الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة: آفاق البحث في المقاصد
لا أريد في هذه الخاتمة -وكما جرت العادة- أن أعود إلى عرض ما عرضته، وإجمال ما فصلته. فذلك قد مضى بما له وما عليه. ويمكن أن أعود إليه -إذا يسر الله ذلك- لتتميمه، وتصحيح أغلاطه، وتقويم اعوجاجه.
ذلك أني وإن كنت أحس إحساسًا سطحيا -وعابرًا بالتأكيد- بأني بصدد إنهاء هذا البحث، فإن إحساسًا آخر ثقيلًا، يجثم على صدري، ويؤرق فكري، وهو أنني لم أنه شيئًا، وأن كل ما نبشته، أو خضت فيه بقدر ما، يدعو إلى مزيد من البحث والدراسة والتحرير والتقرير.
ولهذا فإني أقصر هذه الخاتمة على التذكير والتنبيه على بعض كبريات القضايا التي تتطلب الكثير من البحث.
أفعل هذا، إقرارًا مني بأني لم أنه شيئًا، وخاصة فيما يتعلق بهذه القضايا الكبرى. وأفعله استثارة وتحفيزًا لأهل العلم، ليتفضلوا بسد هذه الثغرات في مكتبتنا الفقهية والأصولية فيزيدوننا بيانا وتجلية لهذه الأمور.
وفيما يلي هذه القضايا التي أعني:
1-
بماذا تعرف المقاصد؟ أو كما عبر الدكتور عبد المجيد النجار: مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة. ولقد قدم الأصوليون خدمة كبيرة لهذا الموضوع، وذلك من خلال دراستهم لمسالك التعليل. ثم قدم الشاطبي ما عنده في الموضوع، كما قدم لنا تجربته التطبيقة في الكشف الاستقرائي عن كثير من المقاصد. وأضاف
الشيخ ابن عاشور ما أضاف. وكل هذا يسهل الانطلاق في دراسات أكثر عمقًا وتدقيقًا، وأكثر ضبطًا وتنقيحًا، لهذا الموضوع الكبير، الذي يمثل المدخل العلمي الصحيح لتوسيع الكشف لمقاصد الشريعة عامها وخاصها.
2-
مزيد من الاستقراء لأحكام الشريعة والاستنباط لعللها، لتوسيع لائحة مقاصد الشريعة، وجعلها -أو جعل أكثر ما يمكن منها- محل اتفاق يرجع إليه ويحتكم إليه في فقهنا واجتهادنا اليوم وغدًا.
3-
إعادة النظر في حصر الضروريات في الخمس المعروفة. لأن هذه الضروريات أصبحت لها -بحق- هيبة وسلطان، فلا ينبغي أن نحرم من هذه المنزلة، بعض المصالح الضرورية التي أعلى الدين شأنها، والتي قد لا تقل أهمية وشمولية عن بعض الضروريات الخمس. مع العلم أن هذا الحصر اجتهادي. وأن الزيادة على الخمس، أمر وارد منذ القديم كما رأينا. وحديثًا دعا الأستاذ أحمد الخمليشي إلى جعل العدل وحقوق الفرد وحريته، ضمن الضروريات من مقاصد الشريعة1.
ولا أريد الآن أن أقرر شيئًا قبل أوانه وفي غير موضعه. ولكن أقول: لنفتح هذا الموضوع بموازين العلم وأدلته.
4-
مزيد من الدراسة التفصيلية، للضروريات المكملة، والحاجيات والتحسينيات، والعمل على وضع ضوابط واضحة للتفريق بين مراتب المصالح كلها، وحدود الثبات والتغير في ذلك.
5-
استخراج ودراسة الفكر المقاصدي عند كبار الأئمة والعلماء، الذين يظهر أنهم ذوو باع وفضل في العناية بمقاصد الشريعة، ابتداء من كبار فقهاء الصحابة، ومرورًا بالأئمة الأربعة، وغيرهم كالترمذي الحكيم، والإمام الطبري.
1 وجهة نظر: 249-250 و300.
6-
وبصفة عامة: تتبع ودراسة مراعاة المقاصد في الفقه الإسلامي، وكيف يتم ذلك؟ وإلى أي حد؟ وما هي المقاصد التي وقع الاتفاق على اعتبارها مقاصد؟ وما هي المقاصد التي قيل بها دون مخالف في ذلك؟
7-
ومن خلال هذه المواضيع وغيرها، نعمل على وضع "ضوابط الاجتهاد المقاصدي" حتى لا يبقى هذا المنحى الاجتهادي منفذ تمييع للاجتهاد، وللفكر الإسلامي عمومًا، وحتى لا يكون هذا سببًا لرد الفعل السهل، وهو: إغلاق باب الاجتهاد، أو على الأقل الهروب بالاجتهاد نحو التحصن بقلعة الظواهر والاحتياطات. ولقد حاولت -مضطرًا- أن أبرز بعض معالم الاجتهاد المقاصدي، ولكن شتان بين "المعالم" و"الضوابط". فلتكن تلك المحاولة، خطوة في الطريق، إن أحسنت فيها ونعمت، وإلا، فلتكن إثارة وتحفيزًا لمن يستطيعون خوض الموضع وضبطه، كلا أو جزءًا.
وأخيرًا، هل سيفضي بنا التوسع في مباحث المقاصد إلى تحقيق ما دعا إليه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور من استخلاص مقاصد الدين وقطعياته، وتسميتها باسم "علم مقاصد الشريعة"1؟ أم أن المقاصد جزء لا ينبغي أن يتجزأ عن علم أصول الفقه، كما يرى عدد من الأصوليين المعاصرين؟ 2
الحق أن السؤال لا يكون ذا أهمية كبيرة إذا اتفقنا على ضرورة التوسع الكبير والعناية الفائقة بمقاصد الشريعة. وبعد ذلك، هل نسمي ذلك علمًا أم لا؟ المسألة هينة. ولعل ما صنعه الشيخ عبد الله دراز يعفينا من هذا التساؤل ولو إلى حين؛ فهو يرى:"أن لاستنباط الأحكام ركنين: أحدهما علم لسان العرب، وثانيهما علم أسرار الشريعة ومقاصدها"3 ومن هذين العلمين، يتكون علم أصول الفقه.
1 مقاصد الشريعة الإسلامية: 8.
2 كالدكتور عجيل النشمي "مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية - العدد 2" تصدر عن كلية الشريعة بجامعة الكويت.
3 من مقدمته للموافقات: 1/ 5.
فالمقاصد، علم، وركن في علم. والعبرة بالمسميات لا بالأسماء، وبالمقاصد لا بالوسائل.
والحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا.
ليلة الثلاثاء 20 ربيع النبوي، 1409؛ الموافق لفاتح نوفمبر، 1988.