الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما القسم الثاني المتعلق بمقاصد المكلف، فلم يقسمه إلى أنواع، وإنما بحثه في مسائل فقط.
وفيما يلي عرض مركز لأهم محتويات القسمين، أو الأنواع الخمسة، من المقاصد، تبعًا لتقسيمها وترتيبها المذكورين، لكون دوام الالتزام بترتيب المسائل والأفكار المندرجة تحتها، قاصدًا من هذا وذاك "أي التزام ترتيب المؤلف من جهة، وعدم التزامه من جهة أخرى" حسن إبراز نظرية الشاطبي في المقاصد.
القسم الأول: مقاصد الشارع
النوع الأول: قصد الشارع في وضع الشريعة
هكذا سماه في العنوان، ولكنه عندما كان -في المقدمة- يذكر تقسيمه للمقاصد قال عنه:"قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء" وهذه الكلمة الأخيرة لها أهميتها في توضيح ما يعنيه بهذا النوع، وتمييزه عن الأنواع الثلاثة الأخرى. ومن هنا بني عليها الشيخ عبد الله دراز توضيحًا مهمًا قال فيه: "أي بالقصد الذي يعتبر في المرتبة الأولى، ويكون ما عداه كالتفصيل له. وهذا القصد الأول. هو أنها وضعت لمصالح العباد في الدارين1.
وأما الشاطبي فيفتتح بيانه لهذا النوع، أو لهذا القصد الأول لأحكام الشريعة بقوله:"تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: ضرورية وحاجية وتحسينية" ثم شرع في تعريف هذه المراتب الثلاث:
فالضرورية هي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، ويترتب على فقدانها اختلال وفساد كبير في الدنيا والآخرة. وبقدر ما يكون من فقدانها، بقدر ما يكون من الفساد والتعطل في نظام الحياة.
1 الموافقات: 2/ 5.
وأما المقاصد الحاجية -أو المصالح الحاجية- فهي التي يتحقق بها رفع الضيق والحرج عن حياة المكلفين، والتوسعة فيها.
وأما التحسينية، فهي المصالح التي لا ترقى أهميتها إلى مستوى المرتبتين السابقتين، وإنما شأنها، أن تتم وتحسن تحصيلهما، ويجمع ذلك: محاسن العادات ومكارم الأخلاق والآداب.
والمقاصد الضرورية، أو المصالح الضرورية، ثبت بالاستقراء أنها خمسة هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظ العقل1، وهي التي جاء حفظها في كل ملة.
وحفظ الشريعة للمصالح، الضرورية وغيرها، يتم على وجهين، يكمل أحدهما الآخر، وهما:
1-
حفظها من جانب الوجود، أي بشرع ما يحقق وجودها وتثبيتها، ويرعاه.
2-
حفظها من جانب العدم، أي بإبعاد ما يؤدي إلى إزالتها، أو إفسادها، أو تعطيلها، سواء كان واقعًا أو متوقعًا.
فحفظ الدين مثلًا، تحققه من جانب الوجود العقائد الأساسية، والعبادات الرئيسية، من صلاة وزكاة. ويحفظ من جانب العدم بالجهاد، وقتل المرتدين، ومنع الابتداع.
وأحكام العادات والمعاملات تؤدي إلى حفظ بقية الضروريات من جانب الوجود، وأحكام الجنايات تؤدي إلى حفظها في جانب العدم.
والمصالح الضرورية الخمس المذكورة، تعتبر أصول المصالح وأسسها. والمصالح الحاجية إنما هي خادمة ومكملة للضرورية، مثلما أن التحسينية خادمة
1 ذكرها هنا على مذاهب الترتيب، وهو الترتيب الذي استعمله أول ما ذكر هذه الضروريات "1/ 38" وانظر الموضوع بتفصيل في الفصل التالي الأول. وراجع أيضًا أواخر الفصل الأول من الباب الأول.
ومكملة للحاجية. فالكل إذن، حائم حول الضروريات، يقويها ويكملها ويحسنها.
وتنبني على هذا الترتيب مبادئ مهمة جدا، في الأولوليات وفي الترجيح بين المصالح عند تعارضها.
فمن ذلك أن: "كل تكملة، فلها -من حيث هي تكلمة- شرط، وهو ألا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال1.
وبيان ذلك، أن الصلاة -مثلًا- لها شروط ومكملات، كالطهارة واستقبال القبلة. فإذا تعذرت هذه الشروط أو بعضها، وبقينا -مع ذلك- مصرين على توفير هذه المكملات، فإن الأصل نفسه سيضيع ونبقى بغير صلاة، فيكون اعتبار المكمل قد عاد على أصله بالإبطال. وهذا ما لا يجوز. ولهذا يجب -في هذه الحالة- التمسك بالأصل، ولو بتضييع مكملة، أو مكملاته.
ومن أمثلة ذلك في المعاملات: البيع، فمن شروطه انتفاء الغرر. لكن توفير هذا الشرط، قد يكون -في بعض البيوع- متعذرًا أو عسيرًا، ولا سيما إزالة الغرر بصفة تامة. فنكون بين أن نعطل هذه البيوع -التي لا بد فيها من قدر من الغرر- وبين أن نمضيها مع تقليل الغرر ما أمكن.
ولا شك أن الثاني هو الصواب، بناء على القاعدة المتقدمة، وهي قاعدة مستقرأة من أدلة الشرع.
فالشارع -سبحانه- جعل المصالح يكمل بعضها بعضًا، ويخدم بعضها بعضًا، وجعل الأدنى تابعًا للأعلى ومتأخرًا عنه في الاعتبار، فلا ينبغي أن تستعمل في تعطيل بعضها بعضًا، وخاصة تعطيل الأعلى بالأدنى. بل هي موضوعة ليقوي بعضها البعض، ويجلب بعضها البعض، ويحمي بعضها البعض.
1 الموافقات: 2/ 13.
وعلى هذا الأساس بنى الشاطبي المسألة الرابعة من هذا النوع. فبعد أن قرر أن "المقاصد الضرورية أصل للحاجية والتحسينية" فصل ذلك في خمسة قواعد، هذه تراجمها:
1-
الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميي.
2-
اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق1.
3-
لا يلزم من اختلال الباقيين اختلال الضروري.
4-
قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق، أو الحاجي بإطلاق، اختلال الضروري بوجه ما.
5-
ينبغي المحافظ على الحاجي والتحسيني للضروري.
ومرماه من تقرير هذه القواعد وترتيبها، وهو الوصول إلى النتيجة المقررة في القاعد الخامسة، والمبنية بدورها على القاعدة الرابعة. وذلك أنه -لأجل حفظ الضروريات- لا بد من المحافظة على الحاجيات والتحسينيات "بصفة عامة"، لأن: "في إبطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه، ومدخلًا للإخلال به. فصار الأخف كأنه حمى للآكد، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه فالمجترئ على الأخف بالإبطال معرض للتجرؤ على ما سواه. فإذا، قد يكون في إبطال الكمالات بإطلاق، إبطال الضروريات بوجه ما2.
وأكتفي -الآن- بتلخيص هذا القدر من مسائل النوع الأول من مقاصد الشارع. وأما بقية المسائل، فمنها ما سيأتي في فصل: المصالح والمفاسد "كالمسألتين الخامسة والثامنة" ومنها ما سيدمج في فصل: بماذا تعرف مقاصد الشارع؟ "كالمسألة التاسعة".
وإنما أرجأت هذه المسائل، لأني مضطر للتعرض لها في المباحث المشار إليها، وسيكون لذكرها هناك ما يناسب أهميتها من التفصيل والبيان والتعليق.
1 أي اختلالا تاما لا يبقى معه وجود، يقابله الاختلال الجزئي، "بوجه ما".
2 الموافقات: 2/ 21-22.