المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب أكل الضباب - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٣

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب من أوجب أضحية في أيام العشر أو عزم على أن يضحي هل له أن يقص شعره أو أظفاره

- ‌ص: باب الذبح بالسن أو الظفر

- ‌ص: باب أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام

- ‌ص: باب أكل الضبع

- ‌ص: باب صيد المدينة

- ‌ص: باب أكل الضباب

- ‌ص: باب أكل لحوم الحمر الأهلية

- ‌ص: باب أكل لحم الفرس

- ‌ص: كتاب الكراهة

- ‌ص: باب حلق الشارب

- ‌ص: باب استقبال القبلة بالفروج للغائط والبول

- ‌ص: باب أكل الثوم والبصل والكراث

- ‌ص: باب الرجل يمر بالحائط أله أن يأكل منه أم لا

- ‌ص: باب: لبس الحرير

- ‌ص: باب: الثوب يكون فيه علم الحرير أو يكون فيه من الحرير

- ‌ص: باب الرجل يتحرك سِنُّه هل يَشُدُّها بالذهب أم لا

- ‌ص: باب: التختم بالذهب

- ‌ص: باب نقش الخواتيم

- ‌ص: باب لبس الخاتم لغير ذي سلطان

- ‌ص: باب البول قائمًا

- ‌ص: باب القَسَم

- ‌ص: باب الشرب قائمًا

- ‌ص: باب: وضع إحدي الرجلين على الأخري

- ‌ص: باب: الرجل يتطرق في المسجد بالسهام

- ‌ص: باب: المعانقة

- ‌ص: باب: الصور تكون في الثياب

- ‌ص: باب: الرجل يقول: أستغفر الله وأتوب إليه

- ‌ص: باب: البكاء علي الميت

الفصل: ‌ص: باب أكل الضباب

‌ص: باب أكل الضباب

ش: أي هذا باب في بيان حكم أكل الضباب، وهو: جمع ضب.

قال في "المنتهى": هي دويبة شبيهة بالوَرَل، وتجمع على: ضباب وأَضُب، مثال: كَفٌّ وأَكُف.

وفي "المحكم": والجمع ضبان، وقال اللحياني: وذلك إذا كثرت جدًّا، وهو من الحشرات، وفي المثل: أعق من ضبٍّ لأنه ربما أكل حُسُوله، وقولهم: لا أفعله حتى يحن الضب في أثر الإبل الصادرة، وحتى يَرِد الضب؛ لأن الضب لا يشرب الماء، ومن كلامهم الذي يضعونه على ألسنة البهائم، قالت السمكة للضب: وردًا يا ضب، فقال: أصبح قلبي صردًا لا يشتهي أن يردا، إلا عَرَادًا عَرِدًا، وصليانا بردا، أو عَنْكَثا مُلْتَبِدًا، يقال: ضبب البلد، وأضب إذا أكثر ضبابه، وأرض ضببة: كثيرة الضباب، وهذا أحد ما جاء على أصله، وأرض مضبة ذات ضباب، والجمع مضاب، يقال: وقعنا في مضابَّ مُنْكَرَة، وهي قطع من الأرض كثيرة الضباب، والمضببُ: الحارش الذي يصب الماء في جحره حتى يخرج ليأخذه.

ويقال: للضب أيْرَان، وللضبة رَحِمَان، ويكنى الضب أبا الحِسْل، والحِسْل ولده حين يخرج من بيضته.

وفي "كتاب الحيوان" لأرسطو السقنقور أيضًا له أيرْان، وللأنثى فَرْجَان، ويذبح الضب، ويمكث ليلة ثم يقرب من النار فيتحرك، وكذلك الأفعى تذبح فتبقى أيامًا تتحرك، وإن وطئها واطئ نهسته.

وتقول العرب: الضب قاضي الطير والبهائم، ويقولون: إنها اجتمعت إليه أول ما خلق الإنسان فصفوه له، فقال: تصفون خلقًا ينزل الطير من السماء والحوت من الماء؟! فمن كان ذا جناح فليطر، ومن كان ذا [حافر فليحفر](1).

(1) في "الأصل، ك": "ناب"، وهو بعيد، والمثبت من "العين" للخليل (7/ 14).

ص: 88

والضبة إذا باضت حرست أولادها من كل مَنْ قدرت عليه من ورل وحية وغير ذلك، فإذا بقيت أولادها وخرجت من البيض؛ ظنتها شيئًا يريد بيضها فوثبت عليها لتقتلها؛ فلا ينجو منها إلا الشريد.

وقال أبو عبيد البكري في كتاب "الاحتفال": وقيل بل تأكل أولادها فلا يسلم منها إلا من شُغِلَت عنه بأكل إخوته.

ص: حدثنا محمد بن الحجاج، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا يزيد بن عطاء، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن حسنة، قال:"نزلنا أرضًا كثيرة الضباب فاصابتنا مجاعة فطبخنا منها؛ فإن القدور لتغلي بها إذْ جاء رسول الله عليه السلام، فقال: ما هذا؟ فقلنا: ضباب أصبناها، فقال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دوابًّا في الأرض، وإني أخشى أن تكون هذه، فاكفئوها".

حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش قال: ثنا يزيد بن وهب الجهني، قال: ثنا عبد الرحمن بن حسنة. . . ثم ذكر مثله.

ش: هذان طريقان:

الأول: عن محمد بن الحجاج بن سليمان الحضرمي الجوهري، أثنى عليه ابن يونس بخير، عن الخصيب بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، وثقه ابن حبان، وقال أبو زرعة: لا بأس به.

عن زيد بن عطاء بن يزيد اليشكري، ويقال: الكندي الواسطي البزاز مولى أبي عوانة من فوق، فيه مقال، فعن أحمد: ليس بحديثه بأس. وعن يحيى: ليس بشيء، وعنه ضعيف. وقال ابن حبان: لا يحتج به.

عن سليمان بن مهران الأعمش.

عن زيد بن وهب الجهني أبي سليمان الكوفي، رحل إلى النبي عليه السلام، فَقُبِضَ وهو في الطريق، روى له الجماعة.

عن عبد الرحمن بن حسنة أخي شرحبيل بن حسنة له صحبة.

ص: 89

وأخرجه الطبراني (1): ثنا معاذ بن المثنى، نا مسدد، نا يحيى بن سعيد، عن الأعمش، ثنا زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن حسنة قال:"غزونا مع رسول الله عليه السلام فأصابتنا مجاعة، ونزلنا بأرض كثيرة الضباب، فأخذنا منها فطبخنا في القدور، فقلنا: يا رسول الله، إنها الضباب، فقال: إن أمة فقدت، لعلها هذه. وأمرنا فأكفأنا القدور".

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص، عن أبيه حفص بن غياث، عن الأعمش. . . إلى آخره.

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن وكيع، عن الأعمش. . . إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي عاصم في كتابه نحوه، وفي آخره:"فأكفأناها ونحن جياع".

فإن قيل: ما حكم هذا الحديث؟

قلت: إسناده لا بأس به، وقال ابن حزم: حديث عبد الرحمن بن حسنة حديث صحيح، وحجة إلا أنه منسوخ بلا شك؛ لأن فيه أن النبي عليه السلام إنما أمر بإكفاء القدور بالضباب خوف أن تكون من بقايا مسخ الأمم السالفة، هذا نص الحديث، فإن وجدنا عنه عليه السلام ما يُؤمَن من هذا الظن بيقين فقد ارتفعت الكراهة أو المنع في الضب؛ فنظرنا في ذلك فوجدنا في "صحيح مسلم" عن ابن مسعود رضي الله عنه:"قيل: يا رسول الله، القردة والخنازير مما مسخ؟ فقال: إن الله لم يهلك قومًا -أو يعذب قومًا- فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك".

فصح يقينا أن تلك المخافة منه عليه السلام في الضباب أن تكون مما مسخ قد ارتفعت، وأنها ليست مما مسخ ولا مما مسخ شيء في صورتها؛ فحلت.

(1) عزاه الهيثمي في "المجمع"(4/ 50) لأحمد، والطبراني في "الكبير"، وأبو يعلى والبزار، وقال:"ورجال الجميع رجال الصحيح".

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 123 رقم 24314).

ص: 90

وحديث ابن عباس في أكله بحضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصَّ على تحليله، وهو الآخر الناسخ؛ لأن ابن عباس لم يجتمع بلا شك مع سيدنا رسول الله عليه السلام بالحديبية إلا بعد انقضاء الفتح وحنين والطائف، ولم يغز بعدها إلا تبوك، ولم تصبهم في تبوك مجاعة أصلاً.

فصح يقينًا أن خبر ابن حسنة كان قبل هذا بلا مرية؛ فارتفع الإشكال جملة، وصحت إباحة عمر وغيره.

قلت: وفيه نظر من وجهين:

الأول: إن حديث ابن عباس ليس فيه أنه كان بالمدينة، وإنما قال:"كنت في بيت ميمونة، فدخل عليه السلام ومعه خالد رضي الله عنه فجاءوا بضبين. . ." الحديث، وإذا كان كذلك فيحتمل أنه كان لما تزوج عليه السلام ميمونة، وكان موضع مبيتها بيتها أيَّ موضع كان.

الثاني: أن قوله "ولم تصبهم في تبوك مجاعة" كلام فاسد، وذهول شديد عما في كتاب الله من تسميتها عُسرة، وأي مجاعة أشد من ذلك؟!.

قوله: "فأصابتنا مجاعة" أي جوع، وهو نقيض الشبع، يقال: جَاعَ يَجُوع جَوْعًا، ومجاعة، والجوعة: المرة الواحدة.

قوله: "إن أمة" أي طائفة.

قوله: "فاكفئوها" أمرٌ من كفأت الإناء كببته وقلبته، فهو مكفوء.

وزعم ابن الأعرابي أن أكفأته لغة، وهو مهموز اللام.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى تحريم لحوم الضباب؛ لأنهم لم يأمنوا أن يكون ممسوخًا، واحتجوا بهذا الحديث.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأعمش وزيد بن وهب، وجماعة آخرين؛ فإنهم قالوا: كل الضباب حرام، واحتجوا بحديث عبد الرحمن بن حسنة؛ لأن أمر النبي عليه السلام بإكفاء القدور التي كانوا قد طبخوا فيها ضباب يدل على تحريمها، فلو

ص: 91

كان أكلها جائزًا لما أمر بذلك، وذلك كما أمر بإكفاء القدور التي كانوا قد طبخوا فيها لحم الحمر الأهلية يوم حنين.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بها بأسًا.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم لم يروا بأكل الضب بأسًا، وهو مذهب الظاهرية أيضًا.

وقال ابن حزم: "وصحت إباحته عن عمر بن الخطاب وغيره".

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن حصينًا قد روى هذا الحديث عن زيد بن وهب على خلاف هذا المعنى الذي رواه الأعمش.

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن حصين، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه قال:"كنا مع رسول الله عليه السلام فأصاب الناس ضبابًا فاشتووها فأكلوها فأحبت منها ضبا فشويته، ثم أتيت به النبي عليه السلام فأخذ جريدة، فجعل يعد بها أصابعه، فقال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دوابًّا في الأرض، وإني لا أدري لعلها هي، فقلت: إن الناس قد اشتووها فأكلوها، فلم يأكل، ولم ينه".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن حصين فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: ثابت بن وديعة.

ففي هذا الحديث خلاف ما في الحديث الأول؛ لأن في هذا: أن رسول الله عليه السلام لم ينههم عن أكلها، وقد خشي في هذا الحديث أن يكون ممسوخًا كما خشي في الحديث الأول، غير أنه يجوز أن يكون قد ترك النهي لأنهم كانوا في مجاعة -على ما في حديث الأعمش- فأباح لهم ذلك للضرورة.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان لهؤلاء الآخرين فيما ذهبوا إليه، أن حُصَيْنًا -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين- بيان ذلك: أن الحديث الذي رواه الأعمش،

ص: 92

عن زيد بن وهب الذي احتجت به أهل المقال الأولى قد رواه حصين بن عبد الرحمن السلمي، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن زيد على خلاف ذلك، فإنه قال في حديثه: إنهم أكلوها، وأن النبي عليه السلام لم يأكل ولم ينه، وترْكه عليه السلام أكله لكونه قد خشي أن يكون ممسوخًا، وهذا المعنى موجود في الحديثين جميعًا، غير أنه يحتمل أن يكون تَرْكه النهي في حديث حصين؛ لكونهم في جوع وشدة، فأباح لهم ذلك لأجل الضرورة.

فإذا كان كذلك لا تقوم بالحديثين حجة لأهل المقالتين.

أما الحديث الأول: فلأنه يعارض الحديث الثاني.

وأما الحديث الثاني: فقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون ترك النبي عليه السلام النهي عن أكله لكونهم في مجاعة، فحينئذ يحتاج في ذلك إلى إقامة الحجة من غير هذا الحديث الذي وقع فيه الاختلاف.

وقد أشار الطحاوي إلى ذلك بقوله: ثم رجعنا إلى ما في ذلك أيضًا على ما يجيء الآن إن شاء الله.

ثم إنه أخرج حديث حصين عن زيد بن وهب من طريقين صحيحين:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل بن غزوان الضبي الكوفي، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن زيد بن وديعة، ويقال: ثابت بن يزيد، وقال أبو عمر: ثابت بن وديعة بن خذام بن زيد بن مالك، نسب إلى جده، وفي "التهذيب": له ولأبيه صحبة، وحديثه في الضب يختلفون فيه اختلافًا كثيرًا.

والحديث أخرجه الطبراني (1): نا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة. . . إلى آخره نحوه.

(1)"المعجم الكبير"(2/ 81 رقم 1367).

ص: 93

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن حصين بن عبد الرحمن، عن زيد بن وهب عن ثابت بن وديعة رضي الله عنه.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا عمرو بن عون، قال: أنا خالد، عن حصين، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن وديعة قال:"كنا مع رسول الله عليه السلام في جيش، فأصبنا ضبابًا قال: فشويت منها ضبًّا، فأتيت رسول الله عليه السلام فوضعته بين يديه، فأخذ عودًا فعد به أصابعه، ثم قال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دوابَّ في الأرض، ولا أدري أمن الدواب هي؟ قال: فلم يأكل، ولم ينه".

وأخرجه النسائي (2): عن سليمان بن منصور البلخي، عن أبي الأحوص سلام ابن سليم، عن حصين، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن يزيد الأنصاري، نحوه.

وأخرجه ابن ماجه (3): عن أبي بكر بن أبي شيبة، نحوه.

ص: ثم رجعنا إلى ما في ذلك أيضًا سوى هذين الحديثين؛ فإذا إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا قال: ثنا أبو الوليد وعفان قالا: ثنا عبد الملك بن عمير، عن حصين -رجل من بني فزارة- قال: أخبرني سمرة بن جندب رضي الله عنه: "أن نبي الله عليه السلام أتاه أعرابي وهو يخطب، فقطع عليه خطبته، فقال: يا رسول الله، ما تقول في الضب؟ فقال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت، فلا أدري أي الدواب مسخت؟ ".

حدثنا فهد قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: ثنا بقية، عن شعبة، قال: حدثني الحكم، عن زيد بن وهب، عن البراء بن عازب، عن ثابت بن وديعة الأنصاري، عن النبي عليه السلام:"أنه أُتي بضب، فقال: أمة مسخت".

(1)"سنن أبي داود"(3/ 353 رقم 3795).

(2)

"المجتبى"(7/ 199 رقم 4320).

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1078 رقم 3238).

ص: 94

حدثنا أبو بكرة قال: ثنا أبو داود قال: ثنا شعبة، عن الحكم قال: سمعت زيد ابن وهب، عن البراء بن عازب، عن ثابت بن وديعة:"أن رجلًا أتى النبي عليه السلام بضب، فقال له رسول الله عليه السلام إن أمة قد فقدت فالله أعلم".

حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا حميد الصائغ قال: ثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن وديعة الأنصاري:"أن رجلًا من بني فزارة أتى النبي عليه السلام بضباب احترشها، فجعل رسول الله عليه السلام يقلبها وينظر إلى ضب منها، فقال رسول الله عليه السلام: أمة مسخت، فلا ندري ما فعلت، ولا أدري لعل هذا منه".

حدثنا فهد قال: ثنا الحسن بن بشر قال: ثنا المعافى بن عمران، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر:"أن رسول الله عليه السلام أبى أن يأكله -يعني الضب- وقال: لا أدري لعله من القرون الأولى التي مسخت".

قال: أبو جعفر رحمه الله: ففي هذه الآثار أن رسول الله عليه السلام ترك أكله خوفًا من أن يكون مما مسخ؛ فاحتمل أن يكون قد حرمه مع ذلك، واحتمل أن يكون تركه تنزها منه عن أكله، ولم يحرمه.

فنظرنا في ذلك؛ فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عَقِيل بشير بن عقبة قال: ثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:"أن أعرابيًّا سأل النبي عليه السلام فقال: إني في حائط مضبة، وإنه طعام أهلنا، فسكت، فقلنا له: عاوده. فعاوده، فسكت، ثم قالوا: عاوده، فعاوده، فقال: إن الله عز وجل لعن -أو غضب على- سبط من بني إسرائيل فمسخهم دوابًّا يدبون على الأرض، فما أظنهم إلا هؤلاء، ولست آكلها ولا أحرمها".

ففي هذا الحديث: أن رسول الله عليه السلام لم يحرم الضباب مع خوفه أن تكون من الممسوخ.

ش: لما لم يكن في الحديث المذكور الذي اختلف فيه حجة لأحد الفريقين، وكان عليه السلام خشي فيه أن يكون ممسوخًا؛ شرع يبين ما جاء في هذا الباب مما جاء فيه

ص: 95

هذا المعنى، أي خشيته كونه ممسوخًا مع أنه عليه السلام لم يحرمه؛ إنما كان تركه عليه السلام الأكل لأجل عِيَافَتِه وتنزيهه.

بيان ذلك أنه جاء في حديث سمرة وثابت بن وديعة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم، أن النبي عليه السلام إنما تركه لأجل خوفه أن يكون مما مسخ، ومع هذا يحتمل أن يكون قد حرمه مع ذلك، ويحتمل أن يكون امتنع عنه لأجل تنزيهه وعيافته.

فنظرنا في ذلك، فوجدنا حديث أبي سعيد الخدري قد دل على أنه لم يحرمه مع خوفه أن يكون من الممسوخات، فرجح هذا الحديث أحد الاحتمالين المذكورين، فثبت أنه غير محرم، فافهم.

أما حديث سمرة رضي الله عنه فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن عفان بن مسلم الصفار، عن عبد الملك بن عمير بن سويد اللخمي، عن حصين -بضم الحاء- بن قبيضة الفزاري الكوفي، وثقه ابن حبان، عن سمرة بن جندب.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا هشام بن عبد الملك بن أبي عوانة، وثنا عفان، نا عبد الملك بن حصين -رجل من بني فزارة- عن سمرة بن جندب، قال: أتى نبي الله عليه السلام أعرابي وهو يخطب، فقطع عليه خطبته، فقال: يا رسول الله، كيف تقول في الضب؟ فقال: أمة مسخت من بني إسرائيل، فلا أدري أي الدواب مسخت؟.

وأما حديث ثابت بن وديعة فأخرجه من ثلاث طرق جياد حسان:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن حيوة بن شريح الحضرمي الحمصي شيخ البخاري وأبي داود، عن بقية بن الوليد الحمصي، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن زيد بن وهب، عن البراء بن عازب الصحابي، عن ثابت بن وديعة الصحابي.

(1)"مسند أحمد"(5/ 19 رقم 20222).

ص: 96

وأخرجه النسائي (1): عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن شعبة، عن الحكم، عن زيد بن وهب، عن البراء بن عازب، عن ثابت بن وديعة:"أن رجلًا أتى النبي عليه السلام بضبٍّ فقال: إن أمة مسخت والله أعلم".

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة. . . إلى آخره.

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حميد بن أبي زياد الصائغ الكوفي، عن شعبة، عن عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن وديعة رضي الله عنه وحميد الصائغ وثقه ابن حبان.

وأخرجه الطبراني (2): ثنا علي بن عبد العزيز، نا عفان، نا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن زيد بن وهب، عن ثابت بن وديعة:"أن رجلًا من بني فزارة أتى النبي عليه السلام بضباب قد احترشها، فجعل يقلب ضبًّا منها بين يديه، وقال: أمة مسخت -وأكثر علمي أنه قال: ما أدري ما فعلت، وما أدري لعل هذا منها؟ ".

وأخرجه النسائي (3) أيضًا: عن عمرو بن يزيد، عن بهز بن أسد، عن شعبة. . . إلى آخره نحوه.

وأما حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه فأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن بشر البجلي الكوفي شيخ البخاري، عن المعافى بن عمران الأزدي الموصلي، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله.

وأخرجه مسلم (4): ثنا إسحاق بن إبراهيم، وعبد بن حميد، قالا: ثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله

(1)"المجتبى"(7/ 200 رقم 4322).

(2)

"المعجم الكبير"(2/ 81 رقم 1365).

(3)

"المجتبى"(7/ 200 رقم 4321).

(4)

"صحيح مسلم"(3/ 1545 رقم 1949).

ص: 97

يقول: "أتى النبي عليه السلام بضب، فأبى أن يأكل منه، وقال: لا أدري لعله من القرون التي مسخت".

وأما حديث أبي سعيد الخدري فأخرجه بإسناد صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن أبي عَقيل -بفتح العين- بشير بن عقبة الناجي السامي -بالسين المهملة- عن أبي نضرة -بالنون والصاد المعجمة- المنذر بن مالك، عن أبي سعيد الخدري سعد بن مالك.

وأخرجه مسلم (1): حدثني محمد بن حاتم، قال: ثنا بهز، قال: ثنا أبو عقيل الدورقي، قال: ثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد الخدري:"أن أعرابيًّا أتى رسول الله عليه السلام فقال: إني في حائط مضبة وإنه طعام أهلي، قال: فلم يجبه، فقلنا عاوده، فعاوده فلم يجبه ثلاثًا، ثم ناداه رسول الله عليه السلام في الثالثة فقال: يا أعرابي، إن الله لعن -أو غضب على- سبط من بني إسرائيل فمسخهم دوابَّ يدبون في الأرض، فلا أدري لعل هذا منه، فلست آكلها ولا أنهى عنها".

قوله: "في حائط مضبة" الحائط: البستان من النخيل إذا كان عليها جدار، و"المضبة" بفتح الميم والضاد على وزن مفعلة، يقال: أرض مضبة أي ذات ضباب.

قال ابن الأثير: جاءت الرواية بضم الميم وكسر الضاد والمعروف بفتحهما، يقال: أضبت أرض فلان: إذا أكثر ضبابها، وهي أرض مضبة أي ذات ضباب، مثل مَأْسَدَة، ومَذْأَبة، ومَرْبعة، أي ذات أسود، وذئاب، ويرابيع، وجمع المضبة: مضاب، وأما مضبة فهي اسم فاعل من أضبت، كأعدت فهي معدة، فإن صحت الرواية فهي بمعناها.

ص: ثم نظرنا، هل روي عن النبي عليه السلام ما ينفي أن تكون الضباب ممسوخة؟

فإذا أبو بكرة قد حدثنا، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن المعرور بن سويد، عن

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1546 رقم 1951).

ص: 98

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله عليه السلام عن القردة والخنازير أهي مما مسخ؟ قال: "إن الله عز وجل لم يهلك قومًا -أو يمسخ قومًا- فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة".

حدثنا ابن أبي داود وأحمد بن داود، قالا: ثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن مسعر، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة اليشكري، عن المعرور بن سويد، عن عبد الله، قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن الله تبارك وتعالى لم يهلك قومًا فيجعل لهم نسلًا ولا عقبًا".

حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن علقمة بن مرثد، عن المعرور بن سويد، عن أم سلمة رضي الله عنه، عن رسول الله عليه السلام مثله.

فبين رسول الله عليه السلام في هذا الحديث أن الممسوخ لا يكون له نسل ولا عقب، فعلمنا بذلك أن الضب لو كان مما مسخ لم يبق، فانتفى بذلك أن يكون الضب مكروهًا من قِبَلِ أنه مسخ أو من قِبَلِ ما يخاف أن يكون مسخًا.

ش: لما دل حديث أبي سعيد الخدري على أنه عليه السلام لم يحرم الضباب مع خوفه أن تكون من الممسوخ.

فنظرنا في ذلك، فوجدنا حديثا آخر دل على أن الممسوخات لم يبق لها نسل ولا عقب، فدل على أن الضب لو كان مما مسخ لم يبق، فانتفى بذلك أن يكون الضب مكروهًا من قِبَلِ أنه من الممسوخات، أو من قِبَلِ ما يخاف أن يكون مسخًا، فإذا انتفت كراهة الضب من هذين الوجهين؛ يحتاج فيه بعد ذلك إلى دليل آخر يدل إما على جواز أكله، وإما على منعه، ويجيء ذلك عن قريب، إن شاء الله تعالى.

وأخرج حديث ابن مسعود من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد الحضرمي الكوفي، عن المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل

ص: 99

اليشكري الكوفي، عن المعرور -بالعين المهملة- بن سويد الأسدي الكوفي، عن عبد الله بن مسعود.

وأخرجه مسلم (1) بأتم منه: نا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي وحجاج بن الشاعر -واللفظ للحجاج قال إسحاق: أنا، وقال الحجاج-: نا عبد الرزاق، قال: أنا الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن معرور بن سويد، عن عبد الله بن مسعود قال:"قالت أم حبيبة: اللهم متعني بزوجي: رسول الله وبأبي: [أبي] (2) سفيان وبأخي: معاوية، فقال لها رسول الله عليه السلام: إنك سألت الله لآجال مضروبة وآثار موطوءة، وأرزاق مقسومة، لا يُعَجِّل شيئًا منها قبل حله، ولا يُؤَخِّر منها شيئًا بعد حله، ولو سألت الله أن يعافيك من عذاب في النار وعذاب في القبر كان خيرًا لك، قال: فقال رجل: يا رسول الله، القردة والخنازير هي مما مسخ؟ فقال النبي عليه السلام: إن الله لم يهلك قومًا -أو يعذب قومًا- فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك".

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي وأحمد بن داود المكي، كلاهما عن محمد بن كثير شيخ أبي داود، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مَرثد، عن المغيرة بن عبد الله، عن معرور بن سويد، عن عبد الله بن مسعود.

وأخرجه النسائي في "اليوم والليلة"(3): عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن مسعر، عن علقة بن مرثد، عن المغيرة، عن معرور، عن عبد الله. . . نحو رواية مسلم.

الثالث: عن روح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني، عن يوسف بن عدي بن زريق، عن عبد الرحيم بن سليمان الأشقر الرازي نزيل الكوفة عن مسعر بن كدام، عن علقمة بن مرثد. . . إلى آخره.

(1)"صحيح مسلم"(4/ 2051 رقم 2663).

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

(3)

"عمل اليوم والليلة"(1/ 255 رقم 264).

ص: 100

وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب -واللفظ لأبي بكر- قال: ثنا وكيع، عن مسعر، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري عن المعرور بن سويد، عن عبد الله، قال: قالت أم حبيبة زوج النبي عليه السلام: "اللهم أمتعني بزوجي: رسول الله عليه السلام، وبأبي: أبي سفيان، وبأخي: معاوية، قال: فقال النبي عليه السلام: قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئًا قبل حله، أو يؤخر شيئًا قبل حله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر؛ كان خيرًا -أو أفضل- قال: وذكرت عنده القردة -قال مسعر: أراه قال: والخنازير- من مسيخ فقال: إن الله لم يجعل لمسيخ نسلًا ولا عقبًا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك".

وأخرج حديث أم سلمة أيضًا بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن الربيع بن سليمان، العبسي شيخ الجماعة غير الترمذي، عن عبد الله بن إدريس، عن ليث بن سعد، عن علقمة بن مرثد. . . إلى آخره.

وأخرجه الطبراني (2): نا علي بن عبد العزيز، نا الحسن بن ربيع، نا عبد الله ابن إدريس، عن ليث، عن علقمة بن مرثد، عن المعرور بن سويد، عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "ما مسخ الله من شيء فكان له عقب ولا نسل".

ص: ثم نظرنا فيما روي خلاف ما ذكرنا، هل نجد في شيء من ذلك ما يدلنا على إباحة أكله أو على المنع من ذلك؟ فإذا حسين بن نصر وزكريا بن يحيى بن أبان قد حدثانا، قالا: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول صلى الله عليه وسلم قال يومًا: "ليت عندنا قرصة من برة سمراء ملبقة بسمن ولبن، فقام رجل من أصحابه فعملها

(1)"صحيح مسلم"(4/ 2050 رقم 2663).

(2)

"المعجم الكبير"(23/ 325 رقم 746).

ص: 101

ثم جاء [بها](1)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيم كان سمنها؟ قال: في عكة ضب، قال له: ارفعها".

فإن قال قائل: ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا ما يدل على كراهة رسول الله عليه السلام لأكل لحم الضب.

قيل له: قد يجوز أن يكون هذا على الكراهة التي ذكرها أبو سعيد الخدري عن رسول الله عليه السلام في حديثه الذي قد رويناه، لا على تحريمه إياه على الناس.

ش: قد ذكر أن كراهة أكل الضب انتفت من قِبَل أنه من الممسوخات، ومن قِبلِ ما يخاف أن يكون مَسِيخًا، ذكر هنا ما يدل على إباحته، وذكر أحاديث، منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

أخرجه عن حسين بن نصر بن المعارك، وزكريا بن يحيى بن إياس الحنظلي المعروف بخياط السنة شيخ النسائي، كلاهما عن نعيم بن حماد المروزي الفارضي شيخ البخاري في المقرنات، عن الفضل بن موسى السيناني -بكسر السين المهملة، بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ثم نون- المروزي، عن الحسين بن واقد المروزي قاضي مرو، عن أيوب، عن نافع، عن مولاه عبد الله بن عمر.

وأخرجه أبو داود (2): نا محمد بن عبد العزيز بن أبي رِزْمَة، قال: أنا الفضل بن موسى، عن حسين بن واقد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله عليه السلام: "وددت أن عندي خبزة بيضاء من برة سمراء ملبقة بسمن ولبن، فقام رجل من القوم فاتخذه فجاء به، فقال: في أي شيء كان هذا؟ قال: في عكة ضب، قال: ارفعه".

قال أبو داود: هذا حديث منكر، وأيوب هذا ليس بالسختياني. انتهى.

(1) في "الأصل، ك": "به"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 359 رقم 3818).

ص: 102

قلت: أيوب هذا هو أيوب بن خوط أبو أمية البصري، ويقال له: أيوب الحبطي، قال البخاري: تركه ابن المبارك وغيره. وقال ابن معين: لا يكتب حديثه، ليس بشيء، وقال الفلاس ومسلم والسعدي وأبو حاتم والنسائي وعلي بن الجنيد والدارقطني: متروك. وقال الأزدي: كذاب لا تحل الرواية عنه. وقال ابن عدي: هو كثير الغلط وليس بكذاب. وقال أبو حاتم بن حبان: كان الحسين بن واقد على قضاء مرو، وكان من خيار الناس، وكتب عن أيوب السختياني وأيوب بن خوط؛ فكل منكر عنده عن أيوب عن نافع عن ابن عمر إنما هو أيوب بن خوط ليس هو بأيوب السختياني.

وسئل مرة أحمد بن حنبل عن حديث رواه الحسين بن واقد، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله عليه السلام قال:"ليت عندنا خبزة ملبقة بسمن ولبن. . ." الحديث، فاستنكره أحمد وحرك رأسه، كأنه لم يرضه.

قوله: "ملبقة" أي مخلوطة، يقال: لبقت الثريدة إذا خلطتها خلطًا شديدًا، وقال الجوهري: الثريد الملبق: الشديد التثريد الملين بالدسم، يقال: ثريدة ملبقة.

قوله: "فقال قائل:. . . إلى آخره" تقرير السؤال أن يقال: في هذا الحديث ما يدل على أن رسول الله عليه السلام قد كره أكل لحم الضب حيث قال: "ارفعه" وهذا ظاهر.

والجواب هو ما قاله بقوله: "قيل له. ." إلى آخره، وهو أيضًا ظاهر.

ص: وقد روي عن ابن عمر أيضًا ما يدل على ذلك.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أن رسول الله عليه السلام أتي بضب فلم يأكله، ولم يحرمه".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال:"نادى رسولَ الله عليه السلام رجلُ فقال: ما تقول في الضب؟ فقال لست بآكله ولا محرمه".

ص: 103

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: أنا ابن جريج، عن نافع قال:"كان ابن عمر يقول: "سئل رسول الله عليه السلام عن الضب. . ." فذكر مثله.

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا سهيل بن عامر البجلي، قال: ثنا مالك بن مغول، قال: سمعت نافعًا، عن ابن عمر قال:"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضب، فقال: لا أكل، ولا أنهى".

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ورقاء، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله عليه السلام مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن رسول الله عليه السلام.

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.

فهذا ابن عمر يخبر عن رسول الله عليه السلام أنه لم يحرم أكل الضب.

ش: أي وقد روي عن عبد الله بن عمر أيضًا ما يدل على إباحة أكل الضب، وأخرجه من سبع طرق صحاح، غير الطريق الرابع على ما نُبيِّن:

الأول: عن إبراهيم بن بن مرزوق، عن عارم، وهو محمد بن الفضل السدوسي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، وعبد الله، عن نافع عن ابن عمر قال:"سئل النبي عليه السلام عن الضب، فقال: لست بآكله ولا محرمه".

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال:"نادى رسول الله عليه السلام. . ." إلى آخره.

(1)"مسند أحمد"(2/ 33 رقم 4882).

ص: 104

وأخرجه مالك في "موطئه"(1).

وأخرجه مسلم (2): ثنا يحيى بن يحيى، ويحيى بن أيوب، وقتيبة، وابن حُجْر، عن إسماعيل -قال يحيى بن يحيى: أنا إسماعيل بن جعفر- عن عبد الله بن دينار، أنه سمع ابن عمر يقول:"سئل النبي عليه السلام عن الضب، فقال: لست بآكله ولا محرمه".

الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن مكي بن إبراهيم شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن نافع قال: كان ابن عمر. . . إلي آخره.

الرابع: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن سهل بن عامر البجلي، فيه مقال، فقال أبو حاتم: كذاب، وقال البخاري: منكر الحديث.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(3): ثنا أبو معاوية، عن مالك بن مغول، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام سئل عن الضب؟ فقال: لا لا آكله، ولا أنهى عنه".

الخامس: عن نصر بن مرزوق، عن أسد بن موسى، عن ورقاء بن عمر اليشكري، عن عبد الله بن دينار. . . إلى آخره.

السادس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري. . . إلى آخره.

وأخرجه العدني في "مسنده": عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر نحوه.

السابع: عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون. . . إلى آخره.

ص: وقد روي عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام أنه حلال.

(1)"موطأ مالك"(2/ 968 رقم 1739).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1541 رقم 1943).

(3)

"مسند أحمد"(2/ 41 رقم 5004).

ص: 105

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وعبد الصمد، قالا: ثنا شعبة، عن توبة العنبري، قال: سمعت الشعبي يقول: أرأيت فلانا حين يروي عن النبي عليه السلام، لقد جالست ابن عمر فما سمعته يحدث عن النبي عليه السلام أنه قال:"كان أناس من أصحاب النبي عليه السلام يأكلون ضبًّا فنادتهم امرأة من أزواج النبي عليه السلام بأنها ضبٌّ، فقال النبي عليه السلام: كلوه، ليس من طعامي -وفي حديث وهب: فإنه حلال".

ففي هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام أخبر أنه حلال، وإنما تركه لأنه لم يكن من طعامه.

ش: ذكر هذا الحديث شاهدًا على ما قاله من قوله: فهذا ابن عمر يخبر عن رسول الله عليه السلام أنه لم يحرم أكل الضب لأن فيه -صريحًا- أنه حلال.

وأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، وعبد الصمد بن عبد الوارث، كلاهما عن شعبة، عن توبة العنبري البصري، عن عامر الشعبي.

وأخرجه مسلم (1): نا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن توبة العنبري، سمع الشعبي، سمع ابن عمر:"أن النبي عليه السلام كان معه ناس في أصحابه فيهم سعد، وأتوا بلحم ضب، فنادت امرأة من نساء النبي عليه السلام: إنه لحم ضب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي".

وثنا محمد بن المثنى (2) قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن توبة العنبري، قال: قال لي الشعبي أرأيت حديث الحسن عن النبي عليه السلام وقاعدت ابن عمر سنتين أو سنة ونصف، فلم أسمعه روى عن النبي عليه السلام غير هذا، قال: "كان ناس من أصحاب النبي عليه السلام فيهم سعد. . . بمثل حديث ابن معاذ.

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1542 رقم 1944).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1542 رقم 1944).

ص: 106

ص: وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا: أن رسول الله عليه السلام لم يحرمه.

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، قال:"سألت جابرًا عن الضب، فقال: أتُي به رسول الله عليه السلام فقال: لا أطعمه، فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله عليه السلام لم يحرمه، وإن الله لينفع به غير واحد، وهو طعام عامة الرعاء، ولو كان عندي لأكلته".

ش: ذكر هذا أيضًا شاهدًا على ما ادعاه من أنه عليه السلام لم يحرمه.

وأخرجه بإسناد فيه عبد الله بن لهيعة، وفيه مقال على ما ذكرنا غير مرة، وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا حسن، قال: ثنا ابن لهيعة، نا أبو الزبير، قال:"سألت جابرًا عن الضب، فقال: أُتي رسول الله عليه السلام به فقال: لا أطعمه وقذره، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن رسول الله عليه السلام لم يحرمه، وإن الله عز وجل لينفع به غير واحدٍ، وهو طعام عامة الرعاء، ولو كان عندي لطعمته".

قوله: "لا أطعمه" أي لا آكله من: طَعِمَ يَطْعَمُ، من باب: عَلِمَ يَعْلَمُ.

قوله: "عامة الرِّعاء" بكسر الراء: جمع رَاعٍ، قال الله تعالى:{حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} (2).

ص: وقد كره قوم أكل الضب، منهم: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد رحمهم الله.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحارث بن مالك، ويزيد بن أبي زياد، ووكيعًا؛ فإنهم قالوا: أكل الضب مكروه، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله.

(1)"مسند أحمد"(3/ 342 رقم 14725).

(2)

سورة القصص، آية:[23].

ص: 107

وقال ابن أبي شيبة (1): ثنا وكيع، عن عبد الجبار بن عباس، عن عريب الهمداني، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه:"أنه كره الضب".

وقال ابن حزم (2): وعن أبي الزبير قال: "سألت جابر بن عبد الله عن الضب، فقال: لا تطعموه".

وممن ذهب إلى هذا: أبو حنيفة وصاحباه.

ثم الأصح عند أصحابنا: أن الكراهة كراهة تنزيه لا كراهة تحريم؛ لتظاهر الأحاديث الصحاح بأنه ليس بحرام.

ص: واحتج لهم محمد بن الحسن بما حدثنا محمد بن بحر بن مطر، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا حماد بن سلمة (ح).

وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان (ح).

وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قالوا: حدثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن النبي عليه السلام:"أهدي له ضب، فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال لها رسول الله عليه السلام: تعطينه ما لا تأكلين؟! ".

قال محمد: فقد دل ذلك على أن رسول الله عليه السلام كره لنفسه ولغيره أكل الضب، قال: فبذلك نأخد.

ش: أي احتج لهؤلاء القوم -فيما ذهبوا إليه- محمد بن الحسن بحديث عائشة رضي الله عنهما، فإن فيه:"لما أرادت عائشة أن تعطيه السائل، قال لها عليه السلام: تعطيه ما لا تأكلين" فدل ذلك أن عليه السلام كره أكل الضب لغيره كما قد كره لنفسه.

وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن محمد بن بحر بن مطر السعداوي، عن يزيد بن هارون الواسطي،

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 125 رقم 24361).

(2)

"المحلى"(7/ 431).

ص: 108

عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة.

وأخرجه ابن حزم (1): من طريق حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان. . . إلى آخره.

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان. . . إلى آخره.

الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي القصاب، شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان. . . إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا عبيد بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت:"أُهدي لرسول الله عليه السلام ضب فلم يأكل منه، قالت: فقلت: يا رسول الله، ألا أطعمه السُّؤَّال؟ قال: لا تطعمي السُّؤَّال: إلا مما تأكلين".

قوله: "قال: فبذلك نأخذ" أي قال محمد بن الحسن فيما ذكر من الكراهة نأخذ.

ص: قيل له: ما في هذا دليل على ما ذكرت، قد يجوز أن يكون كره لها أن تطعمه السائل؛ لأنها إنما فعلت ذلك من أجل أنها عافته، ولولا أنها عافته لما أطعمته إياه، وكان ما تطعمه السائل فإنما هو لله عز وجل، فأراد النبي عليه السلام أن لا يكون ما يتقرب به إلى الله عز وجل إلا من خير الطعام، كما قد نهى أن يتصدق بالبسر الرديء والتمر الرديء.

ش: أي قيل لمحمد بن الحسن: ما في ما ذكرت دليل على ما ذهبت إليه في الاحتجاج للقوم المذكورين فيما ذهبوا إليه من كراهة أكل لحم الضب،

(1)"المحلى"(7/ 431).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 123 رقم 24345).

ص: 109

والحاصل أن هذا ردٌّ ومنع لاستدلال محمد: بحديث عائشة المذكور، وبيَّن ذلك بقوله: "وقد يجوز أن يكون كره لها. . . إلى آخره، وهو ظاهر.

ص: فمما روي عنه في ذلك: ما حدثنا ابن أبي داود، حدثنا سعيد بن سليمان، ثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال:"أمرني النبي عليه السلام بالصدقة، فجاء رجل بكبائس من هذه النخل -قال سفيان: يعني الشيص- وكان لا يجيء أحد بشيء إلا نسب إلى الذي جاء به، فنزلت: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (1) ونهى رسول الله عليه السلام عن الجعرور، ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة".

قال الزهري: لونان من تمر المدينة.

حدثنا ابن أبي داود، ثنا أبو الوليد، ثنا سليمان بن كثير، قال: حدثني الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام نهى عن الجعرور، ولون الحبيق".

حدثنا أبو بكرة، ثنا مؤمل، ثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء قال: "كانوا يجيئون الصدقة بأردإ تمرهم وأردإ طعامهم فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} .

قال: لو كان لكم فأعطاكم، لم تأخذوا إلا وأنتم ترون أنه قد نقصكم من حقكم".

حدثنا ابن مرزوق، ثنا عبد الله بن حمران، ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح، عن ابن مرة، عن عوف بن مالك قال: "بينما نحن في المسجد، إذ خرج علينا رسول الله عليه السلام وفي يده عصا وإقناء معلقة في المسجد فيها قنو حشف فقال: لو شاء رب هذا القنو لتصدق بأطيب منه، إن رب هذه الصدقة ليأكل الحشف يوم

(1) سورة البقرة، آية:[267].

ص: 110

القيامة، ثم أقبل على الناس فقال: أَمَ والله ليدعنها مذللة أربعين عامًا للعوافي -يعني نخل المدينة-".

حدثنا يزيد بن سنان، ثنا أبو بكر الحنفي، ثنا عبد الحميد، قال: حدثني صالح بن أبي عريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، عن عوف بن مالك الأشجعي، عن النبي عليه السلام مثله.

فلهذا المعنى كره رسول الله عليه السلام لعائشة الصدقة بالضب؛ لا لأن أكله حرام.

ش: أي فمن الذي روي عن النبي عليه السلام في كراهة الصدقة بالشيء الرديء الحقير: ما حدثنا إبراهيم بن أبي داود البرلسي. . . إلى آخره.

وأخرج في ذلك عن سهل بن حنيف، والبراء بن عازب، وعوف بن مالك رضي الله عنهم.

أما حديث سهل فأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن سليمان الضبي الواسطي المعروف بسعدون شيخ البخاري وأبي داود، عن عباد بن العوام بن عمر الواسطي روى له الجماعة، عن سفيان بن حسين بن الحسن الواسطي روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، ومسلم في مقدمة كتابه، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي أمامة أسعد، وقيل: سعيد، وقيل: اسمه كنيته وهو المشهور، روى له الجماعة، وهو من كبار التابعين، عن أبيه سهل بن حنيف الأنصاري رضي الله عنه.

وأخرجه الطبراني (1): ثنا محمد بن الفضل السقطي، ثنا سعيد بن سليمان (ح).

وحدثنا إبراهيم بن متويه الأصبهاني، ثنا جعفر بن محمد بن جعفر المدائني، قالا: ثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه: "أن رسول الله عليه السلام أمر بصدقة فجاء رجل بكبائس من هذا النخل فوضعه، فخرج رسول الله عليه السلام فقال: من جاء بهذا؟ فكان لا يجيء أحد

(1)"المعجم الكبير"(6/ 76 رقم 5567).

ص: 111

إلا صب الذي جاء به، فنزلت:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (1).

ونهى يومئذ عن الجعرور، ولون ابن حبيق أن يؤخذا في الصدقة، قال الزهري: صنفان من تمر المدينة، قال عباد: قال سفيان: السخل الشيص".

الثاني: عن إبراهيم أيضًا، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن سليمان بن كثير العباسي البصري، أخي محمد بن كثير، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي أمامة. . . إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا محمد بن يحيى بن فارس، نا سعيد بن سليمان، ثنا عباد، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل، عن أبيه قال: "نهى رسول الله عليه السلام عن الجعرور، ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة، قال الزهري: لونان من تمر المدينة، قال أبو داود: أسنده أيضًا أبو الوليد، عن سليمان بن كثير، عن الزهري.

وأما حديث البراء فأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي الكوفي الأعور، عن أبي مالك الغفاري غزوان الكوفي، عن البراء بن عازب.

وأما حديث عوف بن مالك فأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن حمران بن عبد الله القرشي البصري، عن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم الأنصاري أبي حفص المدني، عن صالح بن أبي عريب الحضرمي الشامي ويقال المصري، عن كثير بن مرة الحضرمي الرهاوي، عن عوف بن مالك الأشجعي الغطفاني الصحابي رضي الله عنه.

(1) سورة البقرة، آية:[267].

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 110 رقم 1607).

ص: 112

وأخرجه أبو داود (1): ثنا نصر بن عاصم الأنطاكي، ثنا يحيى -يعني- القطان، عن عبد الحميد بن جعفر، حدثني صالح بن أبي عريب، عن كثير بن مرة، عن عوف بن مالك قال:"دخل علينا رسول الله عليه السلام المسجد وبيده عصا وقد علق رجل منا حشفا، فطعن بالعصا في ذلك القنو، وقال لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها، وقال: إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة".

الثاني: عن يزيد بن سنان، عن أبي بكر الحنفي عبد الكبير بن عبد المجيد، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي عريب -بفتح العين- واسمه كليب، عن كثير بن مرة، عن عوف بن مالك.

وأخرجه النسائي (2) وابن ماجه (3) نحوه.

قوله: "بكبائس" الكبائس: جمع كباسة، وهو العذق التام بشماريخه ورُطبِه، والشيص -بكسر الشين المعجمة- هو التمر الذي لا يشتد نواه ولا يقوى، وقد لا يكون له نوى أصلاً.

قوله: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} أي: ولا تقصدوا.

قوله: "عن الجعرور" بضم الجيم، وهو نوع من الدقل يحمل رطبًا صغارا لا خير فيه، والدقل -بفتح الدال والقاف- أراد التمر.

قوله: "ولون الحبُيَقْ" بضم الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره قاف، وهو تمر أغبر صغير مع طول فيه يقال: حبيق ونبيق وذوات العنيق لأنواع من التمر، ونبيق أغبر مدور، وذوات العنيق لها أعناق مع طول وغبرة، وربما اجتمع ذلك كله في عذق واحد، "والأقناء" جمع قِنْو -بكسر القاف وسكون النون- وهو العذق بما فيه من الرطب.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 111 رقم 1608).

(2)

"المجتبى"(5/ 43 رقم 2493).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 583 رقم 1821).

ص: 113

قوله: "فيها قنو حشف" بالإِضافة، والحشف -بفتح الحاء المهملة والشين المعجمة-: اليابس الفاسد من التمر، وقيل: الضعيف الذي لا نوى له، كالشيص.

قوله: "وأَمَ والله" أصله: أما والله، وهي كلمة استفتاح تذكر غالبا قبل القسم.

قوله: "العوافي" قد فسر ذلك في رواية الطبراني بأنها الطير والسباع.

قال الطبراني (1): نا أبو مسلم الكشي، ثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي عريب، عن كثير بن مرة، عن عوف بن مالك:"أن النبي عليه السلام دخل المسجد وبيده عصا، فرأي أقناء معلقة، فطعن في قنو منها فإذا فيه حشف، فقال: من صاحب هذا؟ لو تصدق بأطيب منه، إن صاحب هذا ليأكل الحشف يوم القيامة، ثم قال: يا أهل المدينة لتدعونها للعوافي أربعين عاما، قيل: وما العوافي؟ قال: الطير والسباع".

قلت: العوافي جمع عافية، يقال: طير عاف على الماء أي عائم عليه، ليجد فرصة ليشرب وقد عاف يعيف عيفا.

ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام في إباحة أكله أيضًا ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس ومالك، عن ابن شهاب أخبرها، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن ابن عباس:"أن خالد بن الوليد دخل مع رسول الله عليه السلام بيت ميمونة رضي الله عنها فأتي بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله عليه السلام بيده فقال بعض النسوة اللاتى في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله عليه السلام ما يريد أن يأكل منه، فقالوا: هو ضب، فرفع يده، فقلت: أحرام هو؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه، فاجتررته فأكلته، ورسول الله عليه السلام ينظر إليّ فلم ينهني".

حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: حدثني أسباط بن محمد عن الشيباني، عن يزيد بن الأصم قال: "دعينا لعرس بالمدينة، فقرب إلينا طعام فأكلناه، ثم قرب

(1)"المعجم الكبير"(18/ 55 رقم 99).

ص: 114

إلينا ثلاثة عشر ضبًّا، فمن آكل وتارك فلما أصبحت أتيت ابن عباس فأخبرته بذلك، فقال بعض من عنده، قال رسول الله عليه السلام: لا آكله ولا أحرمه ولا آمر به ولا أنهى عنه، فقال ابن عباس: ما بعث رسول الله عليه السلام إلا محللًا أو محرمًا، قرب إلى رسول الله عليه السلام لحم فَمَدًّ يده ليأكل، فقالت ميمونة: يا رسول الله، إنه لحم ضب، ثم قال: هذا لحم لم آكله قط، فأكل الفضل بن عباس وخالد بن الوليد وامرأة كانت معهم، وقالت ميمونة: لا آكل طعاما لم يأكل منه رسول الله عليه السلام".

حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا المقدمي قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا حبيب المعلم، عن عطاء، عن أبي هريرة:"أن النبي عليه السلام أتي بصحفة فيها ضباب، فقال: كلوا؛ فإني عائف".

حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا وهب قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"أهدت خالتي أم حفيد إلى رسول الله عليه السلام أَقِطًا وسمنًا وأضبًّا، فأكل النبي عليه السلام من الأقط والسمن، ولم يأكل من الأضب، وأكُل على مائدة النبي عليه السلام ولو كان حرامًا لم يؤكل على مائدة النبي عليه السلام".

فثبت بتصحيح هذه الآثار أنه لا بأس بأكل الضب، وأنا به أقول.

ش: أخرج أحاديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم تأييدا لقول من يذهب إلى إباحة أكل لحم الضب، وأشار إلى أنه مختاره، ولهذا قال: فثبت بتصحيح هذه الآثار أنه لا بأس بأكل الضب وأنا به أقول.

أما حديث ابن عباس فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم والنسائي، عن عبد الله بن وهب المصري، عن يونس بن يزيد الأيلي ومالك بن أنس كلاهما، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف، عن ابن عباس.

ص: 115

وأخرجه مالك في "موطئه"(1).

ومسلم (2): حدثني أبو الطاهر، وحرملة جميعًا، عن ابن وهب -قال: حرملة: أنا ابن وهب- قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري، أن عبد الله بن عباس أخبره، أن خالد بن الوليد الذي يقال له سيف الله رضي الله عنه أخبره:"أنه دخل مع رسول الله عليه السلام على ميمونة زوج النبي عليه السلام وهي خالته وخالة ابن عباس، فوجد عندها ضبًّا محنوذا قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد، فقدمت الضب لرسول الله عليه السلام وكان قَلَّ ما يقدم إليه طعام حتى يُحَدَّث به ويُسَمَّى له، فأهوى رسول الله عليه السلام يده إلى الضب، فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله عليه السلام بما قدمتن له، قلن: هو الضب يا رسول الله. فرفع رسول الله عليه السلام يده، فقال خالد بن الوليد: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: لا ولكنه لم يكن بأرض قومي؛ فأجدني أعافه. قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله ينظر، فلم ينهني".

وأخرجه أبو داود (3): عن القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة، عن ابن عباس، نحوه.

الثاني: عن محمد بن عمرو بن يونس، عن أسباط بن محمد بن عبد الرحمن القرشي الكوفي، عن أبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني، عن يزيد بن الأصم الصحابي في بعض الأقوال.

وأخرجه مسلم (4): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا علي بن مسهر، عن الشيباني، عن يزيد بن الأصم قال: "دعانا عروس بالمدينة، فقرب إلينا ثلاثة عشر ضبًّا، فآكل وتارك، فلقيت ابن عباس من الغد، فأخبرته، فأكثر القوم حوله حتى

(1)"موطأ مالك"(2/ 968 رقم 1738).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1543 رقم 1946).

(3)

"سنن أبي داود"(3/ 353 رقم 3794).

(4)

"صحيح مسلم"(3/ 1545 رقم 1948).

ص: 116

قال بعضهم: قال رسول الله عليه السلام: لا آكله، ولا أنهى عنه، ولا أحرمه، فقال ابن عباس: بئس ما قلتم، ما بعث الله تعالى نبي الله عليه السلام إلا محللًا ومحرمًا، إن رسول الله عليه السلام بينما هو عند ميمونة وعنده الفضل بن عباس وخالد بن الوليد وامرأة أخرى؛ إذ قرب إليهم خوان عليه لحم، فلما أراد النبي عليه السلام أن يأكل قالت له ميمونة: إنه لحم ضبٍّ فكف يده، وقال: هذا لحم لم آكله قط، وقال لهم: كلوا، فأكل منه الفضل وخالد بن الوليد والمرأة، قالت ميمونة: لا أكل من شيء إلا من شيء يأكل منه رسول الله عليه السلام".

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وأخرجه مسلم (1): ثنا محمد بن بشار وأبو بكر بن نافع قال ابن نافع: أنا غندر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: سمعت ابن عباس يقول: أهدت خالتي أم حفيد إلى رسول الله عليه السلام سمنا وأقطًا وأضبًا فأكل من السمن والأقط وترك الضب تقذرًا، وأُكل على مائدة رسول الله عليه السلام، ولو كان حرامًا ما أُكل على مائدة رسول الله عليه السلام".

وأخرجه أبو داود (2): عن حفص بن عمر، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد ابن جبير. . . إلى آخره نحوه.

قوله: "بضب محنوذ" أي مشوي، قال الله تعالى:{جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} (3) يقال: حنذت الشاة أحنذها حنذا، أي شويتها، وجعلت فوقها حجارة محماة لتنضجها، فهي حنيذ.

قوله: "فأهوى إليه" أي: مد إليه رسول الله عليه السلام يده.

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1544 رقم 1947).

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 353 رقم 3793)

(3)

سورة هود، آية:[69].

ص: 117

قوله: "فقلت أحرام؟ " الهمزة فيه للاستفهام.

قوله: "عافه" أي أكرهه، من عاف الرجل الطعام أو الشراب يعافه عيافًا، أي كرهه فلم يشربه، فهو عائف.

قوله: "أَقِطًا" بفتح الهمزة وكسر القاف وربما تسكن، وهو لبن يابس مجفف مستحجر يطبخ به.

وأما حديث أبي هريرة فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي، شيخ البخاري ومسلم، عن يزيد بن زريع، عن حبيب بن أبي قريبة المعلم البصري، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة.

وأخرجه البيهقي (1) من حديث يزيد بن زريع. . . إلى آخره نحوه.

وقال الذهبي في "مختصر السنن": إسناده جيد. والله أعلم.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(9/ 324 رقم 19202).

ص: 118