المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة - نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي

[أحمد الريسوني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد: في معنى المقاصد ونظرية المقاصد

- ‌الباب الأول: المقاصد قبل الشاطبي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: فكرة المقاصد عند الأصوليين

- ‌مدخل

- ‌حلقات سابقة:

- ‌ الحلقات الشهيرة:

- ‌الفصل الثاني: فكرة المقاصد في المذهب المالكي

- ‌مدخل

- ‌ماذا أعني بالمذهب المالكي:

- ‌أصول المذهب المالكي والمقاصد

- ‌المصلحة المرسلة

- ‌ سد الذرائع:

- ‌ مراعاة مقاصد المكلفين:

- ‌الباب الثاني: الشاطبي ونظريته

- ‌الفصل الأول: تعريف بالشاطبي

- ‌مدخل

- ‌ خلاصة ترجمة الشاطبي:

- ‌ الشاطبي يتحدث عن نفسه:

- ‌ مراسلات الشاطبي:

- ‌الفصل الثاني: عرض النظرية

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول: مقاصد الشارع

- ‌النوع الأول: قصد الشارع في وضع الشريعة

- ‌النوع الثاني: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام

- ‌النوع الثالث: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها

- ‌النوع الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة

- ‌القسم الثاني: مقاصد المكلف في التكليف

- ‌خاتمة الكتاب: بماذا يعرف مقصود الشارع

- ‌الفصل الثالث: أبعاد النظرية

- ‌مدخل

- ‌ الضروريات الخمس:

- ‌ مسائل المباح:

- ‌ الأسباب والمسببات:

- ‌الباب الثالث: القضايا الأساسية لنظرية الشاطبي عرض ومناقشة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مسألة التعليل

- ‌أحكام الشريعة بين التعليل والتعبد

- ‌الرافضون للتعليل:

- ‌موقف الرازي من التعليل:

- ‌ابن حزم والتعليل:

- ‌الفصل الثاني: المصالح والمفاسد

- ‌مفهوم المصلحة والمفسدة

- ‌إدراك المصالح بالعقل:

- ‌مجالات العقل في تقدير المصالح

- ‌التفسير المصلحي للنصوص

- ‌ تقدير المصالح المتغيرة والمتعارضة:

- ‌ تقدير المصالح المرسلة:

- ‌الفصل الثالث: بماذا تعرف مقاصد الشارع

- ‌فهم المقاصد وفق مقتضيات اللسان العربي

- ‌ الأوامر والنواهي الشرعية بين التعليل والظاهرية:

- ‌ المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية:

- ‌ سكوت الشارع:

- ‌ الاستقراء:

- ‌الباب الرابع: تقييم عام لنظرية الشاطبي

- ‌الفصل الأول: نظرية الشاطبي بين التقليد والتجديد

- ‌جوانب التقليد

- ‌مدخل

- ‌استفادته من الأصوليين:

- ‌استفادته من المذهب المالكي:

- ‌جوانب التجديد

- ‌مدخل

- ‌ التوسع الكبير:

- ‌ مقاصد المكلف:

- ‌ بماذا تعرف مقاصد الشارع

- ‌ تقديم ثروة من القواعد:

- ‌قواعد المقاصد:

- ‌الفصل الثاني: المقاصد والاجتهاد

- ‌مدخل

- ‌المقاصد وشروط المجتهد:

- ‌مسالك الاجتهاد المقاصدي

- ‌النصوص والأحكام بمقاصدها

- ‌ الجمع بين الكليات العامة والأدلة الخاصة:

- ‌ جلب المصالح ودرء المفاسد مطلقًا:

- ‌ اعتبار المآلات:

- ‌خاتمة: آفاق البحث في المقاصد

- ‌الفهارس:

- ‌فهرس الأعلام:

- ‌المصادر والمراجع: مرتبة ترتيبًا ألفبائيا على الأسماء المشهورة لمؤلفيها:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌النوع الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة

فطرف التشديد -وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين.

وطرف التخفيف -وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد.

فإذا لم يكن هذا ولا ذاك، رأيت التوسط لائحًا، ومسلك الاعتدال واضحًا، وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه".

ص: 135

‌النوع الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة

هذا النوع هو أطول أنواع القسم الأول "مقاصد الشارع". بل هو يعدل في طوله -تقريبًا- الأنواع الثلاثة المتقدمة مجتمعة، ولعل ما أسهم في إطالة هذا النوع هو الاستطرادات الطويلة الخارجة عن موضوع المقاصد، وإن كانت لا تعدم صلة بمباحث هذا النوع.

وأعني بهذه الاستطرادات خاصة المسائل من التاسعة إلى السادسة عشرة. وأهم ما يربط أبحاث هذه المسائل الثمانية، يقصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة هو أنه لا يستثنى أحد ولا تستثنى حالة، ولا يخرج شيء أبدًا عن أحكام الشريعة. فالناس عامتهم وخاصتهم، والوقائع معهودها وغريبها، والأحوال ظاهرها وباطنها، كل ذلك يجب إخضاعه لأحكام الشريعة، وإدخاله في الامتثال لها.

ففي رأي المسألة التاسعة يقول: "الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة: بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يتحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة".

وفي رأس المسألة الثانية عشرة يضيف: "إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين، وجارية على مختلفات أحوالهم، فهي عامة أيضًا بالنسبة إلى عالم الغيب

ص: 135

والشهادة من جهة كل مكلف، وإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن، كما نرد إليها كل ما في الظاهر".

كما أن المسائل السابعة عشرة، والثامنة عشرة، والتاسعة عشرة وإن كانت ذات صلة وثيقة بقصد الشارع في دخول المكلفين تحت التكليف، إلا أن صلتها بمواضع أخرى أوثق وربطها بها أنسب.

فالمسألة السابعة عشرة تدخل في باب المصالح والمفاسد، وكيفية الترجيح بينها، وهو الموضوع الذي أرجأت التعرض له لكثرة تشعباته.

وأما المسألتان الثامنة عشرة والتاسعة عشرة فتتعلقان، بموضوع تعليل الشريعة وأحكامها، وهو الموضوع الذي تعرض له باقتضاب "في المقدمة، كما سبق"، وقد وعدت بالتفصيل فيه، في سياق التعليقات والمناقشات. فإلى هناك بحول الله.

فهذه عشر مسائل هي نصف مسائل هذا النوع. وبقيت عشر أخرى، هي التي تمثل صميم الموضوع. فلنعد إليها:

مسائل هذا النوع الرابع من مقاصد الشارع جعل لها -كما مر- عنوان "قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة".

وعند افتتاح المسألة الأولى غير في العبارة ليوضح مراده أكثر فقال: "المقصد الشرعي من وضع الشريعة" وتعبيره هذا يدعونا للمقارنة مع تسميته للنوع الأول، حيث قال هناك: قصد الشارع في وضع الشريعة.

وقد تنبه الشيخ عبد الله دراز لهذا التماثل في العبارتين، وما قد يثيره من تساؤل عن العلاقة والفرق بين النوعين الأول والرابع، فعلق بقوله:"فالنوع الأول معناه وضع نظام كافل للسعادة في الدنيا والآخرة لمن تمسك به، والرابع أن الشارع يطلب من العبد الدخول تحت هذا النظام والانقياد له، لا لهواه"1.

1 الموافقات: 2/ 168.

ص: 136

ويتضح الفرق جليا بين النوعين من النظر في مباحث كل منهما. ولكن العبارات التي افتتح بها الكلام في كل من النوعين كافية أيضًا في التفريق بينهما أما عبارة الافتتاح للنوع الأول فقد تقدمت في مكانها. وأما تتمة افتتاحه لهذا النوع، فهي:"المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارًا" ثم قال بعد سرده لعدد من النصوص الدالة على ذم الهوى، وأهل الأهواء:"فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى، والدخول تحت التعبد للمولى".

وهو -كعادته في تقريبر المقاصد- يحشر من الأدلة النقلية والعقلية، ويرد من الاعتراضات الواردة أو المفترضة، ما يجعل تقريره قطعيًا لا غبار عليه. وكذلك فعل في إثبات قصد الشارع إلى إخراج المكلفين عن هيمنة أهوائهم، وإدخالهم تحت هيمنة الشريعة وأحكامها. وهذا لا ينافي ما تقرر في النوع الأول من كون الشارع قاصدا إلى حفظ مصالح المكلفين. لأن مصالحهم -وإن كانت تنال إلى حد ما مع اتباع الأهواء- فإنها لا تنال على أكمل وجه، إلا من خلال أحكام الشرع، وهذا لا يتحقق إلا بالتحرر من الأهواء والنزوات، وطلب المصالح الحقيقية وفق ما قرر الشارع.

ثم قال: "فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد:

منها: أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق، من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير، فهو باطل بإطلاق، لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه، وداع يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل، فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق. وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق: الأمر أو النهي أو التخيير، فهو صحيح وحق.

وأما إن امتزج فيه الأمران، فكان معمولًا بهما، فالحكم للغالب والسابق".

ومنها: أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم، وإن جاء في ضمن المحمود ذلك أن الاسترسال في إرضاء هوى النفس، ولو كان في فعل

ص: 137

الخيرات والمباحات، من شأنه أن يؤجج في الإنسان هواه، ويعوده العمل في إرضاء نفسه، دون التقيد بقيود الشرع. فإذا حصل هذا جره هواه إلى تجاوز أحكام الشريعة، والدخول في المحظورات.

هذه خلاصة المسألة الأساسية في هذا النوع، وهي المسألة الأولى وما بناه عليها من فصول.

أما المسائل الخمس الموالية لها "أي من الثانية إلى السادسة"، فهي امتداد لموضوع المسألة الأولى، وتعميق للبحث فيه.

وينطلق ذلك من تقسيمه للمقاصد الشرعية إلى مقاصد أصلية ومقاصد تبعية:

"فأما المقاصد الأصلية فهي التي لا حظ فيها للمكلف، وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة".

والضروريات المعتبرة في كل ملة هي -كما تقدم- حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.

وإنما اعتبر أنها لا حظ فيها للمكلف، لكونه ملزمًا بحفظها رضي بذلك أو لم يرض، بل إنه إذ فرط فيها، يحجر عليه ويكره على حفظها، ويعاقب على تضييعها في الدنيا والآخرة. وعلى هذا فإن حفظ الضروريات لا يرجع فيه إلى رغبة المكلف واختياره وميله. وهذا هو معنى كونها لم يراع فيها حظ المكلف.

وأما المقاصد التابعة، فهي التي روعي فيها حظ المكلف، فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نبيل الشهوات، والاستمتاع بالمباحث، وسد الخلات" ويتمثل هذا في أوجه الاستمتاع المباحة، وفي التوسع في الاستمتاع والتنعم، في حدود ما رسمه الشرع من حدود وقيود1.

1 كما كان مناسبًا أن يمثل لهذا ويوضحه بآية آل عمران14: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} الآية، وإن كان قد استشهد بآيات أقل تفصيلًا منها، كقوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الأعراف: 32.

ص: 138

وواضح أن هذه المقاصد التبعية -إلى جانب ما فيها من تمتيع وتنعيم للمكلفين، وهو ما يعبر عنه بالحظ- تعتبر "خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها".

كما أن المقاصد الأصلية -وإن كانت في الأصل مفروضة على المكلف دون اعتبار لقبوله أو رفضه- فهي تفضي إلى نتائج فيها حظوظ ومنافع له. وقد قال بعد بيان تداخل وتكامل المقاصد الأصلية مع المقاصد التبعية "فقد تحصل من هذا أن ما ليس فيه للمكلف حظ بالقصد الأول، يحصل له فيه حظه بالقصد الثاني من الشارع. وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل فيه العمل المبرأ من الحظ".

ومن أمثلة ذلك أن المكلف حين يعمل على حفظ نفسه ونسله "وهما من المقاصد الأصلية التي لم يراع في حفظها حظه"، يجني في نفس الوقت متعًا وحظوظًا تعتبر من قبيل المقاصد التبعية. بل حتى العبادات -وهي أبعد التكاليف عن مراعاة الحظوظ- فإنها تحقق-إلى جانب المقصد الأصلي منها- فوائد تبعية من قبيل الحظوظ، كاحترام الناس وثقتهم.

وفي الجانب الآخر، فإن جميع الحظوظ والنعم والمتع التي أذن فيه االشارع، داخلة في حفظ الضروريات، أي المقاصد الأصلية:"فأكل المستلذات، ولباس اللينات، وركوب الفارهات، ونكاح الجميلات، قد تضمن سد الخلات، والقيام بضرورة الحياة. وقد مر إن إقامة الحياة -من حيث هو ضروري- لا حظ فيه".

ورغم هذا، أي زعم أن عمل المكلفين بمقتضى المقاصد الأصلية يجلب لهم ويحقق المقاصد التبعية، وعملهم بمقتضى المقاصد التبعية يخدم المقاصد الأصلية، فإن الأفضل أن العمل بمقتضى المقاصد الأصلية، ولأجلها. ووجوه هذا التفضيل كثيرة1، ويمكن تلخيصها فيما يلي:

1-

لأنه أكثر انسجامًا مع ما سبق تقريره في أول هذا النوع من أن قصد الشارع بالتشريع: إخراج المكلف عن داعية هواه.

1 انظر تفصيلاتها وأدلتها في المسألة الخامسة والفصول المبنية عليها. وأما خلاصتها المعروضة هنا فهي من خلال عبارات الشاطبي نفسها، وليس فيها إلا تصرف طفيف مني.

ص: 139

2-

ولأن المقاصد الأصلية إذا روعيت أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة، وأبعد عن مشاركة الحظوظ التي تغبر في وجه محض العبودية.

3-

ولأن البناء على المقاصد الأصلية يصير تصرفات المكلف كلها عبادات، كانت من قبيل العبادات أو العادات.

4-

ولأن المقصد الأول "أي المقصد الأصلي" إذا تحراه المكلف يتضمن تحقيق المقاصد التبعية، بشكل تلقائي. لأنه أعم وأهم.

5-

ولأن العمل على المقاصد الأصلية يصير الطاعة أعظم، وإذا خولفت كانت معصيتها أعظم ومن هنا تظهر قاعدة أخرى، وهي: أن أصول الطاعات وجوامعها إذا تتبعت وجدت راجعة إلى اعتبار المقاصد الأصلية، وكبائر الذنوب إذا اعتبرت وجدت في مخالفتها1.

6-

كما أن البناء على المقاصد الأصلية ينقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب، من حيث كانت حفظًا للأمور الضرورية في الدين. والعمل في إطار الواجبات خير من العمل في غيرها.

ورغم هذه الوجوه -المهمة جدا- التي ترجح العمل بمقتضى المقاصد الأصلية، فإن هذا لا ينفي مشروعية العمل بدافع من المقاصد التبعية وما فيها من قصد لنيل الحظوظ والتمتع بها، ولكن بشرط أن يكون العمل لأجل المقاصد التبعية مصحوبًا -ولو بالدرجة الثانية- بقصد تحقيق المقاصد الأصلية، وأما إذا كان العمل -فقط- لأجل نيل الشهوات وتلبية النزوات، فهو عمل بمجرد الحظ والهوى. فلا قيمة له ولا ثواب فيه عند الله.

ومن هنا أنجر الشاطبي -في المسألة السادسة- إلى استطراد طويل، في غاية العمق والدقة، عالج في مسائل الإخلاص والتشريك في الأعمال، عبادات وعادات. وهو من المباحث النفيسة التي أبان فيها رحمه الله عن نظر فلسفي قوي، وعن نفس طويل في الحوار العلمي الرفيع، وخصوصًا عندما تعرض

1 أي أن العمل إذا وقع لأجل المقاصد الأصلية، يدخل في أركان الدين وكبريات الطاعات.

ص: 140

للخلاف بين نظرة الغزالي للإخلاص -وهي نظرة بطبعها التشدد الوصفي- ونظرة تلميذه ابن العربي، وهي نظرة يطبعها التدقيق الفقهي.

ولئن كان متعذرًا على تقديم خلاصة للقضية بكل تشعباتها وآثارها1، فلا يفوتني أن أقدم إحدى أهم النتائج التي قررها بعد تمهيد طويل من النقاشات الرصينة. وهي النتيجة التي توج بها ترجيحاته الخفية لموقف ابن العربي على موقف الغزالي حيث قال:"فحظوظ النفوس المختصة بالإنسان2 لا يمنع اجتماعها مع العبادات. غير أنه لا ينازع في أن إفراد قصد العبادة عن قصد الأمور الدنيوية أولى، ولذلك إذا غلب قصد الدنيا على قصد العبادة كان الحكم للغالب، فلم يعتد بالعبادة، فإن غلب قصد العبادة فالحكم له".

بقيت المسألتان السابعة والثامنة.

أما السابعة، فقد خصصها لموضوع النيابة في الأعمال وهو موضوع داخل في صميم قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام التكليف:

فالأعمال التي هي من قبيل المعاملات، كعقد العقود، وتنفيذها وحلها، وأداء الالتزامات المالية، تصح النيابة فيها شرعًا، "لأن الحكمة التي يطلب بها المكلف في ذلك كله صالحة أن يأتي بها سواه".

وإذن، فصحة النيابة في الأعمال رهينة بتحقيق حكمتها، أو مقصودها، فحيثما تحققت الحكمة من النائب صحت النيابة. وحيثما توقف تحقيق الحكمة على المكلف الأصلي لم تصح النيابة.

1 من جهة لأن البحث دقيق ومرصوص بكيفية لا تسمح بأي تلخيص، ومن جهة أخرى فأنا أريد لهذه الخلاصة أن تكون تقديمًا وتقريبًا لنظرية الشاطبي في أساسياتها، فلا أريد إغراقها في التفريعات المعقدة.

2 وهي التي ليس فيها مراءاة الآخرين، بل محصورة بينه وبين نفسه كمن يقصد في صومه الحمية، وفي اغتساله التبرد، وفي حجة التفسح، وهذا مع وجود قصد التعبد أيضًا. المهم أنه ليس في عمله مراعاة الآخرين، ولكن له مقاصد مصلحية غير مقاصد التعبد وهذا هو "التشريك".

ص: 141

وعلى هذا الأساس نفسه قرر بطلان النيابة في العبادات، بحيث "لا يقوم فيها أحد عن أحد، ولا يغني فيها عن المكلف غيره" واعتبر أن هذا الأصل قطعي نقلا وتعليلًا:

فأما أدلتة النقلية فعدد كثير من الآيات، مثل {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} .

وأما أدلته النظرية1، فيأتي في مقدمتها تحكيم المقاصد، وذلك "أن مقصود العبادات الخضوع لله والتوجه إليه، والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة القلب بذكره، حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرًا مع الله، ومراقبًا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيًا في مرضاته وما يقرب إليه حسب طاقته. والنهاية تنافي هذا المقصود وتضاده.

ثم أورد -كعادته- الاعتراضات الممكنة على منع النيابة في العبادات2، وأهملها الأحاديث التي تفيد صحة النيابة في الحج والصيام. فناقش الاستدلال بها جملة وتفصيلًا، ثبوتًا ودلالة. وختم ردوده على المستدلين بها بقوله: "هذه الأحاديث-على قلتها- معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي. كما تقرر أن خبر الواحد لا يعمل به إلا إذا لم يعارضه أصل قطعي، وهو أصل مالك بن أنس وأبي حنيفة. وهذا الوجه هو نكتة الموضع، وهو المقصود فيه.

وأما المسألة الثامنة، فقد قرر فيها وحرر مقصودًا آخر من مقاصد الشارع في دخول المكلفين تحت التكليف، وهو أن "من مقصود الشارع في الأعمال: دوام المكلف عليها، والدليل على ذلك واضح. "فقد مدح الله "المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون" وفي الحديث "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" إلى غيرها من النصوص.

1 أي التي تقوم على النظر والفكر.

2 مع العلم أن النيابة في بعض العبادات كالحج والصيام، يقول بها عدد من العلماء، لوجود أحاديث تفيد ذلك وتجيزه.

ص: 142