ما ذكرنا من الذهب، إن كان يراد منه لأنه لا ينتن كما تنتن الفضة فلا بأس به.
ش: اختلف الناس في شد السن المتحركة بالذهب؛ فقالت جمهور العلماء -منهم: إبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان، ونافع بن جبير، والحسن البصري، وثابت البناني، وموسى بن طلحة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد: يجوز ذلك.
قال الترمذي (1): وقد روي عن غير واحد من أهل العلم أنهم شدوا أسنانهم بالذهب، وفي حديث عرفجة بن أسعد حجة لهم.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك، وهو رواية عن أبي يوسف.
وقال صاحب "البدائع": وأما شد السن المتحركة بالذهب فقد ذكر الكرخي أنه يجوز، ولم يذكر فيه خلافًا، وذكر في "الجامع الصغير" أنه يكره عند أبي حنيفة، وعند محمَّد لا يكره، ولو شدها بالفضة لا يكره بالإجماع.
وكذا لو جُدِعَ أنفه فاتخذ أنفا من ذهب لا يكره بالاتفاق؛ لأن الأنف تنتن بالفضة، فلابد من اتخاذه بالذهب، فكان فيه ضرورة، فسقط اعتبار حرمته.
وقال المنذري: في حديث عرفجة: استعمال اليسير من الذهب للرجال عند الضرورة كربط الأسنان به وما جرى مجراه، مما لا يجري فيه غير مجراه.
وقيل: يبتني عليه أن الطبيب إذا قال للعليل: من منافعك طبخ غذائك في آنية الذهب؛ جاز له ذلك.
قوله: "عصائب الحرير" جمع عصابة وهي التي تشد بها الجراحة.
قوله: "لتقل مَدَّتُه" بفتح الميم، وهو الذي يسيل من الجراحة.
قوله: "ينتن" من الإنتان. فافهم.
(1)"جامع الترمذي"(4/ 240 رقم 1770).
ص: وقد أباح رسول الله عليه السلام لعرفجة بن أسعد أن يتخذ أنفًا من ذهب.
حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا أبو الأشهب، (ح).
وحدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا حسان بن عبيد الموصلي، قال: ثنا أبو الأشهب، (ح).
وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرفة، عن جده عرفجة بن أسعد:"أنه أصيب أنفه يوم الكلاب في الجاهلية، فاتخذ أنفًا من ورق فأنتن عليه، فشكى ذلك إلى النبي عليه السلام، فأمره أن يتخذ أنفًا من ذهب ففعل".
حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد والخصيب بن ناصح وأسد بن موسى، قالوا: ثنا أبو الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرفة، عن عرفجة. . . . مثله.
فقد أباح رسول الله عليه السلام لعرفجة بن أسعد أن يتخذ أنفًا من ذهب إذا كان لا ينتن كما تنتن الفضة، فلما كان ذلك كذلك في الأنف، كان كذلك السن لا بأس بشدها بالذهب إذا كان لا ينتن، فيكون النتن الذي يكون من الفضة مبيحًا لاستعمال الذهب، كما كان النتن الذي يكون منها في الأنف مبيحًا لاستعمال الذهب مكانها؛ فهذه حجة.
ش: ذكر حديث عجرفة رضي الله عنه شاهدًا لصحة قول محمَّد بن الحسن الذي عليه الجمهور.
وأخرجه من أربع طرق حسنة:
الأول: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال الأنماطي، عن أبي الأشهب جعفر بن حيان العطاردي، عن عبد الرحمن بن طرفة، عن جده عرفجة بن أسعد.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن عبد الله الخزاعي -المعني- قالا: ثنا أبو الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرفة:"أن جده عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفًا من وَرِقٍ فأنتن عليه، فأمره النبي عليه السلام فاتخذ أنفًا من ذهب".
الثاني: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن حسان بن عبيد الموصلي عن أبي الأشهب. . إلى آخره.
وأخرجه الترمذي (2): ثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا علي بن هاشم بن البريد، وأبو سعيد هو الصنعاني، عن أبي الأشهب، عن عبد الرحمن بن طرفة، عن عرفجة بن أسعد، قال:"أصيبت أنفي يوم الكلاب في الجاهلية، فاتخذت أنفًا من وَرِق فأنتن عليّ، فأمرني رسول الله عليه السلام أن أتخذ أنفًا من ذهب".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري ومسلم، عن أبي الأشهب. . إلى آخره.
وأخرجه النسائي (3): أنا محمَّد بن معمر، عن حبان، عن مسلم بن زرير، قال: ثنا عبد الرحمن بن طرفة، عن جده عرفجة، نحوه.
وأخرجه (4) عن قتيبة، عن يزيد بن زريع، عن أبي الأشهب. . إلى آخره نحوه.
الرابع: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي الثقفي، والخصيب بن ناصح الحارثي، وأسد بن موسى، ثلاثتهم عن أبي الأشهب العطاردي. . إلى آخره.
(1)"سنن أبي داود"(4/ 92 رقم 4232).
(2)
"جامع الترمذي"(4/ 240 رقم 1770).
(3)
"المجتبى"(8/ 163 رقم 5161).
(4)
"المجتبى"(8/ 164 رقم 5162).
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1)، والطبراني في "معجمه"(2)، وابن أبي شيبة في "مصنفه"(3).
قوله: "يوم الكُلاب" بضم الكاف وتخفيف اللام، وبالباء الموحدة، موضع كان فيه يومان من أيام العرب المشهورة: الكُلاب الأول، والكُلاب الثاني واليومان في موضع واحدٍ.
وقيل: هو ماء بين الكوفة والبصرة، على سبع أميال من اليمامة، وكانت به وقعة في الجاهلية.
والكلاب أيضًا اسم وادٍ بثهلان لبني العرجاء، من بني نمير، به نخل ومياه.
قوله: "من وَرِق" بفتح الواو وكسر الراء.
ص: وفي ذلك حجة أخرى: أنا رأينا استعمال الفضة مكروهًا كما استعمال الذهب مكروه، فلما كانا مستويين في الكراهة، وقد عمهما النهي جميعًا، وكان شد السن بالفضة خارجًا من الاستعمال المكروه، كان كذلك شدها بالذهب أيضًا خارجا من الاستعمال المكروه.
ش: أي: وفي جواز شد السن المتحركة بالذهب حجة أخرى من حيث النظر والقياس، وهو ظاهر.
ص: فإن قال قائل: فقد رأينا خاتم الفضة أبيح للرجال ومنعوا من خاتم الذهب، فقد أبيح لهم من الفضة ما لم يبح لهم من الذهب!
قيل له: قد كان النظر لو خُلِّينا نحن هو إباحة خاتم الذهب للرجال كخاتم الفضة، ولكنا منعنا من ذلك، وجاء النهي عن خاتم الذهب نصًّا، فقلنا به وتركنا له النظر، ولولا ذلك لجعلناه في الإباحة كخاتم الفضة، فكذلك شد السن لما أبيح
(1)"مسند أحمد"(4/ 342 رقم 19028)
(2)
"المعجم الكبير"(17/ 146 رقم 370).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 205 رقم 2526).
بالفضة ثبت أن شدها بالذهب كذلك، حتى يأتي في التفريق بين ذلك سنة يجب لها ترك النظر كما جاء في خاتم الذهب سنة نهت عنه، وقامت بها الحجة، ووجب لها ترك النظر، فثبت بما ذكرنا ما قاله محمَّد.
ش: هذا السؤال وارد على وجه النظر، تقريره أن يقال: قياس شد السن بالذهب على شدها بالفضة لكون كل منهما خارجًا من الاستعمال المكروه غير صحيح، لأنا رأينا قد أبيح استعمال خاتم الفضة للرجال ولم يبح لهم استعمال خاتم الذهب، فقد أبيح لهم من الفضة ما لم يبح لهم من الذهب، فكذلك يباح شد السن بالفضة ولا يباح شدها بالذهب.
وتقرير الجواب: أن يقال: إن القياس كان يقتضي إباحة خاتم الذهب للرجال كخاتم الفضة لو سلم القياس من النهي الوارد فيه، فلما جاء النهي عن استعمال خاتم الذهب للرجال ترك النظر؛ لأنه قد عُلِمَ أن القياس في مقابلة النص فاسد، ولولا ورود النهي كان حكمه حكم الفضة، فكذلك شد السن لما أبيح بالفضة أبيح بالذهب أيضًا لكونهما خارجين عن حد الاستعمال المكروه، ولا يترك هذا الحكم حتى يوجد نص يفرق بينهما ويترك به القياس، فلما لم يُوجد نَصٌّ فيه؛ بقي على أصل القياس، فإذا ثبت هذا ثبت ما ذهب إليه محمَّد؛ فافهم.
قوله: "لو خلينا" على صيغة المجهول.
قوله: "هو إباحة خاتم الذهب" خبر لقوله: "قد كان النظر".
قوله: "وتركنا له النظر" أي وتركنا لأجل النهي النظر، وهو القياس.
ص: فإن قال قائل: ما الذي روي في النهي عن خاتم الذهب؟
قيل: قد رويت عنه عليه السلام آثار متواترة جاءت مجيئًا صحيحًا، وسنذكرها في باب النهي عن خاتم الذهب إن شاء الله تعالى.
ش: السؤال والجواب ظاهران، وأراد بقوله "متواترة": متكاثرة، ولم يرد به التواتر المصطلح عليه.
ص: وقد روي عنه جماعة من المتقدمين إباحة شد الأسنان بالذهب فمن ذلك:
ما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان وموسى بن داود، قالا: ثنا طعمة بن عمرو، قال:"رأيت صفرة الذهب بين ثنايا -أو قال: بين ثنيتي- موسى بن طلحة".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن سليمان، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، قال:"رأيت الحسن يشد أسنانه بالذهب، فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: لا بأس به".
حدثنا (1) سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، قال:"رأيت أبا التياح وأبا حمزة وأبا نوفل بن أبي عقرب قد ضببوا أسنانهم بالذهب".
حدثنا سليمان، قال: ثنا الخصيب، قال:"رأيت عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة قد شد أسنانه بالذهب".
فقد وافق ما روينا عنهم من هذا ما ذهب إليه محمَّد بن الحسن؛ فبه نأخذ.
ش: ذكر هذه الآثار الأربعة شاهدة لما ذهب إليه محمَّد بن الحسن:
الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، وموسى بن داود الضبي الخلقاني شيخ أحمد، كلاهما عن طعمة بن عمرو الجعفري العامري الكوفي، وثقه يحيى بن معين وابن حبان. . إلى آخره.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا وكيع، عن طعمة الجعفري قال:"رأيت موسى بن طلحة قد شد أسنانه بذهب".
(1) وقع في "شرح معاني الآثار" أثر زائد على ما في "الأصل، ك" في هذا الموضع ولم يتعرض له المؤلف بالشرح فالآثار المذكورة في "شرح معاني الآثار" خمسة، والمذكورة في "الأصل، ك" هنا أربعة كما أشار المصنف في الشرح، ونص الأثر كما يأتي:"حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أبو الأشهب، عن حماد قال: "رأيت المغيرة بن عبد الله أمير الكوفة قد ضبب أسنانه بالذهب، فذكرت ذلك لإبراهيم، فقال: لا بأس به".
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 205 رقم 25259).
وموسى بن طلحة بن عبيد الله أبو محمَّد التيمي المدني من التابعين الكبار، وروى له الجماعة.
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن سليمان الواسطي المعروف بسعدويه شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، قال:"رأيت الحسن أي البصري. . . .".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن حميد:"أن الحسن شد أسنانه بذهب".
الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، قال: رأيت أبا التياح الضبعي، واسمه يزيد بن حميد، من التابعين الثقات.
وأبا حمزة عمران بن أبي عطاء القصاب، من التابعين الثقات.
وأبا نوفل بن أبي عقرب البكري الكناني العريجي، قيل: اسمه مسلم بن أبي عقرب، وقيل: عمرو بن مسلم بن أبي عقرب، وقيل: معاوية بن مسلم بن عمرو بن أبي عقرب، من التابعين الثقات.
الرابع: عن سليمان بن شعيب، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن عبيد الله ابن الحسن بن الحصين العنبري البصري القاضي، من رجال مسلم.
قوله: "فبه نأخذ" أي فبقول محمَّد بن الحسن نأخذ، وأشار بهذا إلى أن قول محمَّد هو اختياره.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 205 رقم 25262).