الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب أكل الضبع
ش: أي هذا باب في بيان حكم أكل الضبع هل يجوز أم لا؟ والضبع -بفتح الضاد وضم الباء وتسكينها- هو حيوان معروف، ولا يقال في الأنثى: ضبعة؛ لأن الذكر ضبعان، والجمع ضباعين، مثل سرحان وسراحين، والأنثى: ضِبْعانة، والجمع [ضبعانات](1) وضباع وهذا الجمع للذكر والأنثى مثل سبع وسباع.
ص: قال أبو جعفر: ذهب قوم إلى إباحة أكل لحم الضبع، واحتجوا في ذلك بحديث ابن أبي عمار أن رسول الله عليه السلام قال:"هي من الصيد"، وبحديث إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك، "ويؤكل"، وقد ذكرنا ذلك بإسناده في "كتاب مناسك الحج".
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم أباحوا أكل لحم الضبع وهو مذهب الظاهرية أيضًا.
واحتجوا في ذلك بحديث عبد الرحمن بن أبي عمار: "أنه سأل جابرًا عن الضبع، فقال: أأكلها؟ قال: نعم، قال: أصيد هي؟ قال: نعم. قال: أسمعت ذلك عن النبي عليه السلام؟ فقال: نعم".
أخرجه الطحاوي في "كتاب الحج" من ثمان طرق، وقد ذكرنا هناك أن أبا دواد والترمذي وابن ماجه أخرجوه (2).
واحتجوا أيضًا بحديث إبراهيم الصائغ، عن عطاء عن جابر عن النبي عليه السلام مثله.
وأخرجه الطحاوي هناك، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر الحوضي، عن حسان بن إبراهيم، عن إبراهيم الصائغ به.
(1) في "الأصل، ك": "ضبعانة"، والمثبت من "مختار الصحاح":(ضبع).
(2)
تقدم.
وأخرجه البيهقي في "سننه" نحوه، وقد ذكرناه هناك (1).
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يؤكل.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري وسعيد بن المسيب والأوزاعي والثوري وعبد الله بن المبارك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا فإنهم قالوا: لا يؤكل الضبع.
وأخرج عبد الرزاق (2): عن الثوري، ثنا سهيل بن أبي صالح، عن عبد الله بن يزيد قال:"سألت سعيد بن المسيب عن الضبع؟ فكرهه، فقلت له: إن قومك يأكلونه، فقال: إن قومي لا يعلمون" وقال الأوزاعي: "كان العلماء بالشام يعدونها من السباع، ويكرهون أكلها".
ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن حديث جابر هذا قد اختلف في لفظه؛ فرواه كل واحد من حديث إبراهيم الصائغ كما ذكرنا عنه، ورواه ابن جريج على خلاف ذلك، فذكر عن ابن أبي عمار:"أنه سأل جابرًا عن الضبع، فقال: أصيد هي؟ قال: نعم، قال: وسمعت ذلك من النبي عليه السلام؟ فقال: نعم".
فأخبر عن النبي عليه السلام أنها صيد، وليس كل الصيد يؤكل، فاحتمل أن تكون الزيادة على ذلك المذكور في حديث ابن جريج من قول جابر؛ لأنه سمع النبي عليه السلام سماها صيدًا.
واحتمل أن يكون عن النبي عليه السلام فلما احتمل ذلك، ووجدنا السنة قد جاءت عن رسول الله عليه السلام أنه نهى عن كل ذي ناب من السباع، والضبع ذو ناب، لم يُخْرج من ذلك شيئًا، قد علمنا أنه دخل فيه شيء لم نعلم يقينا أنه أخرجه.
ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه من تحريم أكل الضبع. . . إلى آخره.
(1) تقدم.
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(4/ 514 رقم 8687) بنحوه.
بيان ذلك: أن حديث جابر رضي الله عنه مضطرب في متنه؛ لأن جماعة رووه من حديث إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن جابر، على خلاف ما رواه عبد الملك بن جريج، عن عبد الله بن عبيد، عن عبد الرحمن بن أبي عمار، عن جابر، وذلك لأن ابن جريج روى عن ابن عبيد، عن ابن أبي عمار، عن جابر:"أنه سأله عن الضبع، أأكلها؟ قال: نعم، فقال: أصيد هي؟ قال: نعم. قال: وسمعت ذلك من النبي عليه السلام؟ فقال: نعم".
وأخرجه الترمذي (1)، وقال: حديث حسن صحيح.
وروى إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن جابر، عن النبي عليه السلام قال:"الضبع صيد، وجزاؤها كبش مُسِنٌ ويؤكل".
وأخرجه البيهقي (2).
فأخبر في هذا الحديث عن النبي عليه السلام: "أن الضبع صيد، وما كلّ صيدٍ يؤكل، ثم قوله: "ويؤكل" زيادة على رواية غيره، ويحتمل أن تكون تلك الزيادة من قول جابر نفسه، ويحتمل أن تكون من النبي عليه السلام، فلما احتمل ذلك، ووجدنا السنة قد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم بطرق صحيحة أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، ولا شك أن الضبع ذو ناب فشملته السنة الصحيحة، فخرج بذلك عن أن يكون من المأكولات.
فإن قيل: ليس هذا باضطراب ولا خلاف في الحديث، بل إنما هو زيادة في بعض الطرق على الباقية فتقبل الزيادة ويعمل بها.
قلت: روى تلك الزيادة إبراهيم الصائغ، فقد قال أبو حاتم: لا يحتج به، وذكره النسائي في "الضعفاء".
(1)"جامع الترمذي"(3/ 207 رقم 851).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 183 رقم 9655).
وأجاب بعض أصحابنا في هذا الموضع فقال: حديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع صحيح مشهور، ثابت مروي من عدة طرق، فلا يعارض به حديث "الضبع صيد" لأنه انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار، وليس هو بمشهور بنقل العلم، ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه، كذا قال: صاحب "التمهيد".
فإن قيل: وقد روي أيضًا عن طريق عطاء، عن جابر كما ذكرنا.
قلت: فيه شخصان فيهما كلام، وهما حسان بن إبراهيم، عن إبراهيم بن ميمون الصائغ.
أما حسان فقد ذكره النسائي في "الضعفاء"، وقال: ليس بالقوي.
وأما الصائغ فقد ذكرنا الآن عن أبي حاتم ما قال فيه.
وقال الكاساني: حديث النهي عن كل ذي ناب من السباع مشهور مُحَرِّم، وحديث جابر في الضبع ليس بمشهور وهو مُحَلِّل، فالمحرِّم يقضي على المبيح؛ احتياطًا. انتهى.
وقد أثبت بعض أصحابنا فيه النسخ؛ فقال: حديث جابر منسوخ.
فإن قيل: كيف هذا النسخ؟ وما وجهه؟
قلت: قال شمس الأئمة بعد أن ذكر طرق التخلص عن التعارض بين الأحاديث: وأما طلب التخلص بدلالة التاريخ، وهو أن يكون أحد النصين موجبا للحظر، والآخر موجبًا للإباحة نحو ما روي أنه عليه السلام نهى عن أكل الضب، وروي أنه رخص فيه، وما روي أنه نهي عن أكل الضبع، وروي أنه رخص فيه، فإن التعارض بين النصين ثابت من حيث الظاهر، ثم ينتفي ذلك بالمصير إلى دلالة التاريخ، وهو أن النص الموجب للحظر لأنه يكون متأخرًا عن الموجب للإباحة، فكان الأخذ به أولى
فإن قيل: أجعل الموجب للإباحة في حكمه؟
قلت: لا يمكن ذلك؛ لأنه يلزم منه إثبات النسخ مرتين: نسخ الإباحة الثابتة في الابتداء بالنص الموجب للحظر، ثم نسخ الحظر بالنص الموجب للإباحة، فإذا جعلنا نص الحظر متأخرًا احتجنا إلى إثبات النسخ في أحدهما خاصة، فكان هذا الجانب أولى، ولأنه قد ثبت بالاتفاق نسخ حكم الإباحة بالحظر، فأما نسخ حكم الحظر بالإباحة محتمل، وبالاحتمال لا يثبت النسخ، ولأن النص الموجب للحظر فيه زيادة حكم، وهو نيل الثواب بالانتهاء، واستحقاق العقاب بالإقدام عليه، وذلك ينعدم في النص الموجب للإباحة، فكان تمام الاحتياط في إثبات التاريخ بينهما على أن يكون الموجب للحظر متأخرًا والأخذ بالاحتياط أصل في الشرع.
ص: فمما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم كل ذي ناب من السباع ما حدثنا ربيع المؤذن ونصر بن مرزوق، قالا: ثنا أسد قال: ثنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:"نهى رسول عليه السلام عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير".
حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن أبي بشر، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير".
حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا يحيى بن حسان، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر. . . فذكر بإسناده مثله، وقال:"نهى رسول الله عليه السلام. . .".
حدثنا أحمد بن عبد المؤمن المروزي، قال: ثنا علي بن الحسن بن شقيق، قال: ثنا أبو عوانة. . . فذكر بإسناده مثله.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن المبارك، قال: ثنا خالد بن الحارث، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن علي بن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع".
حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة الخشني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثله.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عيسى بن إبراهيم، قال: ثنا عبد العزيز بن مسلم، قال: ثنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
فقد قامت الحجة عن رسول الله عليه السلام بنهيه عن كل ذي ناب من السباع، وتواترت بذلك الآثار عنه، فلا يجوز أن يخرج من ذلك الضبع إذا كانت ذا ناب من السباع، إلا بما تقوم علينا به الحجة بإخراجها من ذلك، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي فمن الذي روي عن النبي عليه السلام في تحريم أكل كل ذي ناب من السباع.
ولما كان الضبع من ذوات الناب، وكل ذي ناب حرام أكله، فالضبع حرام أكله؛ لأن أحاديث تحريم ذوات الناب متواترة -يعني كثيرة مشهورة- فقامت بها الحجة، فلا يخرج عنها الضبع إلا بما هي حجة مثلها.
ثم إنه أخرج في ذلك عن أربعة من الصحابة وهم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وأبو ثعلبة الخشني، وأبو هريرة رضي الله عنهم.
أما حديث علي رضي الله عنه فأخرجه بإسناد صحيح، عن ربيع بن سليمان المؤذن -صاحب الشافعي- ونصر بن مرزوق، كلاهما عن أسد بن موسى، عن عبد المجيد ابن عبد العزيز بن أبي رواد المكي، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي، عن عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأخرجه أبو يعلى في "مسنده"(1): ثنا أبو خيثمة نا عبد الصمد بن عبد الوارث أخبرني أبي، ثنا الحسن بن ذكوان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير، وعن ثمن الميتة، وعن ثمن الخمر، و [الحمر] (2) الأهلية، وكسب البغيّ، وعن عسب كل ذي فحل".
وأما حديث ابن عباس: فأخرجه من خمس طرق صحاح:
الأول: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن ميمون بن مهران الجزري الأسدي، عن عبد الله بن عباس.
وأخرجه مسلم (3): عن يحيى بن يحيى، عن هشيم، عن أبي بشر، عن ميمون ابن مهران، عن ابن عباس نحوه.
الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن يحيى بن حبان التنيسي شيخ الشافعي، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن ميمون بن مهران عن ابن عباس.
وأخرجه مسلم (4) أيضًا: حدثني أبو كامل الجحدري، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير".
الثالث: عن أحمد بن عبد المؤمن المروزي، عن علي بن الحسن بن شقيق المروزي، عن أبي عوانة الوضاح، عن أبي بشر، عن ميمون.
(1)"مسند أبي يعلى"(1/ 295 رقم 357).
(2)
في "الأصل، ك": "حمر" بدون تعريف، والمثبت من "مسند أبي يعلى".
(3)
"صحيح مسلم"(3/ 1534 رقم 1934).
(4)
"صحيح مسلم"(3/ 12534 رقم 1934).
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1).
الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الرحمن بن المبارك بن عبد الله الطفاوي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن خالد بن الحارث بن عبيد البصري، عن سعيد بن أبي عروبة، عن علي بن الحكم البناني البصري، عن ميمون بن مهران، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وأخرجه أبو داود (2): ثنا محمد بن بشار، عن ابن أبي عدي، عن ابن أبي عروبة، عن علي بن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"نهى رسول الله عليه السلام يوم خيبر عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير".
الخامس: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهم.
وأما حديث أبي ثعلبة الخشني: فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني، عن أبي ثعلبة الخشني: وقد اختلف في اسمه؛ فقيل: جرثومة، وقيل: جرثوم، وقيل: ناشج، وقيل: عمرو، وقيل: لاشق.
واختلف في اسم أبيه أيضًا؛ فقيل: ناشر، وقيل: ناشب، وقيل: جرثوم، وقيل: ناشج، وقيل: غير ذلك.
وأخرجه مسلم (3): حدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني أنه سمع أبا ثعلبة الخشني يقول:
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 25 رقم 92).
(2)
"سنن أبي داود"(3/ 355 رقم 3805).
(3)
"صحيح مسلم"(3/ 1533 ر قم 1932).
"نهى رسول الله عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع" قال ابن شهاب: ولم أسمع ذلك من علمائنا بالحجاز حتى حدثني أبو إدريس وكان من فقهاء أهل الشام.
وأخرجه أبو داود (1) أيضًا.
وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه بإسناد صحيح أيضًا: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عيسى بن إبراهيم بن سيَّار [الشعيري](2) البصري شيخ أبي داود، عن عبد العزيز بن مسلم القسملي المروزي، عن محمد بن عمرو بن علقمة الليثي المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة.
وأخرجه الترمذي (3): عن قتيبة بن سعيد، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:"أن النبي عليه السلام حرم كل ذي ناب من السباع".
وأخرجه مالك في "موطإه"(4): عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عبيدة بن سفيان الحضرمي، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"أكل كل ذي ناب من السباع حرام".
وقال الترمذي (5): وفي الباب عن عرباض بن سارية، وابن عباس.
قلت: وفي الباب أيضًا: عن جابر، والمقدام بن معدي كرب، وخالد بن الوليد رضي الله عنهم.
(1)"سنن أبي داود"(3/ 355 رقم 3806).
(2)
في "الأصل": "العشيري"، بتقديم العين علي الشين المعجمة، وهو تحريف، والمثبت من "تهذيب الكمال"(22/ 580)، ومصادر ترجمته.
(3)
"جامع الترمذي"(4/ 73 رقم 1478).
(4)
"موطأ مالك"(2/ 496 رقم 1060).
(5)
"جامع الترمذي"(4/ 73 رقم 1478).
أما حديث عرباض: فأخرجه الطبراني (1): ثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي، ثنا المسيب بن واضح، ثنا أشعث به شعبة، عن أرطاة بن المنذر، عن حكيم بن عمير، عن العرباض بن سارية، عن النبي عليه السلام قال:"لا يحل لكم من السباع كل ذي ناب ولا الحمر الأهلية".
وأما حديث جابر: فأخرجه الترمذي (2): ثنا محمود بن غيلان قال: ثنا أبو النضر هو هاشم بن القاسم، قال: ثنا عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر قال:"حرَّم رسول الله عليه السلام في يوم خيبر الحمر الإنسية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير".
وأما حديث المقدام بن معدي كرب فأخرجه أبو داود (3): ثنا محمد بن المصفى الحمصي قال: ثنا محمد بن حرب، عن عوف، عن الزبيدي، عن مروان بن رؤبة التغلبي، عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله عليه السلام قال:"ألا لا يحل ذو ناب من السباع ولا الحمار الأهلي. . ." الحديث.
وأما حديث خالد بن الوليد فأخرجه أبو داود (4) أيضًا: ثنا عمرو بن عثمان، قال: ثنا محمد بن حرب، قال: حدثني أبو سلمة -يعني سليمان- بن سليم، عن صالح بن يحيى بن المقدام، عن جده المقدام بن معدي كرب، عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال:"غزوت مع النبي عليه السلام يوم خيبر، فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم، فقال رسول الله عليه السلام: ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها، وحرام عليكم حمر الأهلية، وخيلها، وبغالها وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير".
(1)"المعجم الكبير"(18/ 258 رقم 645).
(2)
"جامع الترمذي"(4/ 73 رقم 1478).
(3)
"سنن أبي داود"(3/ 355 رقم 3804).
(4)
"سنن أبي داود"(3/ 356 رقم 3806).
قوله: "عن كل ذي ناب" الناب: واحد الأنياب، وهو ما يلي الرباعيات من الأسنان، و"ذو الناب من السباع" مثل: الأسد والنمر والدب والذئب والضبع والثعلب، وما أشبه ذلك.
و"ذو المخلب من الطير" مثل: الصقر والبازي والعقاب والحداءة، ونحوها.
فكل واحد من النوعين يحرم أكله بهذا النص، والنهي الذي فيه: نهي التحريم.
قال أبو عمر (1): كل خبر جاء عن النبي عليه السلام فيه نهي فالواجب استعماله على التحريم إلا أن يأتي معه أو في غيره دليل يبين المراد منه أنه ندب وأدب، وما أعلم أحدًا من العلماء جعل النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من باب الأدب والإِرشاد، إلا أن بعض أصحابنا زعم أن النهي عن ذلك نهي تنزيه وتقذر، ولا أدري ما معنى قوله: تنزيه وتقذر؟ فإن أراد نهي أدب فهذا ما لا يُوافَق عليه، وإن أراد أن كل ذي ناب من السباع يجب التنزه عنه كما يجب التنزه عن النجاسات والأقذار فهو غاية التحريم، لأن المسلمين لا يختلفون في أن النجاسات محرمة العين أشد التحريم، ولم يُرِد القائلون من أصحابنا هذا، ولكنهم أرادوا الوجه الذي هو عند أهل العلم ندب وأدب؛ لأن بعضهم احتج بظاهر قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ. . .} الآية (2) وذكر أن من الصحابة من استعمل هذه الآية ولم يحرم ما عداها، وكأنه لا حرام عنده على طاعم إلا ما ذكر في هذه الآية، ويلزمه على أصله هذا أن يحلل كل الحمر الأهلية، وهو لا يقول بهذا ولا أحد من أصحابه، وهذه مناقضة، وكذلك يلزمه أن لا يحرم ما لم يذكر اسم الله عليه عمدًا، ويستحل الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين.
وفي إجماع المسلمين على تحريم خمر العنب المسكر دليل واضح على أن رسول الله عليه السلام قد وجد فيما أوحي إليه محرمًا على طاعم يطعمه، وقد اختلف الفقهاء في تأويلها على أربعة أقول:
(1)"التمهيد"(1/ 141 - 143) بتصرف.
(2)
سورة الأنعام، آية:[145].
فقال قوم من العراقيين ممن يجيز نسخ القرآن بالسنة: إنها منسوخة بنهي النبي عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية.
وقال قوم: إن الآية نزلت جوابًا لما سأل عنه قوم من أصحابه فأجيبوا عن مسألتهم، والمعنى: قل لا أجد فيما أوحي إلى مما ذكرتم أو مما كنتم تأكلون. قاله: طاوس، ومجاهد، وقتادة، واستدلوا على ذلك بأن الله عز وجل قد حرم في كتابه وعلى لسان نبيه عليه السلام أشياء لم تذكر في الآية، لا يختلف المسلمون في ذلك.
وقيل: الآية محكمة، ولا تحرم إلا ما فيها، وهو قول يروى عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، وقد روي عنهما خلافه، وروي عن عمر من وجه ضعيف، وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير في الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع.
وأما فقهاء الأمصار فمخالفون لهذا القول متبعون للسنة في ذلك، وأن كل ما حرمه رسول الله عليه السلام مضموم إليها، وهو زيادة حكم من الله تعالى على لسان نبيه، ولا فرق بين ما حرَّم الله أو حرمه على لسان نبيه عليه السلام بدليل قوله تعالى:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (1) وقوله: و {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (2) فقال البغداديون من أصحابنا: إن كل ما عداها حلال، ولكنه يكره أكل السباع.
وعند فقهاء الأمصار -منهم: مالك والشافعي وأبو حنيفة وعبد الملك-: أن أكل كل ذي ناب من السباع حرام، وليس يمتنع أن تقع الزيادة بعد قوله:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} (3) بما يرد من الدليل فيها، كما قال عليه السلام:"لا يحل دم رجل مسلم إلا بإحدى ثلاث"(4) فذكر الكفر، والزنا والقتل، ثم قال علماؤنا: أسباب
(1) سورة النور، آية:[54].
(2)
سورة النساء، آية:[80].
(3)
سورة الأنعام، آية:[145].
(4)
متفق عليه من حديث ابن مسعود، البخاري (6/ 2521 رقم 6484)، ومسلم (3/ 1302 رقم 1676).
القتل عشرة بما ورد من الأدلة إذ النبي عليه السلام إنما يخبر عما وصل إليه من العلم عن الباري سبحانه وتعالى، وهو يمحو ما يشاء ويثبت، وينسخ ويقرر، وقد ثبت عن النبي عليه السلام أنه قال:"أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وهو صريح المذهب.
وقال أبو عمر: أجمعوا على أن سورة الأنعام مكية إلا قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. . .} (1) الثلاث آيات، وأجمعوا أن نهي رسول الله عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع إنما كان منه بالمدينة، ولم يرو ذلك غير أبي هريرة وأبي ثعلبة الخشني وإسلامها متأخر بعد الهجرة إلى المدينة بأعوام، وقد روي عن ابن عباس عن النبي عليه السلام مثل رواية أبي هريرة وأبي ثعلبة من وجه صالح، قال إسماعيل ابن إسحاق القاضي: وهذا كله يدل على أنه أمر كان بالمدينة بعد نزول قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا. . .} (2) لأن ذلك مكي.
قال أبو عمر: اختلف العلماء في معنى قوله عليه السلام "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" فقال الشافعي ومن تبعه والليث بن سعد: إنما أراد عليه السلام بقوله هذا: ما كان يعدو على الناس، مثل الأسد والذئب والنمر والكلب العادي، وما أشبه ذلك مما الأغلب من طبعه أن يعدو، وما كان الأغلب من طبعه ألا يعدو فليس مما عناه عليه السلام بقوله هذا، وإذا لم يكن من طبعه أن يعدو فلا بأس بأكله كالثعلب والضبع.
وقال مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه: لا يؤكل شيء من سباع الوحشي كلها ولا الهر الوحشي ولا الأهلي؛ لأنه سبع، قالوا: ولا يؤكل الضبع، ولا الثعلب.
وزاد ابن عبد الحكم في حكايته عن مالك قال: وكل ما يفترس ويأكل اللحم ولا يرعى الكلأ فهو سبع لا يؤكل، هذا هو المشهور عن مالك، وقد روي عنه: أنه لا بأس بأكل الثعلب والوبر، وقال أبو يوسف: أما الوبر فلا أحفظ فيه شيئًا عن
(1) سورة الأنعام، آية:[151].
(2)
سورة الأنعام، آية:[145].
أبي حنفية، وهو عندي مثل الأرنب لا بأس بأكله؛ لأنه يعتلف البقول والنبات، وقال أبو يوسف في السنجاب والفنك (1) والسنور: كل ذلك سبع مثل الثعلب وابن عرس.
قال أبو عمر (2): ولا بأس عند مالك بأكل الضب واليربوع والورل (3)، قال عبد الرزاق: بالورل يشبه الضب، وروي عن أشهب أن لا بأس بأكل الفيل إذا ذكي. وهو قول الشعبي وابن الحسن وغيره؛ لأنه ذو ناب، وقال ابن حزم: وأما الفيل فليس سبعًا ولا جاء في تحريمه نص فهو حلال.
وأما الخلاف في الطيور التي لها مخلب فقد ذكرناه في "كتاب الحج" مستقصى، فقد قيل: المحرم الصيد.
…
(1)"الفنك": دابة يفترى جلدها -أي: يلبس جلدها- فروا. انظر "لسان العرب": (فنك).
(2)
"التمهيد"(1/ 156).
(3)
الورل: "دابة مثل الضب". انظر "مختار الصحاح": (ورل).