الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: مسألة التعليل
أحكام الشريعة بين التعليل والتعبد
…
الفصل الأول: مسألة التعليل
سبقت الإشارة1 إلى "المقدمة الكلامية" التي افتتح بها الشاطبي كتاب المقاصد، وتعرض فيها لكون الشريعة معللة -جملة وتفصيلًا- برعاية مصالح العباد. وأعود الآن لهذا الموضوع لسببين هما:
1-
كون تلك المقدمة جاءت قصيرة جدا "في صفحتين" بل يمكن اعتبارها قاصرة، بالنظر إلى الأهمية الكبرى لمسألة التعليل التي تشكل الأساس لنظرية المقاصد. فهي -لهذا- تحتاج إلى بسط أكثر مما جاء فيه هذه المقدمة المقتضبة.
2-
أنه أثار فيها -رغم اقتضابها أو ربما بسبب اقتضابها- أمورًا غير مسلمة، وتحتاج إلى مناقشة وتحقيق، وذلك عند إشارته إلى القائلين وغير القائلين بالتعليل.
أحكام الشريعة بين التعليل والتعبد:
جاء في أول المقدمة المشار إليها من كتاب المقاصد قول الشاطبي: "ولنقدم قبل الشروع في المطلوب مقدمة كلامية مسلمة في هذا الموضع، وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا. وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادًا. وليس هذا موضع ذلك.
1 راجع بداية الفصل الثاني من الباب الثاني.
فقد وصف هذه المقدمة بأنها "مسلمة"، وهذا يعني أنه لا خلاف فيها. ومع ذلك فقد احتاج إلى القول:"وهذه دعوى لا بد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادًا"، وليس هذا شأن المسلمات ثم لست أدري ما عني بقوله:"وليس هذا موضع ذلك"؟ مع أن هذا هو أنسب موضع لذلك. ثم هو قد أقام البرهان فعلًا على صحة القضية وإن كان بإنجاز شديد. ولعله يشير إلى أن البراهين المفصلة للمسألة ستأتي مثبوتة في مواضع أخرى من الكتاب.
ثم استمر في مناقضة قوله "مسلمة"، فذكر أن هذه المسألة "قد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة. كما أن أفعاله كذلك. وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين" فكيف يجتمع هذا مع قوله "مسلمة"؟ إلا أن يقصد أنها مسلمة عنده، أو أنها مسلمة وإن خالف فيها من خالف. وهذا هو الأقرب، ولكن كان ينبغي توضيحه.
فأما كونها مسلمة عنده، فهذا لا شك فيه، بل إنه يعتبرها قضية قطعية، معتمدا في ذلك -كعادته- على الاستقراء. وقد أورد في المقدمة المذكورة طرفًا من هذا الاستقراء الذي يستفاد منه كون الشريعة -جملة وتفصيلا- وضعت لمصالح العباد. ثم قال:"وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدًا للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة".
وفي مواضع متفرقة، ومناسبات مختلفة يعود ليؤكد ويوضح هذه القضية.
ففي المسألة السابعة من النوع الأول يقول: "إذا ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات. فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال. وكذلك وجدنا الأمر فيها والحمد لله".
وعلى هذا الأساس يمضي في كل أجزاء الموافقات، يقرر ويعيد -بعبارات جازمة- كون الأحكام الشرعية كلها، إنما هي لمصالح العباد. ومن ذلك أيضًا قوله في كتاب الأحكام: "والمعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح العباد. فالتكليف كله إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو لهما معًا1.
ولاستكمال موقفه من مسألة التعليل لا بد من ذكر أنه كثيرا ما يفرق بين أحكام العادات والمعاملات، وأحكام العبادات، فالأصل في الأولى هو التعليل والالتفات إلى المصالح. والأصل في الثانية التعبد وعدم التعليل:
أما الأول، فتدل عليه أمور:
"أولها الاستقراء، فإنا وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد. والأحكام العادية2 تدور معها حيث دارت. فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة فإذا كان فيه مصلحة جاز3.
والثاني أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله. وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول4.
-وأما الثاني- وهو أن الأصل في العبادات التعبد والتزام الحدود المنصوصة -فأول دليل له عليه: الاستقراء أيضًا5، بحيث إن الكثير جدا من أحكام العبادات، في كيفياتها ومقاديرها ومواقيتها وشروطها، لا يمكن تعليله تعليلا عقليا، وتحديد وجه المصلحة فيه؛ كما في موجبات الطهارة، وحدودها فإن الطهارة
1 الموافقات، 1/ 199.
2 أي الأحكام المتعلقة بالعبادات، نظير الأحكام العبادية.
3 يمكن التمثيل لهذا بالتسعير، كما سيأتي توضيحه في الفصل التالي، فقرة:"التفسير المصلحي للنصوص".
4 الموافقات، 2/ 305-306.
5 أنظر الموافقات، 2/ 300-304.
الواجبة تتعدى مكان النجاسة. وقد تلزم الإنسان وهو على غاية النظافة. وقد يكون متسخًا ولا تجب عليه. والتيمم يقوم مقام الطهارة المائية، ولا معنى لذلك لولا التعبد. ومثل هذا يجري في كثير من أحكام العبادات، فالتعليل والمناسبة فيها استثناء.
واعتمادًا على هذا الأصل عنده -وهو عدم التعليل في العبادات إلا استثناء- اعتبر أن ما يقوم به بعضهم من إعطاء تعليلات وتعيين "حكم وأسرار" لبعض الأحكام العبادية، غير قائم على أساس. ولهذا لم يعده من "صلب العلم" وإنما هو من "ملح العلم" لا غير، فقد مثل لملح العلم بأمثلة: "أحدها: الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه، على الخصوص في التعبدات، كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والركوع والسجود، وكونها على بعض الهيئات دون بعض، واختصاص الصيام بالنهار دون الليل1، وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأحيان المعينة دون ما سواها من أحيان الليل والنهار، واختصاص الحج بالأعمال المعلومة، وفي الأماكن المعروفة، وإلى مسجد مخصوص، إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه، ولا تطور2 نحوه، فيأتي بعض الناس فيطرق3 إليه حكمًا يزعم أنها مقصود الشارع من تلك الأوضاع، وجميعها مبني على ظن وتخمين غير مطرد في بابه، ولا مبني عليه عمل4.
هذا هو مجمل موقف الشاطبي من مسألة التعليل. ويمكن تلخيصه -أكثر- في أنه يعتبر تعليل الشريعة برعاية المصالح، مسألة قطعية مسلمة. وأن هذا يصدق على جملتها وجزئياتها، بلا استثناء.
1 لو قال: اختصاص الصيام بشهر معين دون سواه من الشهور، لكان وجيهًا ودالا عما يريد، أما الصوم بالنهار دون الليل، فالمسألة واضحة.
2 أي لا تحوم جهته، من الطور وهو الحوم حول الشيء:"دراز".
3 أي يدخل تلك الحكم ويقحمها على تلك الأحكام وينسبها إليها.
4 الموافقات، 1/ 80.
إلا أن جانب العبادات -من الشريعة- ينبني على أساس التسليم والتعبد، بغض النظر عن العلل والحكم. فكان الأصل فيه عدم التعليل. وإن كان في باطن الأمر معللا عند الله تعالى.
وإذا كان الشق الأول لا غبار عليه، وسيزداد وضوحًا وانحسامًا خلال الصفحات القادمة، فإن الشق الثاني يحتاج إلى توقف ونظر.
وقبل ذلك، أشير إلى أن الشاطبي ليس وحده يرى أن الأصل في العبادات عدم التعليل، بل يقول بهذا الجمهور الغفير من العلماء، وهو كثيرا ما ينسب هذا الأصل إلى الإمام مالك1. وجعله المقري "شيخ الشاطبي" من أصول الإمام الشافعي، خلافًا لأبي حنيفة الذي يرى أن: "الأصل التعليل حتى يتعذر"2 ثم قال "والحق أن ما لا يعقل معناه، تلزم صورته وصفته" وأكد هذا في مواضع أخرى من قواعده، من ذلك قوله في القاعدة 296: "نصوص الزكاة في بيان الواجب3 غير معللة عند مالك ومحمد4، لأن الأصل في العبادات ملازمة أعيانها كما مر فالواجب أعيانها5. وقال النعمان6: معللة بالمالية الصالحة لإقامة حق الفقير.
فهل هذا الأصل سالم مسلم؟ أي: أن الأصل في العبادات أن تؤخذ على ظاهرها، وتطبق بحذافيرها دون نظر إلى مقاصدها وحكمها ومعانيها؟ وهل -حقا- عدم التعليل هو الغالب في أحكام العبادات، والتعليل شيء استثنائي؟
هذه المسائل وغيرها تحتاج إلى التوضيحات التالية:
1 انظر الموافقات، 2/ 304، والاعتصام، 2/ 132.
2 قواعد الفقه، القاعدة 73.
3 أي المقادير الواجبة من كل صنف من أصناف المال.
4 يريد الإمام محمد بن إدريس الشافعي.
5 أي إخراج ما حدده الشارع ولا يجوز إخراج بدل عنه، أو قيمته.
6 هو الإمام أبو حنيفة النعمان.
وأولها أننا نجد كل العبادات معللة في أصل شرعها وفرضيتها، وتعليلالتها منصوصة، لا مستنبطة ولا مظنونة:
ففي الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 1 {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 2.
وفي الصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ
…
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} 3.
وفي الحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَج
…
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} 4.
وفي الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 5 وهذا جانب فقط من التعليل، اعتبره أبو حنيفة المقصود الأول من شرع الزكاة، حيث يرى أنها "شرعت ارتياضًا للنفس بتنقيص المال، من حيث إن الاستغناء بالمال سبب للطغيان والوقوع في الفساد"6.
أما الجانب الآخر من تعليل شرح الزكاة فهو المشار إليه في الحديث: "تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"7 وهو الذي توضحه وتفصله آية مصارف الزكاة8. فهي واضحة في أن مقصود الزكاة سد حاجات الأصناف الثمانية، أو من وجد منها. وفي اعتقاد جماهير العلماء أن هذا هو المقصود الأول للزكاة. وبه أخذ
1 سورة طه، 14.
2 سورة العنكبوت، 45.
3 سورة البقرة، 183.
4 سورة الحج، 27-28.
5 سورة التوبة، 103.
6 انظر: تخريج الفروع على الأصول، للزنجاني، ص111 وما بعدها، وتجد في ذلك الأحكام الفرعية التابعة لهذا التعليل ولغيره.
7 رواه مسلم.
8 سورة التوبة: 60.
وعليه بنى الإمام الشافعي -وهو من المقلين في التعليل عمومًا، وفي تعليل العبادات خاصة- يقول عنه شهاب الدين الزنجاني "الشافعي المذهب": "معتقد الشافعي رضي الله عنه أن الزكاة مئونة مالية1، وجبت للفقراء على الأغنياء، بقرابة الإسلام، على سبيل المواساة. ومعنى العبادة تبع فيها، وإنما أثبته الشرع ترغيبًا في أدائها، حيث كانت النفوس مجبولة على الضنة والبخل، فأمر بالتقرب إلى الله تعالى بها، ليطمع في الثواب، ويبادر إلى تحقيق المقصود2.
وهل يجهل أحد يتردد في كون أحكام الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -وهي معدودة عندهم ضمن العبادات- كلها معللة، معقولة، جملة وتفصيلًا؟
على أن الشاطبي نفسه لا ينكر أن العبادات معللة في أصلها وجملتها، وإن كان يرى أن التفاصيل يغلب فيها عدم التعليل. وفي هذا يقول: "وقد علم أن العبادات وضعت لمصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة على الجملة، وإن لم يعلم ذلك على التفصيل. ويصح القصد إلى مسبباتها3 الدنيوية والأخروية على الجملة4.
وقوله: "في الدنيا أو في الآخرة" ليس شكا منه في وجود فوائد ومصالح دنيوية للعبادات، وإنما هو مجرد احتياط لبعض الجزئيات، ولبعض الحالات التي لا تظهر لها مصلحة دنيوية عاجلة.
فقد تعرض -على سبيل المثال- لمقاصد الصلاة وفوائدها المشروعة، فذكر أن مقصودها الأول هو "الخضوع لله سبحانه، بإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة بين يديه وتذكير النفس بالذكر له"5.
1 أي أنها نفقة من النفقات المالية الواجبة على المكلف في ماله.
2 تخرج الفروع على الأصول: 110.
3 وهي ثمراتها وفوائدها المرجوة.
4 الموافقات، 1/ 201.
5 الموافقات، 2/ 399.
ثم ذكر من مقاصد التابعة -المنصوص عليها-1: النهي عن الفحشاء والمنكر والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا، وطلب الرزق بها، وإنجاح الحاجات وطلب الفوز بالجنة، والدخول في خفارة الله تعالى ونيل أشرف المنازل. ثم قال: "وكذلك سائر العبادات، فيها فوائد أخروية، وهي العامة، وفوائد دنيوية، وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية2.
وإذًا فمجال العبادات ليس مجالا مغلقًا محظورا عن التعليل المصلحي، بل للتعليل فيه مدخل، أو مداخل.
ومن هذه المداخل أيضًا، أن الرخص الواردة في أحكام العبادات كلها معللة، معقولة المعنى. وقد اعترف الشاطبي بشيء من هذا، ولكنه أغلق الباب بسرعة، حيث قال:"وأيضًا فإن المناسب3 فيها "يعني في العبادات" معدود عندهم فيما لا نظير له، كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره، والجمع بين الصلاتين، وما أشبه ذلك"4.
وفي مسألة شبيهة بمسألة الرخص، صرح الشاطبي بتعليلها، تعليلا مناسبًا، وذلك في شأن النواهي النبوية -لبعض الصحابة- عن المبالغة في بعض العبادات إلى حد الإرهاق والملل. قال "هذا كله معلل معقول المعنى، بما دل عليه ما تقدم، من السآمة والمل، والعجز وبغض الطاعة وكراهيتها. وإذا كان كذلك فالنهي دائر مع العلة وجودًا وعدمًا"5.
وفي تفاصيل الطهارات وأحكام المياه، لا نستطيع التغاضي عن كون المناسب هو الغالب الظاهر، ولا يمكن أن يعد مما لا نظير له. ومن هذا القبيل "أي معقولية أحكام الطهارات والنجاسات" ما قرره المقري، وجعله قاعدة مطردة
1 انظر تلك النصوص -إن شئت- في الإحالة التالية.
2 الموافقات، 2/ 400.
3 وهو ما كانت له علة مفهومة وحكمة مناسبة تدركها العقول وتقر بها.
4 الموافقات، 2/ 302.
5 الموافقات، 2/ 137-138.
بقوله: "ما يعاف في العادات يكره في العبادات: كالأواني المعدة بصورها للنجاسات، والصلاة في المراحيض1 والوضوء بالمستعمل، فإنه كالغسالة2 فلولا غلبة التعليل في هذا الباب، ما ساغ له أن يقرر هذه القاعدة بهذا التعميم. وأظهر من هذا ما ذكره إمام الحرمين قال: "ذهب طوائف من الفقهاء إلى أنه يحرم على الإنسان التضمخ بالنجاسات من غير حاجة ماسة3 وما ذلك إلا لمنافاته للتعليل الوارد عقب ذكر الوضوء والاغتسال في الآية: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} 4 فتعليل الوضوء والغسل بقصد التطهير لا غبار عليه، وإن لم يكن المقصود الوحيد.
وفي تفاصيل الصلاة: من لا يستطيع أن يدرك أن مواقيتها ووجوب المحافظة على تلك المواقيت، قصد به -مما قصد- أن تكون الصلاة وآثارها مهيمنة على كل أوقات المصلي، من يقظته إلى منامه، ومن تخفى عليه حكم صلاة الجماعة، والجمعة، والعيدين. والآذان والإقامة ناطقان بمقصودهما. وفي هيئة الصلاة من قيام وركوع وسجود، ما لا يخفى من مظاهر الخضوع لله والتذلل بين يديه. ولما كان السجود هو أكثر تلك الهيئات تعبيرًا عن هذا المعنى، اعتبر المصلي -وهو في سجوده- على غاية التقرب إلى الله، ففي الحديث الصحيح "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء"5. والآية مشيرة إلى هذا: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} 6.
ولشدة ظهور ما يتضمنه الركوع والسجود من معنى الذلة والخضوع من العبد، تعظيمًا للرب سبحانه، فقد جزم الإمام الغزالي بهذا المقصد فيهما، فقال: "وأما الركوع والسجود، فالمقصود بهما التعظيم قطعًا7.
1 وهي طاهرة.
2 قواعد الفقه، القاعدة العاشرة.
3 البرهان، 2/ 939.
4 سورة المائدة، 6.
5 صحيح مسلم.
6 سورة العلق، 19.
7 الإحياء، 1/ 160.
وما لنا نذهب بعيدًا، والشاطبي نفسه يسعفنا بتعليلات أكثر تفصيلًا في الأحكام التي نعى هو على غيره تعليلها وذكر حكمها، يقول: "وذلك أن الصلاة مثلًا: إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم1. فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه، فإذا أحضر نية التعبد أثمر الخضوع والسكون. ثم يدخل فيها على نسقها، بزيادة السورة خدمة لفرض أم القرآن، لأن الجميع كلام الرب المتوجه إليه. وإذا كبر وسبح وتشهد فذلك كله تنبيه للقلب، وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه والوقوف بين يديه. وهكذا إلى آخرها. فلو قدم قبلها نافلة كان ذلك تدريجًا للمصلي، واستدعاء للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضا لكان خليقًا باستصحاب الحضور في الفريضة.
وفي الاعتبار في ذلك أن جعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل، ليكون اللسان والجوارح متطابقة على شيء واحد، وهو الحضور مع الله فيها بالاستكانة والتعظيم والانقياد. ولم يخل موضع من الصلاة من قول أو عمل، لئلا يكون ذلك فتحًا لباب الغفلة ودخول وساوس الشيطان"2.
فهذا توسع ظاهر، يقدم عليه الشاطبي، في تعليل تفاصيل أكثر العبادات تعبدية، وهي الصلاة. فكيف يقال -رغم هذا- إن "المناسب" في العبادات مما لا نظير له وأن الأصل في العبادات عدم التعليل.
نعم، سنجد ولا شك أحكامًا في العبادات مما يصعب تعليله تعليلًا معقولًا ظاهرًا، من قبيل ما أشار إليه الغزالي في قوله "مبنى العبادات على الاحتكامات، ونعني بالاحتكام: ما خفي علينا وجه اللطف فيه، لأنا نعتقد أن لتقدير الصبح بركعتين، والمغرب بثلاث، والعصر بأربع سرًا3، وفيه نوع لطف وصلاح
1 هذا تعليل آخر من تعليلات الطهارة.
2 الموافقات، 2/ 24.
3 أي أن لهذه التقديرات سرا، ولطفًا من الله، في وضعها.
للخلق، استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، ولم نطلع عليه. فلم نستعمله، واتبعنا فيه الموارد"1.
ولكن، أيهما الغالب الذي نتخذه أصلًا، ونعتبر ما سواه استثناء: ما يعقل معناه ويمكن تعليله وإدراك حكمته، أم ما لا تدرك له حكمة ولا مصلحة؟ مع التذكير أن الأصل العام في الشريعة هو تعليلها برعاية مصالح العباد، كما تقدم، والسؤال الآن إنما يتعلق بأحكام العبادات فقط.
وإذا نظرنا في فقه الزكاة، لم نكد نجد حكمًا من أحكامها إلا وقد أدخل عليه الفقهاء التعليل. إن لم يعلله هذا، علله غيره2. وكلها تعليلات مصلحية واضحة. وقد استعملوا القياس في أحكامها رغم أنها عبادة، وعلى هذا الأساس سار فقيه الزكاة: الدكتور يوسف القرضاوي، وبين ذلك بقوله:
"لقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من بعض الحبوب والثمار، كالشعير والتمر والزبيب، فقاس الشافعي وأحمد وأصحابهما كل ما يقتات، أو غالب قوت أهل البلد، أو غالب قوت الشخص نفسه، ولم يجعلوا هذه الأجناس المأخوذة مقصودة لذاتها تعبدًا، فلا يقاس عليها.
وكذلك في زكاة الزروع والثمار، ذهب جمهور الأئمة إلى قياس كثير من الحبوب على ما وردت به النصوص. ولم يقصروا الزكاة على ما جاء في بعض الأحاديث من الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وقد جاء عن عمر أنه أدخل القياس في باب الزكاة. لما تبين له أن فيها ما يبلغ قيمة الفرس الواحدة منه ثمن مائة ناقة، فقال: نأخذ من أربعين شاة ولا نأخذ من الخيل شيئًا! وتبعه في ذلك أبو حنيفة بشروط معلومة.
وهذا ما جعلنا نقيس العمارات المؤجرة للسكن ونحوها، على الأرض الزراعية، ونقيس
…
، ونقيس
…
" "فقه الزكاة: 1/ 28-29".
1 شفاء الغليل، 204.
وقد ذهب ابن القيم بعيدًا في تعليل الأحكام، بما في ذلك الأحكام العبادية والتعبدية1:
فقد علل جعل التيمم بدلا عن الطهارة المائية، وعلل الاقتصار فيه على عضوين، وعلل كون الحجامة تفطر الصائم، وعلل كون المني يوجب الغسل بينما البول لا يوجب إلا الوضوء، وعلل كون خروج الريح يوجب غسل أعضاء لا صلة لها بذلك. وعلل أحكامًا كثيرة من هذا القبيل، كما علل أضعافًا لها في مجال المعاملات2.
ورغم أن ابن القيم -بسبب إصراره على تعليل كل شيء- قد وقع في تعليلات ضعيفة، كما في تعليله للفرق بين بول الصبي وبول الصبية3، وكما في تعليله لكون صلاة النهار سرية وصلاة الليل جهرية4.
ورغم أنه اعترف بشيء مما ذهب الشاطبي والغزالي، فقال:"وبالجملة، فللشارع في أحكام العبادات أسرار لا تهتدي العقول إلى إدراكها على وجه التفصيل، وإن أدركتها جملة"5.
رغم هذا وذاك، فإنه -على خلاف الشاطبي- اتخذ التعليل أصلًا، وعدم التعليل استثناء.
وهو بهذا يوافق -من جهة- الأصل العام في أن الشريعة معللة برعاية المصالح، بغض النظر عن التفريق بين العبادات وغيرها، وهو الأصل الذي سبق أن الشاطبي يعتبره مسألة مسلمة قطعية. ويعبر عنه المقري بقوله:"الأصل في الأحكام: المعقولية لا التعبد، لأنه أقرب إلى القبول، وأبعد عن الحرج"6.
1 الأحكام التعبدية هي التي لا تدرك حكمها، ولو كانت في مجال المعاملات.
2 انظر: أعلام الموقعين، الجزء الثاني في أوله.
3 أعلام الموقعين، 2/ 78-79.
4 أعلام الموقعين، 2/ 137-138.
5 أعلام الموقعين، 2/ 107.
6 قواعد الفقه، القاعدة 72.
كما أنه يؤيد -من جهة أخرى- ما كنت بصدد بيانه قبل قليل، وهو أن الأحكام المعللة والمعقولة المعنى في مجال العبادات، كثيرة جدا، وأن القليل منها هو الذي قد يتعذر تعليله تعليلًا واضحًا. فإذا أضيف هذا إلى الأصل السابق، ظهر بجلاء أكثر، أن الأصل في الأحكام الشرعية -العادية والعبادية- هو التعليل. وأن ما خرج عن هذا فهو الاستثناء.
وقد اعترف الجويني بأن ما ليس له معنى معقول نهائيا من الأحكام الشرعية "يندر تصويره جدا"1.
وهذا ما يوافق نصوص القرآن التي نصت على تعليل الدين كله، والشريعة كلها، دون تفريق ولا استثناء، من ذلك قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 2. قال العضد الإيجبي: "وظاهر الآية التعميم، أي يفهم منه مراعاة مصالحهم فيما شرع لهم من الأحكام كلها، إذ لو أرسل بحكم لا مصلحة لهم فيه لكان إرسالًا لغير الرحمة، لأنه تكليف بلا فائدة، فخالف ظاهر العموم3.
على أن ما ورد في الأحكام الشرعية، العبادية والتعبدية، من تحديدات، وهيئات، ومقادير، مثل: عدد الصلوات وعدد الركعات في كل صلاة، والجهر والإسرار، ومثل جعل الصيام شهرًا، وفي شهر معين، وكونه يبتدئ من طلوع الفجر وليس من طلوع الشمس مثلًا، ومثل هذا بعض تفاصيل الحج، وكذا أحكام الكفارات ومقاديرها، ومثل هذا أيضًا العقوبات المحددة، المسماة بالحدود، من حيث نوعها ومقاديرها.
أقول: هذه التحديدات -أو التقنيات إن شئنا- هي من الحاجات الملحة للحياة العامة واستقامتها. إنها -فضلا عما في التزامها من معاني التعبد والخضوع-
1 البرهان، 2/ 926.
2 سورة الأنبياء، 107.
3 شرح مختصر ابن الحاجب، 2/ 238، "نقلا عن أصول الفقه الإسلامي، للدكتور وهبة الزحيلي، 2/ 762".
تحقق مصلحة ظاهرة في تنظيم الحياة وتسهيل سيرها، وضبط واجباتها وحدودها. فإذا سلمنا بالحكم العامة في الطهارة والصلاة، فلا بد من وضع تفصيلات يسير الناس عليها، تساعدهم على التزام الحد اللازم والمحافظة عليه. وإذا سلمنا بالحكمة العامة للزكاة، فلا بد من تحديد الأنصبة وتقدير المقادير، حتى يعرف كل واحد حقه أو واجبه. وإذا سلمنا بحكمة الصيام، فينبغي رسم حده ومقداره، وبدايته ونهايته، بكيفية تلائم عموم الناس. وإذا سلمنا بحكمة الحج أو حكمه، فلا بد لتحقيق هذا الحكم من جعل الحج في وقت معلوم:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 1 {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} 2 ولا بد له من مراسيم محدودة، ينتظم الناس يها، وينضبطون بها، حتى لا يبقى الحجيج هملا، يموج بعضهم في بعض، وينازع بعضهم بعضًا.
وإذا سلمنا بمبدأ زجر المعتدين والمفرطين ومعاقبتهم، فلا بد من تفصيل ذلك وبيانه، حتى يكون الناس على بينة من أمرهم.
ولولا هذه التقنيات، وهذه الضوابط، لضاعت تلك الأركان والأسس المسلم بها؛ لضاعت بسبب غموضها والتباسها على الناس، ولضاعت بسبب اختلافاتهم فيها، ولضاعت بسبب التهاون في تقديرها وتنفيذها، ولضاعت بالتسويف والمماطلة لعدم توقيتها.
والشاطبي -مرة أخرى- يسعفنا بما يؤيد هذه التعليلات لما "لا يعلل! " فهو يقول: "وأما العاديات، وكثير من العبادات أيضًا، فلها معنى مفهوم، وهو ضبط وجوه المصالح، إذ لو ترك والنظر، لانتشر3 ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي. والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل. فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة لا تتعدى، كالثمانين في القذف، والمائة وتغريب العام في الزنا على
1 سورة البقرة، 197.
2 سورة الحج، 28.
3 أي لتشتت وكثر فيه الخلاف والتفرق.
غير إحصان. وخص قطع اليد بالكوع، وفي النصاب المعين1 وجعل مغيب الحشفة حدا في أحكام كثيرة. وكذلك الأشهر والقروء في العدد، والنصاب والحول في الزكوات. وما لا ينضبط رد إلى أمانات المكلفين، وهو المعبر عنه بالسرائر2.
ومثل هذه التحديديات والضوابط يلجأ إليها المجتهدون في فتاويهم، ويلجأ إليها الحكام في تقنيناتهم، بل يلجأ إليها الناس أنفسهم، في شكل أعراف وتقاليد يحترمونها، وينقادون لها، لأنها تضبط معاملاتهم في حظ ما، لأن المعروف عرفًا، كالمشروط شرطًا، بل كالمشروع شرعًا إذا لم يتناف مع الأحكام الشرعية ومقاصدها.
إذًا، فالضبط والتقنين والتحديد مصلحة معلومة يحتاج إليها جمهور الناس. فهذا جانب معقول مناسب، يمكن القول به في تعليل كثير من الأحكام الشرعية وهذا ليس نفيًا لمعنى التعبد فيها. بل إن التعليل عمومًا لا يتنافى مع التعبد. ومن هنا قالوا إن جانب التعبد "حق الله" لا يخلو منه حكم من الأحكام الشرعية3، سواء أكان تعبديا أو معللا. وسواء كان في العبادات أو في غيرها. بل إن التعبد في الأحكام، هو نفسه ضرب من التعليل المصلحي الذي لا يخلو عنه حكم من أحكام. فكل حكم يعلم الناس ويدربهم على الانقياد للشرع، وعلى الخضوع لله، ففيه مصلحة. وسيأتي -في الفصل التالي- للشاطبي أن الشريعة تتضمن مصالح جزئية، ومصلحة كلية. وأن المصلحة الكلية هي "أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته وأقواله واعتقاداته4 وهذا مع إيماننا بأن لكل حكم علته وحكمته الخاصة به، علمها من علمها، وجهلها من جهلها. أو كما تقدم عن الغزالي، فإن لكل حكم سرا، ونوع لطف
1 يعني نصاب القطع في السرقة.
2 الموافقات، 2/ 308-309.
3 انظر الفرق 22 من فروق القرافي، والموافقات، 2/ 310.
4 الموافقات، 2/ 386.