الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب لبس الخاتم لغير ذي سلطان
ش: أي هذا باب في بيان حكم لبس الخاتم لغير ذي حكم -أراد به لغير الحكام والولاة- هل يجوز له ذلك أم لا؟
ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا معلى بن منصور، قال: ثنا مفضل بن فضالة، قال: أنا عياش بن عباس، عن الهيثم بن شَفِي الحَجْرِي، عن أبي عامر، عن أبي ريحانه، قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن لُبُوس الخاتم إلا لذي سلطان".
ش: كل هؤلاء ثقات، وعياش -بالياء آخر الحروف المشددة وبالشين المعجمة- ابن عباس -بالباء الموحدة والسين المهملة- القِتْباني المصري.
والهيثم بن شُفَي -بفتح الشين المعجمة والتخفيف، قاله الدارقطني، قال: ومن قال: بالضم فقط غلط.
والحجري -بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم- نسبة إلى حَجْر حمير، والأصح أنه منسوب إلى حَجْر رعين.
وأبو عامر اسمه عبد الله بن جابر، ويقال له: عامر، وكذا وقع في رواية ابن ماجه، والصحيح: أبو عامر الحَجْري الأزدي المعافري المصري.
وأبو ريحانه اسمه شمعون بن زيد الأزدي حليف الأنصار، ويقال له: مولى رسول الله عليه السلام، ويقال: شمغون -بالغين المعجمة- له صحبه، وكان يكون بمصر والشام، وكان يرابط بعسقلان، شهد فتح دمشق، واتخذ بها دارًا، وسكن بعد ذلك ببيت المقدس، والله أعلم.
وأخرجه أبو داود بأتم منه (1): ثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني، قال: حدثني المفضل بن فضالة، عن عياش بن عباس، عن أبي الحُصَين الهيثم بن شَفي، قال: "خرجت أنا وصاحب لي يكنى أبا عامر -رجل من المعافر-
(1)"سنن أبي داود"(4/ 48 رقم 4049).
لنصلى بإيلياء، وكان قاصهم رجلًا من الأزد، يقال له: أبو ريحانة من الصحابة، قال أبو الحصين: فسبقني صاحبي إلى المسجد، ثم أدركته فجلست إلى جنبه، فسألني: هل أدركت قصص أبي ريحانه؟ قلت: لا، قال: سمعته يقول: نهى رسول الله عليه السلام عن عشرٍ: عن الوَشْرِ، والوشم، والنتْفِ، وعن مُكامَعة الرجلِ الرجلَ بغير شعار، ومكامعة المرأة المرأةَ بغير شعار، وأن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم، أو يجعل على منكبه حريرًا مثل الأعاجم، وعن النهبى، وركوب النمور، ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان".
وأخرجه النسائي (1) وابن ماجه (2).
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى كراهة لبس الخاتم إلا لذي سلطان، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا الحصين وأبا عامر وأحمد في رواية، فإنهم ذهبوا إلى كراهة لبس الخاتم لغير ذي سلطان، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يَروا بلبسه لسائر الناس من سلطان وغيره باسًا، وكان من حجتهم في ذلك الحديث الذي قد رويناه عن رسول الله عليه السلام في الباب الذي قبل هذا الباب، أنه ألقى خاتمه، فألقى الناس خواتيمهم، فقد دَلَّ هذا على أن العامَّة قد كانت تلبس الخواتيم في عهد رسول الله عليه السلام.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جماهير العلماء منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؛ فإنهم قالوا: لا بأس بلبس الخاتم الفضة سواء كان سلطانا أو غيره، واحتجوا في ذلك بحديث عبد الله بن عمر:"أن رسول الله عليه السلام كان يلبس خاتمًا من ذهب ثم قام فنبذه، وقال: لا ألبسه أبدًا، فنبذ الناس خواتيمهم"، وقد مر هذا في باب التختم بالذهب.
(1)"المجتبى"(8/ 143 رقم 5091).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1205 رقم 3655).
فهذا يدل على أن العامة قد كانوا يلبسون الخواتيم في زمن النبي عليه السلام، ولو كان مما لا ينبغي لهم لكان عليه السلام منعهم عن ذلك.
ص: فإن قال قائل: فكيف تحتج بهذا وهو منسوخ؟
قيل له: إن الذي احتججنا به منه ليس بمنسوخ، وإنما المنسوخ ترك لبس الخاتم من الذهب للنبي عليه السلام ولغيره من أمته، وقبل ذلك فقد كان هو وَهُمْ في ذلك سواء، فلما نسخ حكم لبس الخاتم من الذهب كان الحكم متقدمًا في لبسه ولبسهم الخاتم سواء، و [لما](1) كان النسخ لم يمنعه هو عليه السلام من لبس خاتم الفضة، فكذلك أيضًا لا يمنعهم من لبس الخواتيم، فهذا الذي أردناه من هذا الحديث.
ش: السؤال ظاهر.
وتقرير الجواب: أن الذي احتج به من الحديث المذكور ليس بمنسوخ؛ لأن الذي نُسخ منه هو لبس الخاتم من الذهب للنبي عليه السلام ولأمته، وقبل نسخ هذا الحكم كان النبي عليه السلام وأمته في ذلك سواء، ثم لما ورد النسخ ولم يمنع النبي عليه السلام من لبس خاتم الفضة فكذلك لم يمنع أمته من لبس الخواتيم. فافهم.
ص: وقد روي عن جماعة ممن لم يكن لهم سلطان أنهم كانوا يلبسون الخواتيم فمما روي في ذلك:
ما حدثنا على بن معبد، قال: ثنا محمَّد بن جعفر المدائني، قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه:"أن الحسن والحسين رضي الله عنهما كانا يتختمان في يسارهما، وكان في خواتيمهما ذكر الله سبحانه".
حدثنا علي، قال: ثنا يعلى بن عبيد، قال: ثنا رِشْدِين بن كُريب، أنه قال:"رأيتُ ابن الحنفية يتختم في يساره".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوُحَاظي، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثنا جعفر بن محمَّد، عن أبيه قال:"كان الحسن والحسين رضي الله عنهما يتختمان في يسارهما".
(1) ليست في "الأصل، ك".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن إبراهيم بن عطاء، عن أبيه، قال:"كان نقش خاتم عمران بن حصين رضي الله عنه رجلًا متقلدًا بسيف".
حدثنا عليّ، قال: ثنا خالد بن عمرو، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق قال: "رأيت قيس بن أبي حازم، وعبد الله بن الأسود، وقيس بن ثمامة، والشعبي، يتختمون بيسارهم".
حدثنا عليّ، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة، عن المغيرة، قال:"كان نقش خاتم إبراهيم: نحن بالله وله".
فهؤلاء الذين روينا عنهم هذه الآثار، من أصحاب رسول الله عليه السلام وتابعيهم قد كانوا يتختمون، وليس لهم سلطان، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.
ش: أي قد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ممن ليس لهم حكم ولا سلطنة أنهم كانوا يلبسون الخواتيم، فدَلَّ ذلك على أنه لا بأس به لغير ذي سلطان، وأخرج في ذلك ستة من الآثار:
الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن محمَّد بن جعفر المدائني شيخ أحمد، عن حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه، قال:"كان الحسن والحسين يتختمان في يسارهما".
وأخرجه الترمذي (2): عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل .. إلى آخره.
ويستفاد منه: جواز اتخاذ الخاتم للسلطان وغيره، وأن يكون التختم في اليسار، وجواز نقش الخاتم بذكر الله.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 196 رقم 25164).
(2)
"جامع الترمذي"(4/ 228 رقم 1743).
واعلم أن العلماء اختلفوا في التختم، هل ينبغي أن يكون في اليمين، أو في اليسار؟ فذهبت طائفة إلى أنه ينبغي أن يتختم في اليمين وروي ذلك عن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم.
وذهبت طائفة إلى أنه ينبغي أن يتختم في يساره وروي ذلك عن الحسن والحسين وأبي بكر وعمر وعثمان وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وحكي أيضًا عن القاسم وسالم وابن سيرين والنخعي.
وقال المنذري: لا خلاف بين العلماء، ولا في الآثار أن اتخاذ الخاتم للرجال في الخنصر، قالوا: لأنه احفظ فيه من المهنة وما تستعمل فيه اليد، لكونه طرفا منها، ولا تشتغل اليد عما تتناوله من أشغالها، بخلاف غيره.
وإنما اختلفت الآثار ما بين اليمين والشمال، وبحسبهما اختلف فعل السلف، فتختم كثير منهم في اليمين، وكثير في الشمال.
الثاني: عن عليّ بن معبد أيضًا، عن يعلى بن عبيد الإيادي الطنافسي الكوفي، عن رشدين بن كريب بن أبي مسلم القرشي المدني مولى ابن عباس، فيه مقال، قال: رأيت ابن الحنفية، وهو محمَّد بن علي بن أبي طالب، والحنفية أمه، واسمها خولة بنت جعفر، من سبي اليمامة الذين سباهم أبو بكر رضي الله عنهم.
الثالث: عن إبراهيم عن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوُحَاظي الدمشقي، عن سليمان بن بلال القرشي المدني، عن جعفر بن محمَّد الصادق، عن أبيه محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن إبراهيم بن عطاء مولى عمران بن حصين، عن أبيه عطاء بن أبي ميمونة، وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن يزيد بن هارون، عن إبراهيم بن عطاء، عن أبيه، نحوه.
الخامس: عن علي بن معبد، عن خالد بن عمرو القرشي الأموي، عن يونس بن أبي إسحاق السبيعي قال: رأيت قيس بن أبي حازم حصين بن عوف البجلي الكوفي، وهو ممن أدرك الجاهلية، وهاجر إلى النبي عليه السلام ليبايعه، فقبض وهو في الطريق، وقيل: إنه رآه وهو يخطب، ولم يثبت ذلك، وأبو حازم له صحبة.
وعبد الله بن الأسود القرشي ذكره ابن حبان في "الثقات"، وعبد الله بن الأسود السدوسي صحابي.
وفي رواية: عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهري عُدَّ من الصحابة، وقال الذهبي: لا تصح له رؤية وشهد الحكمين وله رواية وقدر وشرف.
وعبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي الكوفي التابعي، وقيس بن ثمامة (2).
والشعبي هو عامر بن شرحبيل.
السادس: عن علي بن معبد، عن علي بن الجعد الجوهري شيخ البخاري، عن شعبة، عن المغيرة بن مقسم الضبي الكوفي، قال:"كان نقش خاتم إبراهيم" يعني النخعي.
ص: وأما من طريق النظر: فإن السلطان إذا كان له لبس الخاتم لأنه ليس بحلية فكذلك أيضًا غير السلطان له أيضًا لبسه لأنه ليس بحلية، وقد رأينا ما نهي عنه من استعمال الذهب والفضة يستوي فيه السلطان والعامة، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك ما أبيح للسلطان من لبس الخاتم يستوي فيه هو والعامة، وإن كان إنما أبيح
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 191 رقم 25104).
(2)
بيض له المؤلف رحمه الله، ولم يذكر له ترجمة في "مغاني الأخبار" وفي "تاج العروس" (1/ 2334): وقيس بن ثمامة الأرحبي من همدان، ذكره في جماعة ممن كان لهم فرس اسمه "الورد". قلت: لا أدري أهو أم غيره؟.
لاحتياجه إليه ليتختم مال المسلمين، فإنه أيضًا مباح للعامة لاحتياجهم إليه للختم على أموالهم وكتبهم، فلا فرق في ذلك بين السلطان وغيره.
ش: أي وأما حكم هذا الباب من طريق النظر والقياس، وتقريره أن يقال: إذا جاز للسلطان لبس الخاتم لكونه ليس بحلية، جاز لغيره أيضًا؛ لأنه ليس بحلية في حقه أيضًا، ولما كان استعمال الذهب والفضة غير جائز في حق السلطان وغيره، وتساويا فيه، فكذلك يتساويان في الذي أبيح للسلطان من لبس الخاتم.
فإن قال قائل: إنما أبيح استعمال الخاتم للسلطان؛ لاحتياجه إليه في ختم الأشياء والكتب.
فنقول: كذلك يباح لغيره؛ لاحتياجه إليه لأجل الختم على ماله وكتبه فلا فرق بين السلطان وغيره.