الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعتادة في التعميق والتنقيح، فضلًا عن إدراكه له في إطار نظرية المقاصد.
وقد تطرق ابن عبد السلام إلى الصفات الخلقية الجبلية في الإنسان، فقرر أنها لا ثواب فيها ولا عقاب. قال: "كل صفة جبلية لا كسب للمرء فيها، كحسن الصور، واعتدال القامات، وحسن الأخلاق، والشجاعة والجود. فهذا لا ثواب عليه، مع فضله وشرفه، لأنه ليس بكسب لمن اتصف به1.
وكذلك الشأن في الصفات المذمومة، كنقص العقل، وسوء الخلق، والجبن، والشح، والقسوة، والوقاحة، والميل إلى الرذائل، واستثقال الفضائل فلا عقاب عليها في ذاتها.
وقد تناول الشاطبي هذه المسألة نفسها، فوسع البحث فيها وعمقه، وميز -بدقة متناهية- ما هو من هذه الصفات يستحق المدح والثواب، أو الذم والعقاب، وما ليس كذلك. وبعبارة أخرى: فقد بين ما يقصده الشارع مما لا يقصده من التكاليف المتعلقة بهذه الصفات2.
1 قواعد الأحكام، 1/ 137.
2 الموافقات، 2/ 108-119.
استفادته من المذهب المالكي:
على أن مما ساعد الشاطبي على حسن الاستفادة من هذه اللمحات والومضات، التي جادت بها قرائح بعض الأصوليين، حول مقاصد الشريعة وحكمها، وساعده أيضًا على تطويرها والبناء عليها، حتى أخرج لنا نظرية متكاملة الأطراف، متشعبة الامتدادات في مختلف جوانب الشريعة الإسلامية، أقول: مما ساعده على ذلك كله، تشبعه بأصول المذهب المالكي وقواعده. وقد سبق أن بينت في فصل خاص، علاقة المذهب المالكي وأصوله بمقاصد الشريعة. فلإدراك مدى استفادة نظرية الشاطبي من مذهبه المالكي، لا بد من مراجعة ذلك الفصل.
ولكن الآن أذكر -مجرد تذكير- أن المذهب المالكي هو مذهب المصلحة والاستصلاح، والاستحسان المصلحي، والتفسير المصلحي للنصوص. وهو المذهب الحازم في درء المفاسد وسد ذرائعها واستئصال أسبابها. وهو المذهب الذي يعتني عناية فائقة بمقاصد المكلفين ونياتهم ولا يقف عند مظاهرهم وألفاظهم. وهو من أكثر المذهب -إن لم يكن أكثرها- تعليلًا للأحكام الشرعية المتعلقة بمجال العبادات والمعاملات. والتعليل هو الكشف عن مقاصد الشارع والبناء عليها. فهذه الأصول التي تصب كلها في نظرية المقاصد، هي التي هيأت للفكر المقاصدي عند الشاطبي أن يترعرع على النحو الذي رأيناه.
وبعد هذه التنبيهات والإشارات، إلى موارد الشاطبي، وجوانب التأثر والاتباع في نظريته، أرى من تمام الفائدة أن أتعرض لبعض ما بدأ يقال ويشارع، حول جذور نظرية الشاطبي واستمداداته فيها.
من ذلك ما ذهب إليه الدكتور عبد المجيد تركي، ثم الدكتور محمد عابد الجابري، من أن الشاطبي في مقاصده، كان مكملًا لما جاء به ابن رشد، ومقتفيا أثره في ذلك.
فالدكتور تركي -الذي عرض رأيه خلال ندوة ابن رشد، التي انعقدت بكلية الآداب بالرباط، بمناسبة مرور ثمانية قرون على وفاته- يقول "عن ابن رشد""كما يجدر بنا أن نبرز إثراءه للفكر الفقهي إثراء قد مهد السبيل -في اعتقادنا- لتطورات لاحقة، بل لميلاد علم جديد ظهر بعد قرنين من وفاة ابن رشد على يد منشئة الشاطبي الأندلسي، الذي اختار له من الأسماء: علم مقاصد الشريعة"1.
ولست أدري أولًا ماذا يعني بكون الشاطبي "اختار له من الأسماء علم مقاصد الشريعة".
1 أعمال ندوة ابن رشد، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1978.
فأما اسم "مقاصد الشريعة"، فكان مستعملًا قبل الشاطبي بحقب طويلة. وقد قدمت من ذلك ما يكفي.
وأما اسم "علم مقاصد الشريعة" فلم يستعمله الشاطبي نهائيا. وأما الذي أطلق هذا الاسم فهو الشيخ ابن عاشور، حديثًا على ما سيأتي في خاتمة الكتاب.
وأما دليله على كون ابن رشد قد مهد السبيل لظهور مقاصد الشريعة على يد الشاطبي، فهو أن ابن رشد قد عمل على "عقلنة" الفقه والارتقاء به إلى الموضوعية، وفي هذا يقول:"إذن، هو السعي نحو خلق جهاز متماسك الأجزاء، ومرتكز على العقل، وهذا الحرص على تلمس الموضوعية واليقين، سيمهدان الطريق -في اعتقادنا- إلى ظهور علم جديد على يد الشاطبي" وقد ختم عرضه بالقول: "وأن أشرك ابن رشد في اكتشاف علم جديد هو علم مقاصد الشريعة".
وواضح أن "الدليل" الذي قدمه لنا على إشراكه لابن رشد في اكتشاف "علم مقاصد الشريعة" ليس إلا مجموعة من الدعاوي الغامضة:
فما هو "الجهاز الفقهي المتماسك" الذي قدمه -أو حاول تقديمه- ابن رشد؟ وما معنى هذه المصطلحات الجديدة، والغريبة على الميدان المتكلم فيه؟
وما المقصود بالضبط بالارتكاز على العقل في بناء هذا الجهاز الفقهي؟ وهل ابن رشد متفرد في هذا، عن سائر الفقهاء؟
وهل "تلمس الموضوعية واليقين" أيضًا خاص بابن رشد؟
وإذا سلمنا كل هذا -وليس فيه شيء مسلم- فهل يلزم منه ويثبت به اكتشاف ابن رشد لعلم مقاصد الشريعة؟ وهل الواقع يصدق هذا "اللزوم" المفترض؟
على أن الدكتور تركي قد دعم "اعتقاده" المذكور باستدلال آخر لا يعدم صلة بموضوع المقاصد، ولكن لا يمكن أن يقام عليه مثل هذا الاعتقاد إلا بكثير
من التكلف والتهافت، يقول:"ولنلاحظ أن ابن رشد في "البداية" يستعمل لفظة مصلحي ليقابلها بلفظ تعبدي: "والمصالح1 المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابًا للعبادات المفروضة، حيث يكون الشرع لاحظ فيها معنيين: معنى مصلحيا، ومعنى عباديا. وأعني بالمصلحي: ما رجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي: ما رجع إلى زكاة النفس".
وإذا كان الدكتور لم يكتشف لفظ مصلحي، واستعماله في تعليل الأحكام الشرعية إلا في "البداية"، فعسى أن يكتشف في النهاية2، أن مثل هذا الكلام وهذا الاصطلاح، ضارب الأطناب في كتب الفقه، وخاصة المالكية منها، وشائع في كلام الأصوليين، قبل ابن رشد وبعده. وقد مر بنا من ذلك ما يغني عن الإعادة أو المزيد.
على أن الذي لا ينتهي عجبي منه، هو: كيف يستسهل بعض الباحثين أن يقيموا أحكامًا ونظريات، ويفسروا ظواهر وتطورات، فقد بواسطة ألفاظ يلتقطونها، ثم يكررونها، ويغلظون كتابتها، ويسطرون تحتها، ثم يفرضون على الجمهور أن يؤمن بما بنوه عليها، مما لا تحمله ولا تفيده حتى عشرات من أمثالها!!
ولو ساغ في ميزان العلم أن نؤسس ريادة ابن رشد وتأثيره على الشاطبي في مجال المقاصد، على مجرد استعماله لفظ "مصلحي"، لكان أولى أن نؤسس ذلك على استعماله لفظ: مقصد الشرع، ومقصود الشرع، مما لم يبق فقيه ولا أصولي إلا استعمله. "راجع الباب الأول مثلًا".
فقد ذكر ابن رشد مرارًا. "مقصود الشارع" وما شابهها، ولكن في عبارات عابرة، وفي غير موضوعنا: مقاصد الشريعة، وإنما في مجال العقيدة:
1 الكلام من الآن نهايته من بداية المجتهد، 1/ 15.
2 خاصة وأنه دائم الكلام عن: المقاصد، والشاطبي، والاستصلاح، ثم إنه قد بشرنا منذ عدة سنين أن من مشروعاته القريبة إعداد دراسة عن الشاطبي ومقاصد الشريعة. ذكر هذه في كتابه مناظرات في أصول الشريعة، ص528 والكتاب صدر لأول مرة بالغة الفرنسية سنة1978.
ففي سياق إنكاره وانتقاده للتأويلات الفاسدة التي أدخلتها الفرق الكلامية على العقيدة الإسلامية، قال:"وإذا تؤملت جميعها، وتؤمل مقصد الشرع، ظهر أن جلها أقاويل محدثة، وتأويلات مبتدعة. وأنا أذكر من ذلك ما يجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع، التي لا يتم إلا بها، وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع"1.
وعندما تعرض لمذاهب المتكلمين في صفات الله عز وجل، انتهى إلى حصرها في ثلاثة مذاهب:"مذهب من رأى أنها نفس الذات، ولا كثرة هنالك. ومذهب من رأى الكثرة، وهؤلاء قسمان: منهم من جعل الكثرة كثرة قائمة بذاتها ومنهم من جعلها كثرة قائمة بغيرها" ثم قال: "وهذا كله بعيد عن مقصد الشرع. فإذاً، الذي ينبغي أن يعلم الجمهور من هذه الصفات هو ما يصرح به الشرع فقط، وهو الاعتراف بوجودها، دون تفصيل الأمر فيها هذا التفصيل"2.
ثم نص فيما بعد على "أن المقصود بالعلم في حق الجمهور، إنما هو العمل، فما كان أنفع في العمل، فهو أجدر. وأما المقصود بالعلم في حق العلماء، فهو الأمران جميعًا، أعني العلم والعمل"3.
وفي كتابه "فصل المقال" قال: "وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع: إنما هو تعليم العلم الحق، والعمل الحق" ص49.
وعلى مثل هذه النصوص أو -بالضبط- على مثل هذه الألفاظ، اعتمد الدكتور الجابري ليقول: "وقد أخذ الشاطبي هذه الفكرة عن ابن رشد الذي وظفها في مجال العقيدة، ونقلها إلى مجال الأصول4!
1 مناهج الأدلة في عقائد الملة، 133.
2 نفس المرجع، 167.
3 مناهج الأدلة، 180.
4 بنية العقل العربي، 554.
هكذا بكل راحة بال يستسهل باحث كبير ومفكر شهير، الجزم بأن فكرة المقاصد أخذها الشاطبي عن ابن رشد! ولا استدراك ولا احتمال! ولا إثبات ولا استدلال!
ولو أن الدكتور الجابري ألزم نفسه بما شرطه على قارئ الشاطبي، من أنه لن يستطيع فهم أغراضه وإدراك جوانب التجديد في فكره وتفكيره، إلا إذا توفر فيه شرطان اثنان: أولهما، سعة الاطلاع، ليس على ميدان الفقه وأصوله وحسب، بل على مختلف فروع الثقافة العربية، من تفسير وحديث وفقه وأصوله وكلام ومنطق وفلسفة وتصوف"1.
لو أنه التزم بهذا، وبصفة خاصة سعة الاطلاع على الفقه وأصوله، وهما المرتع الطبيعي، والمنبت الطبيعي، للشاطبي ونظريته، لما بقي أسير لبعض ألفاظ استعملها ابن رشد في مجال العقيدة، حتى جعل منها الأستاذ الكريم مفتاحًا لتفسير ما جاء به الشاطبي عن مقاصد الشريعة، وحتى وصل به الحماس إلى حد اعتبار أن خطاب الشاطبي حول مقاصد الشريعة، كان جديدًا "كل الجدة"2.
ويبقى أن أشير إلى أمر له دلالته في موضوعنا، وهو أن الشاطبي لا يكاد يذكر ابن رشد الحفيد. أما ابن رشد الذي ذكره مرارا ونقل عنه واعتمد عليه، فهو ابن رشد الجد. فهو المقصود عند الشاطبي -وغيره- عندما يقول: ابن رشد، بهذا الإطلاق. "أعني في مجال الفقه خاصة". فلو أن همة الباحثين عن جذور نظرية الشاطبي اتجهت إليه وإلى تراثه الفقهي الضخم، لكان ذلك أفيد وأقرب إلى طبيعة الأمور، لما هو ثابت من اعتماد الشاطبي عليه واستشهاده به، ولكونه زعيم فقهاء الأندلس ومرجعهم في دقائق المذهب وغوامضه وخفاياه، وقد قدم للفقه المالكي من "البيان والتحصيل"3 ما جعل المتأخرين عنه عالة عليه.
1 نفس المرجع، 552.
2 نفس المرجع، 502.
3 اسم كتابه الضخم، وقد طبع مؤخرًا في عشرين جزءًا.
أما ابن رشد الحفيد، فلا يبدو له أثر فيما كتبه الشاطبي. ولعل المرة الوحيدة التي ذكرها فيها، هي التي جاءت في سياق بيانه للعوم المضافة إلى القرآن، حيث استطرد لانتقاد الذين يقحمون في ذلك علومًا يزعمون أنها ضرورية لفهم كلام الله، ثم قال: "وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بفصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، أن علوم الفلسفة مطلوبة، إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها.
ولو قال قائل بالضد مما قال لما بعد في المعارضة، وشاهد ما بين الخصمين: شأن السلف الصالح في تلك العلوم، هل كانوا آخذين فيها أم كانوا تاركين لها غافلين عنها، مع القطع بتحققهم بفهم القرآن، يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والجم الغفير. فلينظر امرؤ أين يضع قدمه"1.
وأخيرا، فلا ينبغي أن يفهم أحد أني -بهذا- أنتقص مكانة ابن رشد الحفيد، وأغض من علمه وفكره. فأنا لا أكن له إلا التعظيم والإجلال. وأحسبني من المبالغين في هذا. ولكني أريد -فقط- وضع الأمور في نصابها، خاصة وأن الأمر يتعلق بمنهج البحث، ووسائل الإثبات، وطريقة الحكم على الأمور.
ومن هذا الباب، ما ذهب إليه الدكتور سعد محمد الشناوي، حول تأثر الشاطبي بمن سبقوه، وأن منهم ابن تيمية وابن القيم، حيث قال:"وقد تأثر الإمام الشاطبي بما جاء في مؤلفات من سبقه، وهو العز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن القيم، والقرافي. ولهذا نجد كتابه مزيجًا وتحليلًا لهذه الآراء القيمة التي استقرت في عقولها نظرية المصالح المرسلة وابتناء أحكام الشرع بأنواعها عليها، وتميز التشريع الإسلامي باعتبار هذا الأصل"2.
والمؤسف غاية الأسف أن هذا النص ليس فيه جملة واحدة مسلمة:
1 الموافقات، 3/ 376.
2 مدى الحاجة للأخذ بنظرية المصالح المرسلة في الفقه الإسلامي، 1/ 150.
1-
لم يقدم لنا صاحب النص أي دليل -ولا أي افتراض- على كون الشاطبي قد تأثر بابن تيمية وابن القيم. وأنا أؤكد له أن أيا من الرجلين لم يرد له ذكر بتاتًا فيما هو متداول من كتب الشاطبي.
ورغم أن ابن تيمية وابن القيم، كانا قد اشتهرا في المشرق زمن الشاطبي وبعده، فإننا لا نجد لهما ولآرائهما أثرًا في المغرب والأندلس يومئذ. وبصفة عامة، فإن الفقه الحنبلي، والمؤلفات والأسماء الحنبلية، هي الأقل ذكرًا، والأقل أثرًا في هذه المنطقة.
وقد وجدت الشاطبي -مرة واحدة- يقول: "قال بعض الحنابلة"1، وذلك فيما يخص دعاوي الإجماع التي لا تثبت، ويستعملها بعضهم في قطع الطريق على البحث والمناقشة لبعض الأمور التي يدعي فيها الإجماع ولا إجماع. ومع هذا، فإني أستبعد أن يكون الشاطبي قد أخذ هذا عن مؤلف حنبلي مباشرة. والمستبعد أكثر أن يكون قد اطلع على بعض مؤلفات ابن تيمية أو ابن القيم، خاصة وأنه ليس من أصحاب الرحلات المشرقية، كما هو شأن ابن العربي والطرطوشي مثلًا2، اللذين ينقل الشاطبي عنهما كثيرًا، وكما هو شأن شيخه أبي عبد الله المقري، الذي حكى عن نفسه أنه:"لقي بدمشق شمس الدين بن قيم الجوزية، صاحب الفقيه ابن تيمية"3.
ولكن هذا كله لا يفيد شيئًا في إثبات دعوى الدكتور الشناوي "المحامي" ولا حتى في "إثارة الدعوى أمام القضاء".
2-
القول بابتناء أحكام الشرع "بأنواعها" على المصالح المرسلة، وهو قول في غاية السيوبة واللامبالاة! فأحكام الشرع بأنواعها، تبنى على الأدلة الشرعية
1 الاعتصام، 1/ 356.
2 ذكر هذين على الخصوص، فيه إشارة إلى احتمال أن يكون النقل المذكور قد وقع عن أحدهما، فهما يحكيان كثيرًا عن رحلاتهما المشرقة الطويلة، وعن احتكاكهما الكثير مع مختلف المذاهب.
3 انظر نفح الطيب، 5/ 254، ونيل الاتبهاج، 250.
المعروفة، من كتاب وسنة وإجماع وقياس. وليست المصالح المرسلة إلا واحدًا من الأدلة المختلف في بناء الأحكام عليها. والآخذون بهذا الدليل إنما يبنون عليه -كما هو معلوم- "نوعًا واحدًا" من الأحكام الشرعية الاجتهادية.
3-
لست أدري ما معنى "تميز التشريع الإسلامي باعتبار هذا الأصل" فهذا كلام غريب، "ولو قال قائل بالضد مما قال، لما بعد في المعارضة"1.
فالذي نعرفه من تشرعيات الأمم قديمًا وحديثًا، أنها تقوم أساسًا على المصالح المرسلة، لأن كل مصالحهم مرسلة، بل هو أكثر إرسالًا من مصالحنا المرسلة. فأصل المصلحة المرسلة -إذا قلنا به- هو الأصل "المشترك" بيننا وبين غيرنا، لا أنه الأصل المميز لنا عن غيرنا. والذي يميز تشريعنا الإسلامي عن غيره، هو غير هذا من الأصول، وخاصة الأصول النصية.
فالتشريع الإسلامي لا يتميز بأصل المصالح المرسلة، بل يتميز بتضييق دائرة المصالح المرسلة، ويتميز بالحد من حرية التصرف في المصالح المرسلة نفسها.
وأصل أخيرًا إلى ما ذهب إليه الأستاذ محمد أبو الأجفان، الذي أفادني كثيرا بكتبه ورسائله.
فقد تحدث الأستاذ أبو الأجفان عن الإسهامات العلمية للشاطبي، وأن في مقدمتها إسهامه في بناء مقاصد الشريعة، قال:"وبذلك يضيف لبنات قوية إلى بناء شيده باحثو المقاصد"2 وذكر منهم ابن عبد السلام، والقرافي، وابن القيم، والمقري الجد، قال:"وهو من شيوخ الشاطبي المؤثرين في تكوين شخصيته، المفجرين لنبع نبوغه"3.
1 العبارة بين القوسين للشاطبي، وقد تقدمت قبل قليل.
2 فتاوي الإمام الشاطبي، 63.
3 فتاوي الإمام الشاطبي، 63.
وقد كان من الممكن، أو من الأفصل، التغاضي عن هذا الحكم العام حول تأثير المقري على الشاطبي، رغم ميله إلى المبالغة. ولكن مجيئه في سياق الحديث عن إسهام الشاطبي في بناء المقاصد، جعله منصرفًا إلى هذا الجانب بالذات. ومما يؤكد هذا، هو أن الأستاذ الكريم قد وضع المقري في صف العلماء الذين شيدوا بناء المقاصد. وهذه مبالغة أخرى، أكبر من سابقتها.
ولعل الأستاذ أبا الأجفان قد تأثر في هذا -كما أشار في مراسلة بيننا- بشيخه، المرحوم محمد الفاضل بن عاشور1. ولكن عبارة الشيخ ابن عاشور، لا تفيد هذا، ففي سياق حديثه عن "قواعد" المقري، ومنهجه في استخلاص القواعد الفقهية، قال: "وعلى هذا المنهج الاجتهادي العالي، كان تأسيس السلم الذي تدرج فيه أبو إسحاق الشاطبي، حتى انتهى إلى عوالي القواعد القطعية"2.
والحقيقة أن المقاصد عند المقري -وفي أهم كتبه وأقربها إلى الموضوع، وهو "قواعد الفقه"- لا تتجاوز- أو لا تبلغ- ما كان متداولا في عامة الكتب الأصولية، أو يوجد متناثرًا في بعض كتب الفقه:
فمن ذلك أنه ذكر في القاعدة "1134" أن المصالح الشرعية ثلاث: ضرورية وحاجية وتتمية، وأن الأولى مقدمة على الثانية، والثانية على الثالثة عند التعارض. وأن درء المفسدة يتنزل كذلك على المقامات الثلاث.
وفي القاعدة "1188" يقول: "اجتمعت الشرائع على تحريم الكليات الخمسة: العقول، والدماء، والأنساب، والأعراض، والأموال. وزاد بعضهم: الأديان وأظن أنه -بعد كل ما تقدم- ليست هناك حاجة إلى التعليق على هذا النص.
1 من خلال محاضراته، أو من خلال قوله الآتي.
2 أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي، 84.
وفي القاعدة "1006" يقول: "من مقاصد الشرع: صون الأموال على الناس، فمن ثم نهي عن إضاعتها وعن بيع الغرر والمجهول".
وجاء في القاعدة "831": "من مقاصد الشرعية: إصلاح ذات البين وحسم مواد النزاع".
وعلى كل، فيمكن القول: إن أبا عبد الله المقري قد طعم قواعده، ببعض ما كان يتردد في كتب الأصول والفقه عن مقاصد الشرعية. ولعل عمله كان من بين التنبيهات المبكرة للشاطبي1، في التفاته إلى المقاصد وعنايته بها مجرد احتمال؟
ولعل الفائدة المنهجية التي أشار إليها الشيخ ابن عاشور هي أهم ما أخذ الشاطبي من قواعد المقري2، علمًا بأن المقري مسبوق في هذا منهاجًا وإنتاجًا فهو كثير الأخذ جدا عن فروق القرافي. وقد درس الشاطبي فروق القرافي مثلما درس قواعد المقري.
والحديث عن المقري وأثره على الشاطبي في مجال مقاصد الشريعة، يجرني إلى الكلام -بصفة عامة- عن مدى ما يمكن أن يكون قد استفاده الشاطبي من بقية شيوخه ومن عصره، في هذا المجال.
وباختصار: فقد تتبعت الكثير جدا من فتاوي مشاهير العلماء المعاصرين للشاطبي، ومن شيوخه خاصة، "وقد أسعفني بها معيار الونشريسي"، وتتبعت بعضها في تراجمهم، في "نيل الابتهاج" خاصة، ولكني لم أجد عندهم شيئًا ذا بال.
1 جاء المقري إلى غرناطة سنة 757. وكانت وفاته بفاس سنة 759.
2 أعني الاستفادة في مجال المقاصد خاصة، أما في مجال الفقه وقواعده فلا شك أن الفائدة كبيرة جدا، ويكفي أن كتاب المقري قد جمع من قواعد أكثر من ألف ومائتي قاعدة، وهو ما لم يجمعه أي كتاب آخر في هذا الباب، حسب علمي.
وقد سبق أن رأينا ما تيسر من مرسالات الشاطبي، وهي أيضًا لا تكاد تعطي شيئًا في هذا الصدد
ومما يؤكد هذه النتيجة أن الشاطبي -في تناوله للمقاصد- لا يذكر أحدًا من شيوخه ولا من علماء عصره. بل قد رأينا بعض مظاهر التوتر والتنافر بينه وبين فقهاء عصره. ولم يكن له انسجام وتفاهم إلا مع أقل القليل منهم، وخاصة مع مفتي فاس وقاضيها، العلامة القباب.
وأكثر من هذا، فقد كان له موقف معروف من "المتأخرين" عمومًا، فكان يتجنب الاعتماد على كتبهم. وقد لاحظ ذلك بعض أصحابه فكتب يسأله عن سببه، فأجابه:"وأما ما ذكرتم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة، فليس ذلك مني محض رأي، ولكن اعتمدته بحسب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع المتأخرين. وأعني بالمتأخرين: كابن بشير وابن شاس وابن الحاجب1، ومن بعدهم. ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه، أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين، وأتى بعبارة خشنة، ولكنها محض النصيحة. والتساهل في النقل عن كل كتاب جاء، لا يحتمله دين"2.
وأما الذي نصحه، وقال عبارته الخشنة في حق الفقهاء المتأخرين فهو صديقه وشيخه القباب وقد كان يقول عن ابن بشير وابن شاس:"إنهم أفسدوا الفقه"3.
ولهذا جعل الشاطبي عمدته: كتب المتقدمين، بل أخذ هو أيضًا يوصي بذلك ويؤكد عليه: "فلذلك صارت كتب المتقدمين، وكلامهم، وسيرهم، أنفع
1 الأول من أهل القرن السادس، والآخران من أهل القرن السابع، والغريب أن لابن بشير كتابًا سماه الأنوار البديعة إلى أسرار الشريعة، انظر الديباج المذهب، ص87.
2 نيل الابتهاج، 50.
3 النيل، 50.