المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب صيد المدينة - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٣

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب من أوجب أضحية في أيام العشر أو عزم على أن يضحي هل له أن يقص شعره أو أظفاره

- ‌ص: باب الذبح بالسن أو الظفر

- ‌ص: باب أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام

- ‌ص: باب أكل الضبع

- ‌ص: باب صيد المدينة

- ‌ص: باب أكل الضباب

- ‌ص: باب أكل لحوم الحمر الأهلية

- ‌ص: باب أكل لحم الفرس

- ‌ص: كتاب الكراهة

- ‌ص: باب حلق الشارب

- ‌ص: باب استقبال القبلة بالفروج للغائط والبول

- ‌ص: باب أكل الثوم والبصل والكراث

- ‌ص: باب الرجل يمر بالحائط أله أن يأكل منه أم لا

- ‌ص: باب: لبس الحرير

- ‌ص: باب: الثوب يكون فيه علم الحرير أو يكون فيه من الحرير

- ‌ص: باب الرجل يتحرك سِنُّه هل يَشُدُّها بالذهب أم لا

- ‌ص: باب: التختم بالذهب

- ‌ص: باب نقش الخواتيم

- ‌ص: باب لبس الخاتم لغير ذي سلطان

- ‌ص: باب البول قائمًا

- ‌ص: باب القَسَم

- ‌ص: باب الشرب قائمًا

- ‌ص: باب: وضع إحدي الرجلين على الأخري

- ‌ص: باب: الرجل يتطرق في المسجد بالسهام

- ‌ص: باب: المعانقة

- ‌ص: باب: الصور تكون في الثياب

- ‌ص: باب: الرجل يقول: أستغفر الله وأتوب إليه

- ‌ص: باب: البكاء علي الميت

الفصل: ‌ص: باب صيد المدينة

‌ص: باب صيد المدينة

ش: أي هذا باب في بيان حكم صيد المدينة النبوية صلوات الله على ساكنها وأفضل سلامه.

ص: حدثا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأعمش، قال: حدثني إبراهيم التيمي، قال: حدثني أبي، قال:"خطبنا علي رضي الله عنه على منبر من آجر، وعليه سيف فيه صحيفة معلقة به، فقال: والله ما عندنا من كتاب نقرؤه إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، ثم نشرها، فإذا فيها: المدينة حرام من عير إلى ثور".

ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والأعمش هو: سليمان، وإبراهيم بن يزيد التيمي، -تيم الرباب- الكوفي، وأبوه: يزيد بن شريك التيمي.

وأخرجه البخاري (1): نا عمر بن حفص بن غياث، نا أبي، ثنا الأعمش، حدثني إبراهيم التيمي، حدثني أبي قال:"خطبنا علي رضي الله عنه. . ." إلى آخره نحوه سواء، غير أن لفظه في آخره:"فإذا فيها: أسنان الإبل" وإذا فيها: المدينة حرم من عَيْر إلي كذا، من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً.

وأخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب وأبو كريب، جميعًا، عن أبي معاوية -قال أبو كريب: ثنا أبو معاوية- قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: "خطبنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: من زعم أن عندنا شيئًا نقرأه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة -قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه- فقد كذب، فيها: أسنان الإبل، وأشياء من الجراحات، وفيها: قال

(1)"صحيح البخاري"(6/ 2662 رقم 6870).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 994 رقم 1370).

ص: 57

النبي عليه السلام: والمدينة حرم ما بين عائر إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا. . ." الحديث.

وأخرجه أبو داود (1): نا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه قال:"ما كتبنا عن رسول الله عليه السلام إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، قال: قال رسول الله عليه السلام: المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور. . ." الحديث.

وأخرجه الترمذي (2): ثنا هناد قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش. . . إلى آخره، نحو رواية أبي داود.

قوله: "من عَيْر إلى ثور" وفي أكثر الروايات: "من عائر إلى ثور" قال بعضهم (3): ليس بالمدينة ولا على مقربة منها جبل يسمى بهذين الإسمين، ولهذا ترك بعض الرواة موضع ثور بياضًا، وقال بعضهم: أما "عَيْر" فجبل معروف بالمدينة، وأما "ثور" فالمعروف أنه بمكة وفيها الغار التي بات فيها رسول الله عليه السلام لما هاجر، وفي رواية قليلة "ما بين عير إلى أحد" وأحد بالمدينة، فيكون ثور غلطًا من الراوي وإن كان هو الأشهر في الرواية، ويقال: إن عَيْرا جبل بمكة، ويكون المراد أنه حرَّم من المدينة قدر ما بين عير وثور من مكة، أو حرم المدينة تحريمًا مثل تحريم ما بين عير وثور بمكة على حذف المضاف.

وقيل: "إلى" ها هنا بمعنى "مع" كأنه جعل المدينة مضافة إلى مكة في التحريم، وقال الخطابي: عاير وثور جبلان، وزعم بعضهم أن أهل المدينة لا يعرفون بالمدينة جبلًا يقال له: ثور وإنما ثور بمكة، فيروى -أى الحديث- إنما أصله ما بين عائر إلى أحد.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 216 رقم 2034).

(2)

"جامع الترمذي"(4/ 438 رقم 2127).

(3)

انظر "معجم البلدان"(4/ 73).

ص: 58

قال القاضي: قوله: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور" كذا للرواة، وللعذري: عاير بألف هذان الإسمان هما اللذان جاءا في الحديث الآخر: "من كذا إلى كذا" فإما أن يكون في ذلك الحديث لم يضبط الراوي الاسمين أو كنى عنهما؛ لإنكار مصعب الزبيري وغيره هاتين الكلمتين، وقال: ليس بالمدنية عَيْر ولا ثور، قالوا: وإنما ثور بمكة، وقال الزبير: عير جبل بناحية المدينة، وأكثر الرواة في كتاب البخاري ذكروا عَيرًا، وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضًا إذْ اعتقدوا الخطأ في ذكره.

قال الإِمام: قال بعض العلماء: ثور ها هنا وهم من الراوي؛ لأن ثور بمكة، والصحيح:"إلى أحد" قال القاضي: كذا قال أبو عبيد: كأن الحديث أصله: "من عير إلى أحد".

قلت: "العير" بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء، و"الثور" بفتح الثاء المثلثة وسكون الواو على اسم الثور الحيوان المعروف.

ويستفاد من هذا الحديث أحكام:

الأول: أن الدينة لها حرم كحرم مكة على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى. الثاني: فيه رد على الرافضة والشيعة فيما يدعونه من إيداع أسرار العلم والشريعة لآل البيت وتخصيصهم بما لم يطلع عليه سواهم، وتكذيب لهم وهو مراد علي رضي الله عنه.

الثالث: فيه أن عليًّا رضي الله عنه ممن كتب العلم قديمًا.

الرابع: فيه جواز كتابة العلم والحديث.

الخامس: فيه أن الخطيب إذا خطب وهو متقلد سيفه لا بأس به.

السادس: فيه استحباب الخطبة على موضعٍ عالٍ، وذلك لأنه أبلغ إلى التبليغ إلى سائر الناس.

ص: 59

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا عبد الله بن جعفر، عن أبيه، عن إسماعيل بن محمد، عن عامر بن سعد:"أن سعدًا ركب إلى قصره بالعتيق، فوجد غلامًا يقطع شجرًا -أو يخبطه أظن فيه- فأخذ سلبه، فلما رجع أتاه أهل الغلام فكلموه أن يرد عليهم ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئًا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرده إليهم".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، عن أبيه، عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن أبي عبد الله قال:"شهدت سعد بن أبي وقاص وأتاه قوم في عبد لهم أخذ سعد سلبه رآه يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله عليه السلام فأخذ سلبه فكلموه، فأبى أن يرد عليه سلبه، فأبى وقال: إن رسول الله عليه السلام لما حَدَّ حدود حرم المدينة قال: من وجدتموه يصيد في شيء من هذه الحدود فمن وجده فله سلبه، فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله عليه السلام، ولكن إن شئتم غرمت لكم ثمن سلبه؛ فعلت".

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن عثمان بن حكيم، قال: أخبرني عامر بن سعد، عن أبيه:"أن رسول الله عليه السلام حرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عِضَاهُهَا، أو يقتل صيدها".

ش: هذه ثلاث طرق:

الأول: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي البصري، عن عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن القرشي المدني روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص المدني روى له الجماعة إلا أبا داود، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص المدني روى له الجماعة، عن سعد بن أبي وقاص أحد العشرة.

وأخرجه مسلم (1): ثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، جميعًا عن العقدي -

(1)"صحيح مسلم"(2/ 993 رقم 1364).

ص: 60

قال عبد: أنا عبد الملك بن عمرو- قال: نا عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمد، عن عامر بن سعد، أن سعدًا ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدًا يقطع شجرًا -أو يخبطه- فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم -أو عليهم- ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئًا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرد عليهم".

الثاني: رجاله ثقات أيضًا، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم الثقفي المكي نزيل البصرة، عن سليمان بن أبي عبد الله. . . إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا أبو سلمة موسى قال: ثنا جرير -يعني ابن حازم- قال: حدثني يعلى بن حكيم، عن سليمان بن أبي عبد الله قال:"رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلًا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله عليه السلام، فسلبه ثيابه، فجاءوا -يعني مواليه- فكلموه فيه، فقال: إن رسول الله عليه السلام حرم هذا الحرم، وقال: من [وجد] (2) أحدًا يصيد فيه فليسلبه. فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله عليه السلام، ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه".

الثالث: عن أحمد بن داود المكي، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه، فيه مقال، عن مروان بن معاوية بن الحارث الكوفي الثقة، عن عثمان بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري الثقة، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

وأخرجه مسلم (3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبد الله بن نمير (ح).

(1)"سنن أبي داود"(2/ 217 رقم 2037).

(2)

في "الأصل": "أخذ"، وهو سبق قلم أو تحريف، والمثبت من "سنن أبي داود".

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 992 رقم 1362).

ص: 61

وحدثنا ابن نمير، قال: نا أبي، قال: نا عثمان بن حكيم، قال: حدثني عامر بن سعد، عن أبيه قال: قال رسول الله عليه السلام: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة، أن يقطع عضاهها، أو يقتل صيدها. . ." الحديث.

قوله: "بالعقيق" هو واد من أودية المدينة مسيل للماء، وهو الذي ورد ذكره في الحديث "أنه واد مبارك" وقد استقصينا بيانه في كتاب الحج.

قوله: "أو يخبطه" من الخبط، وهو ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها، والاسم منه للورق الساقط: خَبط -بالتحريك- فعل بمعنى مفعول، وهو من علف الإبل.

قوله: ، "سلبه" بتحريك اللام، وهو ما عليه من قماشه.

قوله: "نفلنيه" من التنفيل، وأصله من النفل، وهو الغنيمة.

قوله: "ما بين لابتي المدينة" اللابة: الأرض ذات الحجارة السود، وجمعها: لابات في القليل، ولاب ولؤب في الكثير، مثل: قارة وقور، وساحة وسوح، وباحة وبوح.

وقال الهروي: أي ما بين طرفي المدينة، وقال ابن حبيب: اللابتان الحرتان الشرقية والغربية، وللمدينة حرتان؛ حرة في القبلة، وحرة في الجنوب، وترجع كلها إلى الحرتين: الغربية والشرقية؛ لاتصالهما بهما، ولذلك حرم رسول الله عليه السلام ما بين لابتيها، جميع دورها كلها في اللابتين، وقد ردها كلها حسان لابة واحدة؛ لاتصالها، فقال:

لنا حرة مأطورة بجبالها

بني العز فيها بيته فتماثلا

ومعنى مأطورة: معطوفة بجبالها لاستدارتها.

قوله: "عضاهها" العضاة -مقصور- كل شجر له شوك، واحده: عضاهة وعضهة وعضة، كالطلح والعوسج، وقال ابن الأثير: العضاة شجر أم غيلان، وكل شجر عظيم له شوك، الواحدة: عضة -بالتاء- وأصلها عضهة، وقيل: واحدتها عضاهة وعضهت العضاة إذا قطعتها.

ص: 62

وقال ابن حبيب: وتحريم النبي عليه السلام لابتي المدينة إنما ذلك في الصيد خاصة، وأما في قطع الشجر فيه فبريد في بريد في دور المدينة كلها، بذلك أخبرني مطرف، عن مالك، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن وهب، وقد ذكر مسلم في بعض طرقه:"إني أحرم ما بين جبليها"، وفي حديث أبي هريرة:"وجعل اثني عشر ميلًا حول المدينة حمى".

قال عياض: وهذا تفسير لما ذكره ابن وهب، ورواه مطرف، عن مالك وعمر بن عبد العزيز.

وقال المهلب: قَطْعُ النبي عليه السلام النخل فيها حين بنى المسجد، يدل أن النهي لا يتوجه لقطع شجرها للعمارة ووجه الإِصلاح، وأن يتخذ شجرها وشوكها ليتخذ موضعه قبابًا وعمارة وأن توجيه النهي إنما هو القطع للفساد لبهجة المدينة وخضرتها من غير الوارد عليها والمهاجر لها.

وقال القاضي: وقد ذكر ابن نافع عن مالك نحو هذا؛ قال: إنما نهى عنه لئلا تتوحش ويبقى فيها شجرها ليستأنس به، ويستظل به من هاجر إليها.

وحكى الخطابي وغيره: أن قطع الشوك غير ممنوع، لما فيه من الضرر، وقد ذكر مسلم في حديث زهير:"ولا يختلى شوكها" وقيل: بل قطعه عليه السلام للنخل إنما هو قطع لما غرسه الآدمي، فالنهي إنما يتوجه إلى ما أنبته الله تعالى ما لا صنع فيه لآدمي.

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا أحمد بن أبي بكر، قال: حدثني أبو ثابت عمران بن عبد العزيز الزهري، عن عبد الله بن يزيد مولى المنبعث، عن صالح بن إبراهيم، عن أبيه قال:"اصطدت طيرًا بالقُنْبُلة فخرجت به في يدي فلقيني أبي -عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه- فقال: ما هذا؟ فقلت: طير اصطدته بالقنبلة. فعرك أذني عركًا شديدًا، ثم أرسله من يدي، ثم قال: حرم رسول الله عليه السلام صيد ما بين لابتيها".

ص: 63

ش: أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث الزهري المدني شيخ الجماعة غير النسائي، وأبو ثابت عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، فيه مقال؛ قال يحيى: منكر الحديث، وقال مرة: ليس بثقة، وقال البخاري: منكر الحديث. وعبد الله بن يزيد وثقه ابن حبان، وروى له الأربعة غير الترمذي.

وصالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو عمران المدني روى له البخاري ومسلم حديثًا واحدًا في قتل أبي جهل يوم بدر.

وأبوه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني روى له البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه.

والحديث أخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث أبي ثابت عمران بن عبد العزيز. . . إلى آخره نحوه سواء. غي أن لفظه: "فعرك أذني عركًا شديدًا واستنزعه من يدي فأرسله".

قوله: "بالقُنْبُلة" بضم القاف وسكون النون وضم الباء الموحدة وفتح اللام وفي آخره هاء، وهي مصيدة يصاد بها النُّهَس، وهو أبو براقش.

قوله: "فلقيني أبي: عبد الرحمن" جملة من الفعل والفاعل والمفعول، فقوله:"أبي" فاعل لقوله: "لقيني"، وقوله:"عبد الرحمن" بالرفع عطف بيان من قوله: "أبي" فافهم.

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن يونس بن يوسف، عن عطاء بن يسار، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه:"أنه وجد غلمانًا ألجئوا ثعلبًا إلى زاوية، فطردهم، قال مالك: لا أعلم إلا أنه قال: أفي حرم رسول الله عليه السلام يصنع هذا؟! ".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 198 رقم 9749).

ص: 64

ش: إسناده على شرط مسلم، ورجاله كلهم رجاله، ويونس بن يوسف بن حماس الليثي المدني العابد، وأبو أيوب الأنصاري اسمه خالد بن زيد.

والحديث أخرجه مالك في "موطئه"(1).

ورواه البيهقي في "سننه"(2) من طريق مالك.

ص: حدثا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا سليمان الشيباني، عن يسير بن عمرو، عن سهل بن حُنَيف قال:"سمعت رسول الله عليه السلام وأهوى بيده إلى المدينة يقول: إنه حرام آمن".

ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وسليمان الشيباني هو: سليمان بن أبي سليمان فيروز الشيباني الكوفي، روى له الجماعة، ويسير -بضم الياء آخر الحروف وفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء- بن عمرو، ويقال: ابن جابر، ويقال: أسير العبدي، أدرك زمن النبي عليه السلام، وقيل: إن له رؤية.

وسهل بن حنيف الأنصاري الصحابي رضي الله عنه.

وأخرجه مسلم (3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا علي بن مسهر، عن الشيباني، عن يسير بن عمرو، عن سهل بن حنيف قال:"أهوى رسول الله عليه السلام بيده إلى المدينة فقال: إنها حرم آمن".

قوله: "أهوى" يقال: أهوى بيده إليه، أي: مدها نحوه.

ص: حدثنا محمد بن خريمة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا زياد بن سعد، عن شرحبيل بن سعد قال:"أتانا زيد بن ثابت ونحن ننصب فخاخا لنا بالمدينة، فرمى بها، وقال: ألم تعلموا أن رسول الله عليه السلام حرم صيدها؟! ".

(1)"موطأ مالك"(2/ 890 رقم 1578).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 198 رقم 975).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 1003 رقم 1375).

ص: 65

ش: إبراهيم بن بشار الرمادي أبو إسحاق البصري شيخ أبي داود والبخاري في غير "الصحيح".

وسفيان هو ابن عيينة وزياد بن سعد بن عبد الرحمن الخراساني روى له الجماعة.

وشرحبيل بن سعد أبو سعد الخطمي وثقه ابن حبان، وضعفه النسائي والدارقطني.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا عبد الرحمن بن محمد بن مسلم الرازي، ثنا محمد بن عمر العدني، ثنا سفيان، عن زياد بن سعد، عن شرحبيل بن سعد، عن زيد بن ثابت:"أن رسول الله عليه السلام حرم صيدها، يعني المدينة".

قوله: "فخاخًا" جمع فخٍّ -بتشديد الخاء المعجمة- وهو الذي يصاد به الطير.

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا أحمد بن إسحاق الحضرمي، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إبراهيم عليه السلام حرم مكة ودعا لهم، واني حرمت المدينة ودعوت لهم بمثل ما دعا به إبراهيم عليه السلام لأهل مكة: أن يبارك لهم في صاعهم ومدهم".

حدثنا عليّ، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني عمرو بن يحيى. . ." فذكر بإسناده مثله.

ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: عن علي بن معبد بن شداد المصري، عن أحمد بن إسحاق بن زيد الحضرمي البصري شيخ مسلم، عن وهيب بن خالد البصري، روى له الجماعة، عن عمرو بن يحيى بن عمارة الأنصاري المدني روى له الجماعة، عن عباد بن تميم بن خزيمة الأنصاري المدني ابن أخي عبد الله بن زيد، وكان تميم أخا عبد الله بن زيد لأمه -وقيل: لأبيه- عن عبد الله بن يزيد بن عاصم الأنصاري المازني المدني الصحابي رضي الله عنه.

(1)"المعجم الكبير"(5/ 151 رقم 4913).

ص: 66

وأخرجه البخاري (1): عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن عمرو بن يحيى. . . إلى آخره نحوه.

ومسلم (2): عن قتيبة، عن الدراوردي، وعن أبي كامل الفضيل، عن عبد العزيز ابن المختار، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، وعن إسحاق بن راهويه، عن مغيرة بن سلمة المخزومي، عن وهيب؛ كلهم عن عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، عن عمه بهذا.

الثاني: عن علي بن معبد أيضًا، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، عن عمرو بن يحيى. . . إلى آخره.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(3): من حديث عمرو بن يحيى. . . إلى آخره نحوه.

قوله: "ودعا لهم" أي: للمؤمنين الذين يحمونها.

فإن قيل: قد قلت في حديث آخر (4): "إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} (5) وجاء في حديث آخر (6): "ولم يحرمها الناس".

قلت: معنى تحريم إبراهيم عليه السلام يحتمل أن يكون بإعلام الله له إنه حرمها، فتحريمه لها بتحريم الله، لا من قبل اجتهاده ورأيه، أو وَكَّل الله تعالى إليه تحريمها، فكان عن أمر الله، فأضيف إلى الله مرة لذلك، ومرة إلى إبراهيم عليه السلام بحكمه.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 749 رقم 2022).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 991 رقم 1360).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 197 رقم 9736).

(4)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(4/ 1567 رقم 4059) من حديث مجاهد.

(5)

سورة النمل، الآية:[91].

(6)

متفق عليه من حديث أبي شريح العدوي؛ البخاري (1/ 51 رقم 104)، ومسلم (2/ 987 رقم 1354).

ص: 67

ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم عليه السلام حرم بيت الله وأَمَّنَه، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها".

ش: إسناده صحيح، وقبيصة بن عقبة السوائي شيخ البخاري، وسفيان هو الثوري، وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي.

وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، كلاهما عن أبي أحمد -قال أبو بكر: نا محمد بن عبد الله الأسديّ- قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال النبي عليه السلام: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة. . . " إلى آخره نحوه.

ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان (ح).

وحدثنا يونس قال: أنا أنس بن عياض، عن سعد بن إسحاق، عن زينب بنت كعب، عن أبي سعيد الخدري:"أن رسول الله عليه السلام حرم ما بين لابتي المدينة، أن يعضد شجرها، أو يخبط".

ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن يحيى العفاني، عن سعد بن إسحاق ابن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة زوجة أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): نا يحيى، عن سعد. . . إلى آخره نحوه.

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن أنس بن عياض. . . إلى آخره.

قوله: "أن يعضد" أي لأن يعضد أي يقطع شجرها.

"أو يخبط" من خبطت الشجرة إذا ضربتها بالعصا ليتناثر ورقها.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 922 رقم 1362).

(2)

"مسند أحمد"(3/ 23 رقم 11193).

ص: 68

ص: حدثنا حسين بن نصر وعلي بن معبد، قالا: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني عتبة بن مسلم مولى بني تميم، عن نافع بن جبير، عن رافع بن خديج:"أن رسول الله عليه السلام حرم ما بين لابتي المدينة".

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن عتبة بن مسلم، عن نافع بن [جبير] (1):"أن مروان بن الحكم خطب فذكر مكة وحرمتها وأهلها، ولم يذكر المدينة وحرمتها وأهلها، فقام رافع بن خديج فقال: ما لي أسمعك ذكرت مكة وحرمتها وأهلها، ولم تدكر المدينة وحرمتها وأهلها؟! وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة وذلك عندنا في الأديم الخولاني إن شئت أقرأتكه، فقال مروان: قد سمعت بعض ذلك".

حدثنا محمد بن خزيمة وفهد قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديج:"أنه سمع رسول الله عليه السلام ذكر مكة ثم قال: إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم حرم مكة، وإني حرمت ما بين لابتيها -يعني المدينة-".

ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن حسين بن نصر وعلي بن معبد بن نوح، كلاهما عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، عن عتبة بن مسلم التيمي المدني روى له الجماعة، عن نافع بن جبير بن مطعم بن عدي روى له الجماعة، عن رافع بن خديج -بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال، وفي آخره جيم- الأنصاري المدني.

وأخرجه الطبراني (2): نا يحيى بن أيوب العلاف، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا محمد بن جعفر. . . إلى آخره نحوه سواء.

(1) في "الأصل": "حكم"، وهو تحريف، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

(2)

"المعجم "الكبير" (4/ 257 رقم 4323).

ص: 69

الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن سليمان بن بلال القرشي المدني، روى له الجماعة. . . إلى آخره.

وقد وقع في رواية البيهقي في هذا الحديث: عبد الله بن مسلم عوض عتبة بن مسلم والصواب عتبة بن مسلم كما هو كذلك في رواية مسلم على ما نذكره، ووقع في بعض الرواية عقبة بن مسلم -بالقاف- وهو خطأ.

وأخرجه مسلم (1): نا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: نا سليمان بن بلال، عن عتبة بن مسلم، عن نافع بن جبير:"أن مروان بن الحكم خطب الناس. . ." إلى آخره نحوه.

الثالث: عن محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان كلاهما عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني الأعرج. . . إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا بكر -يعني- بن مضر، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة، وأنا أُحَرِّم ما بين لابتيها -يريد المدينة-".

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب أن مالكًا حدثه، عن عمرو مولى المطلب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن رسول الله عليه السلام طلع له أحد فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا عبد العزيز الدراوردي، عن عمرو، عن أنس، عن النبي عليه السلام نحوه.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 991 رقم 1361).

ص: 70

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس، عن رسول الله عليه السلام مثله.

حدثنا أبو أمية قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن عاصم، قال: سألت أنسًا رضي الله عنه: "أكان رسول الله عليه السلام حرم المدينة؟ فقال: نعم، هي حرام من لدن كذا إلى كذا".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن عاصم الأحول، عن أنس، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عاصم، عن أنس "أن النبي عليه السلام حرم المدينة ما بين كذا إلى كذا، لا يعضد شجرها".

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا عبيد الله، قال: أنا شريك عن عاصم الأحول قال: سمعت أنسًا يقول: عن النبي عليه السلام مثله، وزاد:"فمن أحدث فيها حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".

ش: هذه سبع طرق.

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب. . . إلى آخره.

وأخرجه مالك في "موطئه"(1).

وأخرجه البخاري (2) من حديث مالك.

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس.

(1)"موطأ مالك"(2/ 889 رقم 1576).

(2)

"صحيح البخاري"(3/ 1232 رقم 3187).

ص: 71

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا أحمد بن أبان القرشي، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس أن النبي عليه السلام قال:"أحد جبل يحبنا ونحبه".

وقد روي هذا الحديث عن أنس من غير وجه.

الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن سعيد بن منصور، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

الرابع: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن عبيد الله بن موسى العبسي شيخ البخاري، عن الحسن بن صالح الكوفي العابد، عن عاصم الأحول، عن أنس.

وأخرجه مسلم (1): حدثني زهير بن حرب، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا عاصم الأحول قال: "سألت أنسًا أحرم رسول الله عليه السلام المدينة؟ قال: نعم هي حرام، لا يختلى خلاها فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".

الخامس: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن عاصم الأحول، عن أنس.

وأخرجه البيهقي (2) من حديث عاصم، عن أنس. . . إلى آخره نحوه.

السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن عاصم، عن أنس، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه البخاري (3) من حديث ثابت بن يزيد، عن عاصم الأحول، عن أنس أن النبي عليه السلام قال:"إن المدينة حرام من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث، فمن أحدث فيها حدثًا. فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمين، لا يقبل منه صرف ولا عدل".

(1)"صحيح مسلم"(2/ 994 رقم 1366).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 197 رقم 9740).

(3)

"صحيح البخاري"(2/ 661 رقم 1768).

ص: 72

السابع: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، عن عبيد الله بن موسى العبسي شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن عاصم الأحول، عن أنس.

قوله: "طلع له أحد" أي ظهر له، كما تقول: طلعت الشمس، وأُحُدٌ منصرف لكونه علما وقيل: غير منصرف، وهو الجبل المعروف بالمدينة، سمي بهذا الاسم لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هنالك.

قال السهيلي: وفي أحد قبر هارون أخي موسى عليهما السلام، وفيه قبض ثم واراه موسى عليه السلام، وكانا قد مَرَّا بأحد حاجين أو معتمرين.

فإن قيل: ما معنى محبة أحد للنبي عليه السلام، ومحبة النبي عليه السلام إياه؟

قلت: هذا مجاز أما من جهة أُحد؛ فلأن معناه لو كان ممن يصح ويمكن فيه محبة كان يحبنا، وأما من جهة النبي عليه السلام فلأنه كان يفرح بأحد إذا طلع له؛ استبشارًا بالمدينة ومن فيها من أهلها، ويحب النظر إليه لقربه من النزول إليه بأهله، والأوبة من سفره، فلهذا المعنى كان عليه السلام يحبه.

وقال الإِمام: قيل المراد يحبنا أهله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كما في قوله تعالى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (1) أي حب العجل، وقال تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (2) أي أهلها.

قال القاضي: وقيل: يحتمل أن يكون حقيقة، وأن الله تعالى جعل فيه أو في بعضه إدراكًا ومحبة، كما قيل في تسبيح الحصى، وحنين الجذع، وشبه ذلك، وتكون هذه من خوارق العادات وجملة الآيات.

وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: أن محبتنا له محبة من يعتقد أنه يحبنا.

وقيل: يحتمل أن تكون المحبة هنا عبارة عن الانتفاع بمن يحبنا في الحماية والنصرة.

(1) سورة البقرة، آية:[93].

(2)

سورة يوسف، آية:[82].

ص: 73

وعندي جواب آخر مما فتح الله من الأنوار الإِلهية والفيض الرحماني، وهو أن النبي عليه السلام كان يحب أحدًا لكونه مقبرة لهارون عليه السلام كما ذكره السهيلي، أن هارون مدفون فيه، ومن العادة أن الناس يحبون البقع التي فيها قبور الأنبياء والصالحين، ولكونه أيضًا مقبرة لعمه سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه، وعم الرجل صنو أبيه، ولبقية الشهداء المدفونين هناك من أصحابه عليه السلام، ومن العادة أيضًا أن الناس يحبون البقع والأراضي التي فيها قبور آبائهم وأقاربهم، ويؤثرون الترداد إليها لأجل اشتمالها عليهم.

وأما محبة أحد إياه فيحتمل وجهين:

الأول: أنه عليه السلام لما ذكر محبته إياه التي هي حقيقة، ذكر في مقابلها محبة أُحد التي هي مجاز، ازدواجًا للكلام ومجانسة للألفاظ، وهذا من فن بديع الكلام.

الثاني: أن تكون محبته للنبي عليه السلام حقيقة بأن جعل الله فيه معنى من الإِدراك يصير به موصوفًا بالمحبة ليجازي من يحبه محبة منه، لأن من جزاء المحب أن يحب؛ لتصير المحبة على وجه الكمال. فافهم.

قوله: "من لدن كذا إلى كذا" قد فسر ذلك في بعض الروايات باثني عشر ميلا، وفي بعضها بريدًا في بريد، وفي أكثر الروايات:"من لابة إلى لابة" لأن المدينة مشتملة على اللابتين، وقد فسرناها.

قوله "لا يعضد" أي لا يقطع، من العَضَد، وهو القطع.

قوله: "من أحدث فيها حدثا" أي أتى إثما، والحدث: الأمر الحادث الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنة.

قوله: "فعليه لعنة الله. . ." إلى آخره وعيد شديد لمن فعل ذلك، ممن استحل حرمتها وأحدث فيها، وقد استدلوا لما جاءت به اللعنة أنه من الكبائر.

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: "لو أني

ص: 74

رأيت الظِّباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها؛ لأن رسول الله عليه السلام قال: ما بين لابتيها حرام".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري قال: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام قال:"إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة بمثل ما حرم، قال: ونهى النبي عليه السلام أن يعضد شجرها أو يخبط أو يؤخذ طيرها".

ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: رجاله كلهم رجال "الصحيح".

وأخرجه مالك في "موطئه"(1) والبخاري (2) ومسلم (3) من حديث مالك.

قوله: "وما ذعرتها" بالذال المعجمة أي: ما خوفتها.

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن إبراهيم بن حمزة الزبيري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار المدني، عن كثير بن زيد الأسلمي المدني، ثقة عند الأكثرين، عن الوليد بن رباح الدوسي المدني، عن أبي هريرة.

وروي هذا الحديث عن أبي هريرة من طرق مختلفة، ووجوه متعددة. فهذا كما رأيت قد أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن أحد عشر نفرًا من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب الأنصاري، وسهل ابن حنيف وزيد بن ثابت، وعبد الله بن زيد الأنصاري، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، ورافع بن خديج، وأنس بن مالك، وأبو هريرة رضي الله عنهم.

(1)"موطأ مالك"(2/ 889 رقم 1577).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 662 رقم 1774).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 999 رقم 1372).

ص: 75

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى تحريم صيد المدينة وتحريم شجرها، وجعلوها في ذلك كمكة في حرمة صيدها وشجرها، وقالوا: من فعل من ذلك شيئًا في حرم رسول الله عليه السلام حَلَّ سلبه لمن وجده يفعل ذلك، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، ومحمد بن مسلم الزهري، والشافعي، ومالكًا، وأحمد، وإسحاق؛ فإنهم قالوا: المدينة لها حرم كحرم مكة، فلا يجوز أخذ صيدها، ولا قطع شجرها، ولكنه لا يجب الجزاء في قتل الصيد، وقطع الشجر عندهم، خلافًا لابن أبي ذئب؛ فإنه قال: يجب الجزاء، وكذلك لا يحل سلب من يفعل ذلك عندهم إلا عند الشافعي، وهو مذهب الظاهرية أيضًا.

وقال ابن حزم: روي ذلك عن عمر وابنه عبد الله وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم.

وقال الخطابي: وتحريم المدينة إنما هو لأجل تعظيمها دون تحريم صيدها وشجرها واختلف الفقهاء في ذلك، فقال مالك والشافعي وطائفة: لا جزاء في صيد المدينة، ورأى ابن أبي ذئب في الصيد والشجر الجزاء.

وروي أن سعدًا وزيد بن ثابت وأبا هريرة كانوا يرون صيد المدينة حرامًا، ولم يصح إيجاب الجزاء عن واحدٍ منهم.

وقال الشافعي في القديم: من اصطاد في المدينة صيدًا أُخِذَ سلبه، وروى فيه أثرًا عن سعد، وقال في الجديد بخلافه.

وقال ابن نافع: سئل مالك عن قطع سدر المدينة وما جاء فيه من النهي؟ فقال: إنما نُهِيَ عن قطع سدر المدينة لئلا توحش؛ وليبقى فيها شجرها ويستأنس بذلك ويستظل به من هاجر إليها.

وقال ابن حزم: أما من احتطب في حرم المدينة فحلال سلبه كل ما معه في حاله تلك، وتجريده إلا ما يستر عورته فقط؛ لما روينا من طريق مسلم، فروى حديث سعد المذكور.

ص: 76

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما ذكرتموه من تحريم النبي عليه السلام صيد المدينة وشجرها، فقد كان فعل ذلك ليس أنه جعله كحرمة صيد مكة، ولا حرمة شجرها، ولكنه أراد بذلك بقاء زينة المدينة ليستطيبوها ويألفوها، وقد رأينا رسول الله عليه السلام منع من هدم آطام المدينة، وقال: إنها زينة المدينة.

حدثنا علي بن عبد الرحمن قال: ثنا يحيى بن معين قال: ثنا وهب بن جرير، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن آطام المدينة أن تهدم".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا إسحاق بن محمد الفروي، قال: ثنا العمري. . . فذكر بإسناده مثله.

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، قال: ثنا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر أن رسول الله عليه السلام قال:"لا تهدموا الآطام فإنها زينة المدينة".

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو مصعب، قال: ثنا الدراوردي. . . فذكر بإسناده مثله.

أفلا ترى أن رسول الله عليه السلام نهاهم عن هدم آطام المدينة؛ لأنها زينة لها، قالوا: فكل ما نهاهم عنه من قطع شجرها وقتل صيدها، إنما هو لأن ذلك زينة للمدينة فأراد أن يترك لهم فيها زينتها ليألفوها ويطيب لهم بذلك سكناها؛ لا لأنها تكون في ذلك كمكة في حرمة صيدها ونباتها ووجوب الجزاء على من انتهك شيء من ذلك.

ش: أي خالف المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وابن والمبارك وأبا حنيفة، وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: ليس للمدينة حرم كما كان لمكة، فلا يمنع من أخذ صيدها وقطع شجرها.

قوله: "فقالوا ما ذكرتموه. . . إلى آخره" جواب عن الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، بيانه أن يقال: إن تحريم النبي عليه السلام المدينة ليس على المعنى الذي

ص: 77

ذكرتموه، وإنما أراد بذلك بقاء زينة المدينة ودوام بهجتها؛ ليستطيب بها المهاجر إليها، ويألف بها، وتطيب بذلك سكناه، وهذا المعنى هو الذي نقله ابن نافع عن مالك، وقد ذكرناه، وحكي [عن](1) الخطابي أيضًا.

ثم مَثَّل الطحاوي على ذلك المعنى بمعنى حديث ابن عمر: "أنه عليه السلام نهى عن آطام المدينة أن تهدم" فإنه عليه السلام لم ينه عن ذلك لكونه حرامًا، وإنما نهى لكون الآطام زينة لها إذا هدمت توحش وتنفر عن السكنى، والدليل على صحة ذلك: أنه عليه السلام علل ذلك بقوله: "فإنها زينة المدينة".

ثم إنه أخرج حديث ابن عمر هذا من أربع طرق:

الأول: إسناده صحيح، عن علي بن عبد الرحمن بن المغيرة، عن يحيى بن معين الإِمام الحجة، عن وهب بن جرير بن حازم، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا الحسن بن يحيى، ثنا محمد بن سنان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، نحوه.

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، [عن](2) إسحاق بن محمد الفروي المدني شيخ البخاري، عن عبيد الله بن عمر العمري، عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما.

الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن عبد العزيز الدراوردي، عن عبد الله بن نافع فيه مقال، ضعفه يحيى، وقال الدارقطني: متروك.

عن أبيه نافع، عن ابن عمر.

الرابع: عن روح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني، عن أبي مصعب

(1) في "الأصل، ك": "عنه"، وقد تقدم كلام الخطابي من قوله نفسه عند الكلام على أهل المقالة الأولى.

(2)

تكررت في "الأصل، ك".

ص: 78

أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة قاضي مدينة الرسول وشيخ الجماعة سوى النسائي، عن الدراوردي، عن عبد الله بن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

قوله: "عن آطام المدينة" جمع أطم -بضم الهمزة والطاء- وهو بناء مرتفع، وأراد بآطام المدينة أبنيتها المرتفعة كالحصون.

ص: ثم نظرنا هل نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك دليلًا يدلنا على ما ذكرنا فإذا إسماعيل بن يحيى المزني قد حدثنا، قال: قرأنا على محمد بن إدريس الشافعي، عن الثقفي، عن حميد الطويل، عن أنس قال:"كان لأبي طلحة ابن من أم سليم يقال له: أبو عمير، وكان رسول الله عليه السلام يضاحكه إذا دخل، وكان له نغير، فدخل رسول الله عليه السلام فرأى أبا عمير حزينًا فقال: ما شأن أبي عمير، فقيل: يا رسول الله مات نغير، فقال رسول الله عليه السلام: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ ".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، عن حميد، عن أنس قال: كان لأبي طلحة ابن يدعى أبا عمير، فكان له نغير، فكان رسول الله عليه السلام إذا دخل قال: يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ ".

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن أبي التياح قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "كان رسول الله عليه السلام يخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ ".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت، عن أنس قال:"كان لي أخ فكان النبي عليه السلام يستقبله ويقول: يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ ".

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا قد كان بالمدينة، ولو كان حكم صيدها كحكم صيد مكة إذًا لما أطلق له رسول الله عليه السلام حبس النغير، ولا اللعب به كما لا يطلق ذلك بمكة.

ش: أشار بهذا إلى بيان دليل يدل على صحة ما قاله من قوله: قالوا: فكذلك ما نهاهم عنه من قطع شجرها وقتل صيدها، وهو قضية النغير الذي كان لأبي عمير

ص: 79

أخي أنس بن مالك من أمه، وكان يلعب به وهو في المدينة، فلو كان حكم صيد المدينة مثل حكم صيد مكة؛ لما كان رسول الله عليه السلام يجيز له حبس النغير، ولا لعب أبي عمير به، فلما سكت عن ذلك دل على إباحة صيد المدينة، وأن حكمه خلاف حكم صيد مكة.

فإن قيل: يجوز أن يكون كان ذلك قبل تحريم المدينة، أو يكون كان أدخله في الحل ولم يصده في حرم المدينة.

قلت: أما الأول فاحتمال فلا تقوم به الحجة علينا، وأما الثاني فلا يتمشى علينا؛ لأن الحلال إذا أدخل الصيد في الحرم يجب عليه إرساله.

ثم إنه أخرج حديث أنس من أربع طرق:

الأول: إسناده صحيح، عن المزني، عن الشافعي، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي البصري، عن حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه.

وأخرجه النسائي في "اليوم والليلة"(1): عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس نحوه.

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب الغافقي، عن حميد، عن أنس، وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا ابن مثنى، نا خالد، عن حميد، عن أنس قال:"كان لأم سليم ابن يقال له: أبو عمير، فكان النبي عليه السلام ربما مازحه، فدخل يومًا فوجده حزينًا، فقال: ما بال أبي عمير؟ قالوا: يا رسول الله، مات نغيره الذي كان يلعب به، فجعل يقول: أبا عمير ما فعل النغير؟ ".

الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن أبي التياح يزيد بن حميد الضبعي البصري عن أنس.

(1)"عمل اليوم والليلة"(1/ 286 رقم 332).

ص: 80

وهذا أيضًا صحيح.

أخرجه مسلم (1): ثنا شيبان بن فروخ قال: ثنا عبد الوارث، عن أبي التياح، عن أنس بن مالك، قال:"كان رسول الله عليه السلام أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير -قال: وأحسبه قال: فطيما- قال: فكان إذا جاء رسول الله عليه السلام فرآه، قال: أبا عمير ما فعل النغير؟ قال: فكان يلعب به".

الرابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن عمارة بن زاذان الصيدلاني، عن ثابت، عن أنس.

وهذا إسناد لا بأس به، وعمارة بن زاذان وثقه جماعة، وضعفه بعضهم.

قوله: "كان لأبي طلحة ابن من أم سليم" أبو طلحة اسمه زيد بن سهل الأنصاري، وأم سليم بنت ملحان، أم أنس بن مالك، واسمها سهلة، ويقال: رميلة، ويقال: مليكة، ويقال: غير ذلك، كانت تحت مالك بن النضر في الجاهلية، فولدت أنسًا، فلما جاء الله بالإِسلام أسلمت مع قومها، وعرضت الإِسلام على زوجها فغضب عليها وخرج إلى الشام فهلك هناك ثم خلف عليها بعده أبو طلحة الأنصاري، فولدت له أبا عمير، فمات صغيرًا.

و"نغير" بضم النون وفتح الغين المعجمة وفي آخره راء، وهو تصغير نغر، هو هو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار ويجمع على نغران.

ص: فقال قائل: فقد يجوز أن يكون هذا الحديث بِقَنَاة وذلك الموضع غير موضع الحرم، فلا حجة لكم في هذا الحديث.

فنظرنا، هل نجد فيما سوى هذا الحديث ما يدل على شيء من حكم صيد المدينة؟.

فإذا عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي وفهد قد حدثانا، قالا: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن مجاهد، قال: قالت عائشة رضي الله عنها: "كان لآل

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1692 رقم 2150).

ص: 81

رسول الله عليه السلام وحش، فإذا خرج لعب واشتد، وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله عليه السلام قد دخل ربض، فلم يترمرم؛ كراهة أن يؤذيه".

فهذا بالمدينة في موضع قد دخل فيما حرم منها، وقد كانوا يأوون فيه الوحش، ويتخذونها، ويغلقون دونها الأبواب، وقد دل هذا أيضًا على أن حكم المدينة في ذلك بخلاف حكم مكة.

ش: تقرير ما قاله هذا القائل: إن يقال: إن حديث أنس الذي فيه حكايه نغير يحتمل أن يكون في غير موضع الحرم من المدينة، وهو أن يكون بقناة -بفتح القاف والنون- وهو واد من أودية المدينة عليه حرث ومال وزرع، وقد يقال فيه: وادي قناة، وهو غير مصروف، فإذا كان كذلك فلا تقوم به الحجة، فأجاب عنه بقوله:"فنظرنا. . ." إلى آخره هذا جواب بطريق التسليم، بيانه أن يقال: ولئن ثبت أن حديث أنس كان في قناة الذي هو خارج عن حرم المدينة -على زعمكم- وكنا قد وجدنا حديثًا يدل صريحًا على ما ذهبنا إليه، وهو حديث عائشة؛ فإنه صرح بأنهم كانوا يأوون الوحش في نفس المدينة، ويتخذونها ويغلقون عليها الأبواب، فدل ذلك أن حكم المدينة في الصيد ونحوه على خلاف حكم مكة.

وإسناد حديث عائشة صحيح، وأبو نعيم الفضل بن دكين.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا أبو نعيم، قال: ثنا يونس، عن مجاهد قال: قالت عائشة. . . إلى آخره.

قوله: "وحش": قال الجوهري: الوحش واحد الوحوش، وهي حيوان البر، الواحد وحشي، يقال: حمار وحش بالإِضافة، وحمار وحشي.

قوله: "ربض" من الربوض، وربوض الغنم والبقر والفرس والكلب، كبروك الجمل، وجثوم الطير، يقال منه: ربضت الغنم، تربِضُ -بالكسر- ربوضًا، وأربضتها أنا.

(1)"مسند أحمد"(6/ 112 رقم 24862).

ص: 82

قوله: "لم يترمرم" من ترمرم إذا حرك فاه للكلام، وهو بالرائين المهملتين ويستفاد منه: هيبة النبي عليه السلام، وجواز اقتناء الوحوش في البيت، وفيه دلالة على أن حرمة المدينة ليست كحرمة مكة في الصيد ونحوه.

ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي قتيلة المدني، قال: ثنا محمد بن طلحة التيمي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي سلمة، بن عبد الرحمن بن سلمة بن الأكوع:"أنه كان يصيد، ويأتي النبي عليه السلام من صيده فأبطأ عليه ثم جاءه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الذي حبسك؟ فقال: يا رسول الله، انتفى عنا الصيد فصرنا نصيد ما بين تيت إلى قناة. فقال رسول الله عليه السلام: أما إنك لو كنت تصيد بالعقيق لشيعتك إذا ذهبت، وتلقيتك إذا جئت؛ فإني أحب العقيق".

حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا محمد بن طلحة التيمي، عن موسى بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن سلمة بن الأكوع، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: ثنا محمد بن طلحة، قال: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي. . . ثم ذكر بإسناده مثله.

ففي هذا الحديث ما يدل على إباحة صيد المدينة، ألا ترى أن رسول الله عليه السلام قد دل سلمة وهو بها على موضع الصيد، وذلك لا يحل بمكة، ألا ترى أن رجلًا لو دل وهو بمكة رجلًا على صيد يصيدها، كان آثما، فلما كانت المدينة في ذلك ليست كمكة؛ ثبت أن حكم صيدها خلاف حكم صيد مكة؛ شرفها الله تعالى.

ش: ذكر حديث سلمة بن الأكوع شاهدًا لقوله: وقد دل هذا أيضًا على أن حكم المدينة في ذلك بخلاف حكم مكة؛ لأن في حديث سلمة ما يدل على هذا صريحًا، كما بينه الطحاوي بقوله: ففي هذا الحديث ما يدل على إباحة صيد المدينة. . . إلى آخره.

ص: 83

وأخرج حديث سلمة من ثلاث طرق:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن ابن أبي قُتَيلة -بضم القاف، وفتح التاء المثناة من فوق، وسكون الياء آخر الحروف بعدها لام- هو يحيى بن إبراهيم بن عثمان السلمي، أبو إبراهيم المدني، وثقه ابن حبان وأبو حاتم الرازي، وروى له النسائي.

وهو يروي عن محمد بن طلحة التيمي الذي يقال له: ابن الطويل، قال أبو حاتم: محله الصدق، يكتب حديثه ولا يحتج به، روى له ابن ماجه.

وهو يروي عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي المدني، فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف الحديث، وعنه: ليس بشيء. وقال أبو زرعة: منكر الحديث، روى له الترمذي وابن ماجه.

وهو يروي عن أبيه محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي روى له الجماعة.

وهو يروي عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف روى له المجماعة.

وهو يروي عن سلمة بن الأكوع.

وأخرجه الطبراني (1): ثنا يحيى بن عثمان بن صالح، ثنا نعيم بن حماد.

وحدثنا أحمد بن إبراهيم بن عنبر البصري، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قالا: ثنا محمد بن طلحة التيمي، ثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن سلمة بن الأكوع قال:"كنت أرمي الوحش أصيدها، وأهدي لحومها إلى رسول الله عليه السلام، ففقدني رسول الله عليه السلام فقال: سلمة أين تكون؟ فقلت: بعُد عليّ الصيد يا رسول الله فإنما أصيد بصدور قناة من نحو تيت، فقال: أما لو كنت تصيد بالعقيق لشيعتك إذا ذهبت، وتلقيتك إذا جئت، فإني أحب العقيق".

(1)"المعجم الكبير"(7/ 6 رقم 6222).

ص: 84

الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن نعيم بن حماد المروزي الفارضي الأعور شيخ البخاري في المقرنات، عن محمد بن طلحة التيمي. . . إلى آخره.

الثالث: عن أحمد بن داود المكي، عن إبراهيم بن المنذر بن عبد الله الأسدي الحزامي المدني، عن محمد بن طلحة. . . إلى آخره.

قوله: "ما بين تِيت إلى قناة" تِيت -بكسر التاء المثناة من فوق، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره تاء مثناة أخرى- ويقال: تيت على وزن سيد.

قال الصنعاني: هو جبل قرب المدينة، على بريد منها.

ص: وفي هذا الحديث أيضًا: إباحة صيد العقيق، وقد روينا عن سعد في الفصل الأول، عن النبي عليه السلام في ذلك، ما قد روينا، ففي هذا ما يخالفه.

فأما [ما](1) في حديث سعد من إباحة سلب الذي يصيد صيد المدينة، فإن ذلك عندنا -والله أعلم- في وقت كانت العقوبات التي تجب بالمعاصي في الأموال. فمن ذلك ما قد روي عن النبي عليه السلام في الزكاة أنه قال:"من أداها طائعًا فله أجرها، ومن لا؛ أخذناها منه وشطر ماله" وما روي عنه فيمن سرق ثمرًا من أكمامه أنه عليه غرامة مثليه، وفي نظائر لذلك كثيرة، قد ذكرناها في موضعها من كتابنا هذا، ثم نُسِخَ ذلك في وقت نسخ الربا، فردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كان لها أمثال، وإلى قيمتها إن كان لا مِثْل لها، وجعلت العقوبات في انتهاك الحُرَم في الأبدان لا في الأموال، فهذا وجه ما روي في صيد المدينة.

ش: أي وفي حديث سلمة بن الأكوع: إباحة صيد العقيق أيضًا، كما فيه إباحة صيد المدينة، وهذا يخالف ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي مر ذكره في أول الباب؛ لأن فيه أن سعدا أخذ سلب ذلك العبد الذي رآه يقطع شجرًا بالعقيق، وفي رواية: "رآه يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله عليه السلام. وحديث سلمة بن الأكوع المذكور يعارض هذا ويضاده، وقد بين الطحاوي

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 85

وجه المخلِّص في ذلك، وهو أن فعل سعد الذي ذكر إنما كان في وقت كانت العقوبات التي تجب بالمعاصي في الأموال، كما كان في حق مانع الزكاة: أن تؤخذ منه الزكاة ويؤخذ عليها شطر ماله، وكما كان في حق من سرق الثمر من أكمامه: أن يغرم مثلي ما سرقه، ثم نسخت هذه الأشياء حين نسخ الربا، ورُدَّت الأشياء المأخوذة ظلمًا وغضبًا إلى أمثالها إن كانت لها أمثال، وإلى قيمتها إن لم يكن لها أمثال.

يعني إذا اغتصب رجل شيء آخر يحكم عليه بمثله، إن كان من ذوات الأمثال وإلا يحكم عليه بقيمة ذلك الشيء إما يوم الغصب، أو يوم الهلاك، أو يوم اليقين، على اختلاف فيه على ما عرف في الفروع.

قوله: "من أكمامه" جمع كِم -بكسر الكاف- هو: وعاء الطلع، وغطاء النُّور، وكذلك الكمامة.

قال الجوهري: جمع الكِم: كمام وأكمة، وأكام وأكاميم، وأما الكُمُّ -بالضم- فللقميص، والكَمِّ -بالفتح- مصدر كممت الشيء: إذا غطيته.

قوله: " قد ذكرناها في موضعها من كتابنا هذا" ذكره في (1).

قوله: "فهذا وجه ما روي في صيد المدينة" أي الذي ذكرناه إلى الآن هو وجه التوفيق بين الأحاديث التي رويت فيحكم صيد المدينة.

ص: وأما حكم ذلك من طريق النظر: فإنا رأينا مكة حرام، وصيدها وشجرها كذلك، هذا ما لا اختلاف فيه بين المسلمين، ثم رأينا من أراد دخول مكة لم يكن له أن يدخلها إلا حرامًا، فكان دخول الحرم لا يحل للحلال، وكانت حرمة صيده وشجره كحرمته في نفسه.

ثم رأينا المدينة كلٌّ قد أجمع أنه لا بأس بدخولها للرجل حلالاً، فلما لم تكن محرمة في نفسها كان حكم صيدها وشجرها كحكمها في نفسها، وكما كان صيد مكة إنما حرم لحرمتها، ولم تكن المدينة في نفسها حرام؛ لم يكن صيدها ولا شجرها حرامًا.

(1) بيض له المصنف.

ص: 86

فثبت بذلك قول من ذهب إلى أن صيد المدينة وشجرها كصيد سائر البلدان وشجرها غير مكة، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي وأما حكم المدينة في تحريمها وعدم تحريمها وحكم صيدها وشجرها من طريق النظر والقياس، وهو ظاهر، ولكن لقائل أن يقول: منع دخول الحلال الحرم لم يكن لمجرد كون مكة حرامًا؛ بل إنما كان لكونها حرامًا، ولأجل الطواف عقيب الدخول، بخلاف المدينة فإنه ليس فيها طواف، فكانت مكة والمدينة متساويتين في الحرمة، فكما حرم قطع شجر مكة وأخذ صيدها لكوخها حرامًا، فكذلك يحرم قطع شجر المدينة وأخذ صيدها لكونها حرامًا.

قوله: "مكة حرام" هكذا وقع في كثير من النسخ بارتفاع "حرام" على أنه خبر عن قوله: "مكة" وفي بعضها: "مكة حرامًا" بالنصب على أنهما مفعولان لقوله: "رأينا" وهو الظاهر، والأول على التأويل. فافهم.

قوله: "كل قد أجمع" أي كل العلماء قد أجمعوا أنه أي أن الشأن.

قوله: "فثبت بذلك" أي بما ذكرنا من وجه النظر والقياس. والله أعلم.

***

ص: 87