المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ورغم أنه أطال وفصل في الموضوع، فقد قال: "وهذا باب - نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي

[أحمد الريسوني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد: في معنى المقاصد ونظرية المقاصد

- ‌الباب الأول: المقاصد قبل الشاطبي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: فكرة المقاصد عند الأصوليين

- ‌مدخل

- ‌حلقات سابقة:

- ‌ الحلقات الشهيرة:

- ‌الفصل الثاني: فكرة المقاصد في المذهب المالكي

- ‌مدخل

- ‌ماذا أعني بالمذهب المالكي:

- ‌أصول المذهب المالكي والمقاصد

- ‌المصلحة المرسلة

- ‌ سد الذرائع:

- ‌ مراعاة مقاصد المكلفين:

- ‌الباب الثاني: الشاطبي ونظريته

- ‌الفصل الأول: تعريف بالشاطبي

- ‌مدخل

- ‌ خلاصة ترجمة الشاطبي:

- ‌ الشاطبي يتحدث عن نفسه:

- ‌ مراسلات الشاطبي:

- ‌الفصل الثاني: عرض النظرية

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول: مقاصد الشارع

- ‌النوع الأول: قصد الشارع في وضع الشريعة

- ‌النوع الثاني: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام

- ‌النوع الثالث: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها

- ‌النوع الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة

- ‌القسم الثاني: مقاصد المكلف في التكليف

- ‌خاتمة الكتاب: بماذا يعرف مقصود الشارع

- ‌الفصل الثالث: أبعاد النظرية

- ‌مدخل

- ‌ الضروريات الخمس:

- ‌ مسائل المباح:

- ‌ الأسباب والمسببات:

- ‌الباب الثالث: القضايا الأساسية لنظرية الشاطبي عرض ومناقشة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مسألة التعليل

- ‌أحكام الشريعة بين التعليل والتعبد

- ‌الرافضون للتعليل:

- ‌موقف الرازي من التعليل:

- ‌ابن حزم والتعليل:

- ‌الفصل الثاني: المصالح والمفاسد

- ‌مفهوم المصلحة والمفسدة

- ‌إدراك المصالح بالعقل:

- ‌مجالات العقل في تقدير المصالح

- ‌التفسير المصلحي للنصوص

- ‌ تقدير المصالح المتغيرة والمتعارضة:

- ‌ تقدير المصالح المرسلة:

- ‌الفصل الثالث: بماذا تعرف مقاصد الشارع

- ‌فهم المقاصد وفق مقتضيات اللسان العربي

- ‌ الأوامر والنواهي الشرعية بين التعليل والظاهرية:

- ‌ المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية:

- ‌ سكوت الشارع:

- ‌ الاستقراء:

- ‌الباب الرابع: تقييم عام لنظرية الشاطبي

- ‌الفصل الأول: نظرية الشاطبي بين التقليد والتجديد

- ‌جوانب التقليد

- ‌مدخل

- ‌استفادته من الأصوليين:

- ‌استفادته من المذهب المالكي:

- ‌جوانب التجديد

- ‌مدخل

- ‌ التوسع الكبير:

- ‌ مقاصد المكلف:

- ‌ بماذا تعرف مقاصد الشارع

- ‌ تقديم ثروة من القواعد:

- ‌قواعد المقاصد:

- ‌الفصل الثاني: المقاصد والاجتهاد

- ‌مدخل

- ‌المقاصد وشروط المجتهد:

- ‌مسالك الاجتهاد المقاصدي

- ‌النصوص والأحكام بمقاصدها

- ‌ الجمع بين الكليات العامة والأدلة الخاصة:

- ‌ جلب المصالح ودرء المفاسد مطلقًا:

- ‌ اعتبار المآلات:

- ‌خاتمة: آفاق البحث في المقاصد

- ‌الفهارس:

- ‌فهرس الأعلام:

- ‌المصادر والمراجع: مرتبة ترتيبًا ألفبائيا على الأسماء المشهورة لمؤلفيها:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ورغم أنه أطال وفصل في الموضوع، فقد قال: "وهذا باب

ورغم أنه أطال وفصل في الموضوع، فقد قال:"وهذا باب يطول تتبعه. ولو استقصينا فضل علماء أهل المدينة وصحة أصولهم، لطال الكلام"1. ثم قال:

"إذا تبين ذلك، فلا ريب -عند أحد- أن مالكًا رضي الله عنه، أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا. فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه"2.

وإذن، فقد ظهر ماذا أعني بالمذهب المالكي، وظهر أنه مذهب ينتسب إليه مالك بن أنس، وأن هذا الإمام، ليس إلا حلقة من حلقاته، غير أنه كان -في عصره وفيما بعد عصره- أجمع الناس له رواية، وأكثرهم به دراية.

فإذا تكلمت بعد هذا، عن بعض أصول المذهب المالكي وبعض قواعده، فلست أعني أن هذه الأصول ملك لمالك، وإنما مالك ملك لها، في فقهه واجتهاده.

1 نفسه: 320.

2 نفسه: 320.

ص: 63

‌أصول المذهب المالكي والمقاصد

‌المصلحة المرسلة

أصول المذهب المالكي والمقاصد:

وأعرض فيما يلي -بصفة خاصة- أهم الأصول المالكية، ذات الصلة القوية برعاية مقاصد الشريعة:

1-

المصلحة المرسلة:

ولا أريد أن أشتغل بتعريف المصلحة المرسلة، ومناقشة حجيتها، وتحقيق من يقول بها ومن لا يقول، إلى غير ذلك من المسائل التي تكفلت كتب الأصول ببيانها. وخصصت لها -في زمننا- كتابات ورسائل جامعية كثيرة. وسيأتي بعض من ذلك في مواضعه المناسبة من هذا البحث.

وإنما أريد أن أنصرف إلى ما له صلة مباشرة بموضوعنا.

وأول ذلك أن تحكيم المصلحة، والاحتجاج بها، مرجعه إلى الصحابة رضي الله عنهم. ورأسهم في ذلك عمر، وهو أمر متواتر عنهم. ولهذا قال الغزالي -رغم

ص: 63

شافعيته-: "الصحابة رضي الله عنهم هم قدوة الأمة في القياس، وعلم قطعًا اعتمادهم على المصالح"1.

وهو في هذا يكرر ما قاله شيخه أبو المعالي -في مبحث الاستدلال، من كتابه:"البرهان"- حيث سلم بحجيته الاستدلال المصلحي، لأن ذلك من عمل الصحابة رضي الله عنهم، وهو كثير في فقهم وفتاويهم. ومن هنا أخذ به، مشترطًا أن تكون المصلحة شبيهة بما اعتبره الشارع من المصالح. وهو تحصيل حاصل عند القائلين بالمصلحة.

والذي يهمنا أكثر، هو علاقة المصلحة بمقاصد الشارع، فقد اتضح من خلال الفصل السابق -وسيأتي ذلك بمزيد من التفصيل- أن العبارة الجامعة لمقاصد الشارع كلها، هي: جلب المصالح ودرء المفاسد. وهذا مطرد في جميع أحكام الشريعة. واطراده أظهر ما يكون في أحكام العادات والمعاملات.

ومن هنا، يجب أن يكون الاجتهاد الفقهي قائمًا على أساس الاستصلاح، وأن يكون فهم النصوص والاستنباط منها قائمًا على أساس أن مقاصدها: جلب المصالح ودرء المفاسد، وأن يكون القياس عليها مراعيًا لهذا الأساس أيضًا. وهذا معنى مراعاة المصلحة في المذهب المالكي، فهو ليس مجرد الأخذ بالمصلحة المرسلة حيث لا نص ولا قياس. بل هو استحضار المصلحة عند فهم النص، وعند إجراء القياس، فضلًا عن حالات إعمال المصلحة المرسلة.

وإنما عنونت هذه الفقرة بالمصلحة المرسلة، جريا على ما هو شائع ومعروف من تميز الأصول المالكية بأصل " المصلحة المرسلة". وإلا فإن المصلحة عندهم أبعد أثرًا من هذا. والأمر كذلك أيضًا في سائر المذاهب إلا الظاهرية، غير أن المذهب المالكي، كان أصرح وأوضح في مراعاته للمصالح، باعتبارها المقصد العام للشريعة، والمقصد الخاص لكل حكم من أحكامها، وخاصة في أبواب المعاملات والعبادات، بينما مراعاة المصلحة في المذاهب الأخرى، يشوبها نوع من التردد والغموض. ولتمام توضيح المسألة، أنتقل إلى ذكر أمثلة لها:

1 المنخول: 353.

ص: 64

فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كثير من البيوع، لما يكتنفها من جهالة ومخاطرة، ولما تفضي إليه من غرر وغبن، في حق أحد المتبايعين. وهذا يقتضي الوضوح التام، والتحديد المضبوط، في المبيعات وصفاتها، وفي الأثمان، والآجال، وكل هذا معلل، ومصلحته واضحة.

ولكن هناك حالات كثيرة جدا، يتعذر فيها -أو يعسر جدا- توفير هذه الشروط والالتزام بها، فتصبح مصلحة المتبايعين -التي هي المقصودة بتلك الشروط- تستدعي التساهل فيها، والتغاضي عن بعضها، مما هو متعذر أو عسير.

وههنا -بصفة عامة- اتجاهان متباينان: اتجاه يميل إلى هذا التساهل والتغاضي، رعاية للمصلحة ودفعا للحرج والضرر، ويمثله الفقه المالكي، فالحنفي. واتجاه يميل إلى المحافظة على الشروط الأصلية للبيوع، والتمسك بشكلياتها مهما يكن من أمر. ويمثله الفقه الشافعي:

"ومن هذا الباب: أن مالكًا يجوز بيع المغيب في الأرض، كالجزر، واللفت، وبيع المقاثي جملة. كما يجوز هو والجمهور، بيع الباقلاء ونحوه في قشره.

ولا ريب أن هذا هو الذي عليه عمل المسلمين من زمن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا التاريخ. ولا تقوم مصلحة الناس بدون هذا. وما يظن أن هذا نوع غرر، فمثله جائز في غيره من البيوع، لأنه يسير والحاجة داعية إليه. وكل واحد من هذين يبيح ذلك. فكيف إذا اجتمعا"1.

فهذا الاتجاه الفقهي إذن، يستند إلى كون الغرر يسيرا، وإلى كون المصلحة تدعو إليه. ومعنى هذا أن النهي عن الغرر محمول -من جهة- على الغرر الكثير، ومن جهة أخرى، على ألا يكون فيه ضرر يفوق الضرر المقصود بالنهي.

وفي معنى الغرر المنهي عنه في الأحاديث، يقول الحافظ ابن عبد البر "المالكي": "وجملة معنى الغرر: أنه كل ما يتبايع بها المتبايعان مما يدخله الخطر

1 ابن تيمية، مجموع الفتاوى: 20/ 346.

ص: 65

والقمار وجهل معرفة المبيع والإحاطة بأكثر أوصافه، فإن جهل منها اليسير، أو دخلها الغرر في القليل، ولم يكن القصد إلى مواقعة الغرر، فليس من بيوع الغرر. المنهي عنها، لأن النهي إنما يتوجه إلى من قصد الشيء واعتمده"1.

وهذا تأكيد لما سبق من أن الغرر اليسير، والذي تدعو الحاجة إلى مواقعته -من غير أن يكون مقصودًا من أحد المتبايعين- خارج عن مقتضى النهي. لأن الشارع لا ينهى عما فيه مصلحة راجحة.

ومن هذا المنطق المصلحي، المراعي لمقاصد الشارع، يجوز المالكية -خلافًا للشافعية- بيع العين الغائبة الموصوفة. والبيع لازم إذا جاء المبيع على ما وصف به. والحنفية، وإن جوزوا هذا البيع، فإنهم يثبتون فيه خيار الرؤية، حتى ولو كان الموصوف كما وصف. وبهذا أبطلوا فائدته وفوتوا مقصوده.

ومن هذا القبيل أيضًا: ما نقله الشاطبي في بعض فتاويه، على كتاب "العتبية" من سماع ابن القاسم قال: "وسألت مالكًا عن معاصر الزيت، زيت الجلجلان والفجل: يأتي هذا بأرادب2، وهذا بأخرى. حتى يجتمعوا فيها، فيعصرون جميعًا. قال: إنما يكره هذا لأن بعضه يخرج أكثر من بعض. فإذا احتاج الناس إلى ذلك، فأرجو أن يكون خفيفًا لأن الناس لا بد لهم مما يصلحهم. والشيء الذي لا يجدون عنه بدا ولا غنى، فأرجو أن يكون لهم في ذلك سعة إن شاء الله، ولا أرى به بأسًا. قال: والزيتون مثل ذلك.

قال ابن رشد: خففه للضرورة إلى ذلك، إذ لا يتأتى عصر اليسير من الجلجلان والفجل على حدته3.

وهذا النص للإمام مالك، ليس مجرد مثال فقهي لمراعاة المصلحة وبناء الأحكام عليها، ولكنه -إذا تؤمل- يؤصل ويقعد للمسألة ونظائرها.

1 الكافي في فقه أهل المدينة: 2/ 735.

2 الأرداب: جمع إردب، وهو مكيال ضخم، يقال: إنه يضم أربعة وعشرين صاعًا "المحقق: أبو الأجفان".

3 فتاوى الإمام الشاطبي: 159.

ص: 66

ولهذا نجد الشاطبي قد بنى عليه فتواه في تجويز ما كان يفعله الناس من خلط ألبانهم للاشتراك والتعاون على استخلاص جبنها، تجنبًا لكثرة المشقة والكلفة1 مع أن هذا العمل-كسابقه- لا يخلو من غبن وتفاضل. وقد ختم الشاطبي فتواه بقوله:"والظاهر جوازه عملًا بهذا الأصل المقرر في المذهب"، مما يؤكد أن هذا المسلك الاستصلاحي عريق في المذهب المالكي.

وقد قرر الشاطبي هذه الحقيقة في موضع آخر، فقال عن منهج الإمام مالك، في تقرير الأحكام المتعلقة بقسم المعاملات والعادات:"فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية، نعم، مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه، ولا يناقض أصلا من أصوله"2.

وقبل الشاطبي نجد القاضي عياضًا، يسجل أن أحد الاعتبارات المرجحة لمذهب مالك، هو النظر المصلحي، القائم على مقاصد الشريعة وقواعدها، فيقول:"الاعتبار الثالث: يحتاج إلى تأمل شديد، وقلب سليم من التعصب سديد، وهو الالتفات إلى قواعد الشريعة ومجامعها وفهم الحكمة المقصودة بها من شارعها"3.

ويميل أحد الباحثين المعاصرين -وهو الدكتور محمد المختار ولد أباه- إلى اعتبار هذه الميزة، هي أهم مميزات المذهب المالكي"4.

وإذا كان الإمام الشافعي قد تردد في أخذه بالمصلحة5، والإمام أبو حنيفة

1 المرجع السابق: من 156 إلى 160.

2 الاعتصام: 2/ 133.

3 ترتيب المدارك: 1/ 92.

4 مدخل إلى أصول الفقه المالكي: 93.

5 تردد الإمام الشافعي في الأخذ بالمصلحة، هو ما يستفاد من كثير من المؤلفات الأصولية الشافعية. وقد كان الإمام الغزالي صريحًا في هذا حيث قال في المنخول "ص354" "فاسترسل مالك رضي الله عنه على المصالح. وللشافعي رضي الله عنه مسلكان: يحصر في أحدهما التمسك في الشبه أو المخيل، الذي يشهد له أصل معين، ويرد كل استدلال مرسل، وفي المسلك الثاني يصحح الاستدلال المرسل، ويقرب فيه من مالك، وإن خالفه في مسائل". وأكد هذا في "شفاء الغليل" "ص188"، حيث قال: ومذهب مالك مشير إلى اتباع المصالح المرسلة. وللشافعي فيه تردد رأي".

ص: 67

أخذ بها على شكل "استحسان" مبهم نوعًا ما، فإن الإمام مالكًا لم يقع في شيء من هذا، لأنه لم يؤسس مذهبه، بل وجده تاما مستقرا.

والغريب أن الشيخ مصطفى الزرقاء اعتبار أن نظرية الاستصلاح المالكية، هي تطوير وإنضاج للاستحسان الحنفي، يقول:"ولكن المذهب المالكي لتأخره عن الحنفي في التاريخ، تركزت فيه الصياغة الفنية لقاعدة المصالح المرسلة وشرائطها، فبرزت فيه واشتهر بها"1.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما قدمته عن حقيقة "المذهب المالكي"، فإن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى توضيح.

ولكن حتى إذا أغفلنا ذلك كله، فإن كلام الأستاذ الزرقاء لا يمكن قبوله إلا في سياق قلب الحقائق! لأن الثابت عيانًا هو استفادة المذهب الحنفي -بل سائر المذاهب الثلاثة الأخرى- من المذهب المالكي وأصوله، ومن الإمام مالك خاصة.

وإذا كانت رواية أبي حنيفة عن مالك، واطلاعه على موطئه، مما قد يشك فيه2، فإن الاستفادة الكبيرة لقطبي المذهب الحنفي: محمد بن الحسين، وأبي يوسف، من الإمام مالك مباشرة، أمر لا غبار عليه.

والظاهر أن الأستاذ الكريم اعتمد في ظنه على كون الإمام أبي حنيفة "ت 150" متقدمًا في العمر على الإمام مالك "ت 179"، وهذه مسألة لا قيمة لها، وخاصة إذا نظرنا إليها في جملة معطيات وحقائق أخرى.

1 المدخل الفقهي العام: 1/ 114.

2 أما كون أبي حنيفة من الرواة عن مالك، فتذكره المصادر المالكية بلا تردد "انظر الانتقاء لابن عبد البر ص12، وترتيب المدارك لعياض 2/ 174" بينما تكتفي المصادر الحنفية بذكر شهادة مالك لأبي حنيفة وذكائه المفرط "انظر نصب الراية للزيلعي 1/ 37، والمبسوط للسرخسي 12/ 28". وقد حاول الشيخ زاهد الكوثري التشكيك في صحة حديثين عن أبي حنيفة عن مالك. ونقل عن ابن حجر عدم ثبوت رواية أبي حنيفة عن مالك "على هامش الانتقاء من 12 - 13 - 14". وعلى كل فالتلاقي بين الرجلين تتفق عليه المصادر المذكورة وغيرها.

ص: 68

ومما هو جدير بالتأمل في هذا الصدد، ما أورده الأستاذ الزرقاء نفسه، مباشرة بعد كلامه السابق، حيث قال:"ثم ظهر الاجتهاد الشافعي بإنكار نظريتي الاستحسان والمصالح المرسلة".

فلست أدري لماذا لم يكن للتأخر الزمني دوره -هذه المرة- في التقدم العلمي؟ ولماذا لم تتقدم "الصياغة الفنية" لنظرية الاستصلاح، خاصة أن الإمام الشافعي هو صاحب الريادة المعروفة في هذا المجال؟

والحقيقة: أن مستقر الإسلام الأصح الأتم، كان هو المدينة، هي مستقرة ومنطلقة: رواية ودراية وتطبيقًا، وبعد العصر النبوي، كانت فترة الخلفاء وسنة الخلفاء الراشدين، هي النموذج الأمثل الذي ينبغي أن يستلهم ويقتدي به، وينهج على نهجه، وكل هذا احتضنته المدينة، واستوعبه أهل المدينة وعلماء المدينة أحسن استيعاب. ثم كان النقل إلى مختلف الجهات الإسلامية. ونشأ علماء مسلمون هنا وهناك، وتلقوا ما شاء الله أن يتلقوا من تلك الوراثة المدنية، واستوعبوا منها، واجتهدوا في فهمها، واجتهدوا في تطبيقها، واجتهدوا في الاهتداء بها والقياس عليها، فتفاوت قربهم من الصورة المثلى، بتفاوت قرائحهم وعقلياتهم ومدى استيعابهم للصورة المثلى في كلياتها وجزئياتها، إلى ظروف ومؤثرات عديدة.

وإذا كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله، قد نفذ بصره إلى إدراك المقاصد المصلحية لشريعة الإسلام، فعبر عنها بكثير من تعليلاته، وعبر عنها بفكرة الاستحسان، فإن ذلك لم يخل من غموض، على الأقل في توضيح ذلك للآخرين، وقد ظل الاستحسان الحنفي يكتنفه هذا الغموض زمنا غير قصير، حتى عسر على الأحناف أنفسهم الاتفاق والاستقرار على تعريف واحد واضح له. وهذا الغموض هو ما أدى بالإمام الشافعي رحمه الله إلى مهاجمته الشديدة للاستسحان، بينما نجده يتقبل أشكالًا من الاستصلاح، مما يجعله -على كل حال- آخذًا بالمصلحة، على تحفظ وتردد في التوسع فيها توسع مالك والمالكية.

ص: 69

وإذن، فنظرية المصلحة في مذهب مالك، لم ينضجها التأخر الزمني، بل أنضجها التقدم الزمني، أي أنها في الأصل نظرية ناضجة في شريعة الإسلام وأبرزها أكثر التطبيق النبوي، ثم ازدادت بروزًا واتساعًا عندما اشتدت الحاجة إليها بعد توقف الوحي، وذلك من خلال سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. وأبرزهم في ذلك عمر.

ثم كان للتأخر الزمني، والبعد المكاني، عن هذه الصورة النموذجية أثرهما في التشويش والتضبيب. وبلغ ذلك إلى حد أن بعض المالكية أنفسهم أنكروا حجية المصلحة المرسلة، كالباقلاني، وابن الحاجب!

والاستحسان الحنفي إنما هو قبس من نظرية المصلحة في الشريعة الإسلامية. ولست أعني -بالضوررة- أنه مأخوذ من مذهب معين أو اجتهاد معين، بل الظاهر أنه فهم أوتيه الإمام الأعظم، مباشرة لنصوص الشريعة وأحكامها ولكنه -كما أشرت- جاء أقل وضوحًا واتساعًا مما كان عليه الشأن، عند إمام المدينة.

فالاستحسان عند مالك، يعني شيئًا واحدًا واضحًا محددًا: هو رعاية المصلحة. وما رواه عنه أصحابه من أن "الاستحسان تسعة أعشار العلم"1 لا يمكن أن يعني إلا مراعاة المصلحة في الأحكام الاجتهادية. وفي هذا يقول ابن رشد "الحفيد": "ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال: هو الالتفات إلى المصلحة والعدل"2.

فإذا كان الاستحسان -في نظر الإمام مالك- يمثل تسعة أعشار الاجتهاد الفقهي، وكان معنى الاستحسان هو مراعاة المصلحة والعدل، فهذا يعني أن على

1 نسبة هذا القول إلى الإمام مالك متداولة في كتب المالكية. وقد ذكره الشاطبي مرارًا وأورده ابن حزم بسند متصل إلى مالك، فقال: روى العتبي محمد بن أحمد، قال: ثنا أصبغ بن الفرج قال: سمعت ابن القاسم يقول: قال مالك: تسعة أعشار العلم الاستحسان، قال أصبغ بن الفرج: الاستحسان في العلم يكون أغلب من القياس. ذكر ذلك في كتاب أمهات الأولاد من "المستخرجة". الإحكام: 6/ 16.

2 بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 2/ 154.

ص: 70

الفقيه ألا يغيب عنه الالتفات إلى مقصود الشارع، وهو المصلحة والعدل: فإذا وجد مصالح مهملة ومضيعة، فالاستحسان يقتضيه أن يجتهد ويقرر ما يعد لها اعتبارها ويحقق حفظها. وإذا رأى أضرارًا قائمة، فالاستحسان أن يجتهد ويفتي بمنع تلك الأضرار. وإذا رأى نصوصًا شرعية تفهم على نحو يفضي إلى حصول ضرر محقق، أو إلى تفويت مصلحة محترمة في الشرع، استحسن إعادة النظر في ذلك الفهم، وإذا وجد قياسًا خرج على خلاف مقصود الشارع في العدل والمصلحة، فليعلم أنه قياس غير سليم، أو في غير محله، فيستحسن ألا يتقيد به، وأن يرجع إلى القواعد العامة للشريعة. وبهذا يكون الاستحسان -فعلًا- تسعة أعشار العلم.

ومن هذا القبيل أن ابن عبد البر نقل عن مالك أحكامًا واجتهادات تتعلق بالمعاملات وحسن الجوار، ثم قال:"وهذا كله استحسان واجتهاد في قطع الضرر"1.

فالاستحسان المالكي -إذن- هو الحرص على جلب المصلحة ودرء المفسدة "وكلمة الاستحسان عند مالك تعني حكم المصلحة عند عدم وجود نص شرعي. ولهذا كان مالك يترك القياس إذا خالف المصلحة الملائمة لمقاصد الشارع"2.

ويقول الدكتور وهبة الزحيلي: "والحقيقية أنني لو تعقبت جميع أنواع الاستحسان، لما وجدت فيها ما يدعو إلى جعل الاستحسان دليلًا مستقلا قائمًا بذاته. وأكثر ما يعتمد على المصالح المرسلة"3.

ثم قال بعد ذلك: "وإن أكثر ما يعتمد عليه الاستحسان، هو المصلحة المرسلة، وهو الاستحسان المصلحي الذي قال به المالكية"4.

1 الكافي في فقه أهل المدينة: 2/ 938.

2 المدخل للتشريع الإسلامي: 255.

3 أصول الفقه الإسلامي: 2/ 747.

4 المرجع السابق: 751.

ص: 71

فهذه لمحات عن مكانة مراعاة المصالح المقصودة للشارع، في المذهب المالكي. وقد بلغ من شدة وضوح الاربتاط بين مقاصد الشارع، ومصالح الخلق، أن نجد أحد كبار الفقهاء المالكية يقرر أن قواعد المعاملات وأسس المعارضات أربعة، هي:

- قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1.

- وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 2.

- وأحاديث الغرر.

- واعتبار المقاصد والمصالح3.

وأختم هذه الفقرة بإيراد بعض التعليلات المنقولة عن الإمام مالك، وهي تعليلات تربط الأحكام بمصالحها، وتفهم النصوص بمقاصدها "فضلا عما تقدم، وما سيأتي في بقية الفقرات".

فمن ذلك ما أورده القرطبي في تفسيره، عن حكم الضيافة التي جاء الأمر بها في الأحاديث، ومتى تجب ومتى لا تجب؟ قال:"اختلف العلماء فيمن يخاطب بها، فذهب الشافعي ومحمد بن الحكم إلى أن المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. قال سحنون: إنما الضيافة على أهل القرى، وأما الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر"4.

ومعنى هذا أن مالكًا أدار الحكم على مقصوده وحكمته، وهي سد حاجة المسافر والمهاجر، فإذا كان يجد لنفسه أماكن للإقامة والمبيت وغير ذلك من ضروراته، فقد سقط وجوب استضافته، ويبقى التفضل والإحسان. وإذا لم يجد ذلك وجب على أهل البلد استضافته، وهو واجب كفائي طبعًا. بينما الشافعي

1 سورة البقرة: 188.

2 سورة البقرة: 275.

3 أحكام القرآن، للقاضي أبي بكر بن العربي: 1/ 96.

4 الجامع لأحكام القرآن: 9/ 64.

ص: 72