الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
مسائل المباح:
من الأبواب الثابتة في المؤلفات الأصولية -وخاصة من القرن الخامس فما بعده- باب الحكم الشرعي، أو الأحكام الشرعية، يحيث تقسم هذه الأحكام -كما هو معروف- إلى: الأحكام التكليفية، والأحكام الوضعية.
والمباح -أو الإباحة- هو أحد الأحكام التكليفية الخمسة "حسب تقسيم الجمهور". ومعنى هذا أن عامة الأصوليين المتأخرين على الخصوص1 يتطرقون في مؤلفاتهم إلى مباحث المباح. غير أن تناول الشاطبي للموضوع -كشأنه في سائر المواضيع- يختلف اختلافًا كبيرا عن تناول غيره. وأساس ذلك هو "تأثره" بنظرية المقاصد، وهيمنتها على تفكيره.
وقد افتتح الشاطبي "كتاب الأحكام" بالكلام على المباح، وتناوله في خمس مسائل، ومعها ستة "فصول"، أولها ملحق بالمسألة الأولى، والخمسة الأخرى ملحقة بالمسألة الثانية.
وقبل عرض محتوى المسائل الخمس الأولى، المتعلقة بالمباح، أقف قليلا عند المسألة السادسة، حيث بدا لي أنها كان ينبغي أن تكون هي المسألة الأولى من مسائل الأحكام التكليفية، لأنها عامة فيها، وأن تكون هي المسألة الأولى من مسائل المباح خاصة، لأن ما قرره فيها -وإن كان يعم الأحكام التكليفية كلها- قد اعترض عليه من جانب المباح خاصة2. فلو بدأ بها لجمع بين الأمرين، ما دام قد بدأ بالمباح.
وأما ما قرره فيها، فهو أن: "الأحكام الخمسة3 إنما تتعلق بالأفعال
1 بل يبدو أن بعض مسائل المباح قد جرى فيها النقاش منذ وقت مبكر، من ذلك ما اشتهر به الكعبي -من أئمة المعتزلة- من اعتباره المباح واجبًا، لأنه يجنب الحرام. وما يجنبنا الحرام فهو واجب. والكعبي توفي سنة 317. وقد رد عليه الأصوليون في مختلف العصور، بما فيهم الشاطبي نفسه "الموافقات 1/ 124 وما بعدها".
2 انظر الموافقات: 1/ 150.
3 وهي: الإباحة، والندب، والإيجاب، والكراهة، والتحريم.
والتروك، بالمقاصد1 أي أن أفعال المكلفين وتروكهم، إنما تتعلق بها الأحكام الشرعية التكليفية، إذا توفر فيها "القصد" وأما ما وقع من غير قصد ولا عمد ولا نية ولا وعي، فهو "بمثابة حركات العجماوات والجمادات"2.
وكأن هذا منه استدراك على التعريف الذي استقر عند الأصوليين للحكم الشرعي بأنه: "خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين" فخطاب الله تعالى -حسب الشاطبي- لا يتعلق بأفعال المكلفين إذا كانت خالية من القصد3.
وملاحظة أخرى، تتعلق أيضًا بترتيب مسائل المباح؛ وهي أن الشاطبي بعد أن خصص له المسائل الخمس الأولى، ثم تطرق بعدها إلى الأحكام التكليفية الأخرى، عاد في آخر حديثه عن الأحكام التلكيفية، ليخصص المسألتين الثانية عشرة والثالثة عشرة، لجانب آخر من المباح4.
وعلى كل حال، فمهما تفرقت مسائل الشاطبي وتباعدت، فإن "خيط المقاصد" يجمعها ويقرب بينها، ويذكرك بأولها وأنت في آخرها.
فأول ما قرره في مسائل المباح هو أن: "المباح -من حيث هو مباح- لا يكون مطلوب الفعل ولا مطلوب الاجتناب5 ثم عبر عن هذا المعنى بلغة المقاصد فقال: "وأن فعله وتركه في قصد الشارع بمثابة واحدة"6.
والكلام هنا إنما هو في حقيقة المباح، وهو الذي يوصف عند العلماء بأنه مستوي الطرفين، أي استوى فيه طرف الفعل وطرف الترك، وأن حكمه التخيير. فهذا هو معنى المباح المجرد عن الملابسات والمؤثرات. وهذا لا يكون للشارع قصد في فعله ولا في تركه. فليس مطلوب الفعل ولا مطلوب الترك. لأنه إذا اعتبر
1 الموافقات: 1/ 149.
2 الموافقات: 1/ 149.
3 انظر أدلته، ورده على الاعتراضات الممكنة: الموافقات: 1/ 149-151.
4 وسيأتي ذكره في آخر هذه الفقرة.
5 الموافقات: 1/ 109.
6 الموافقات: 1/ 115.
مطلوب الفعل أو مطلوب الترك، فقد ألحق بأحد الأحكام الأربعة الأخرى، ولم يبق مباحًا.
والشاطبي بتقريره هذا يرد على رأيين، هما:
1-
الرأي القائل بأن المباح مطلوب الترك، وأن تركه أولى من فعله، وأن على المكلف أن يتقلل منه ما أمكن.
2-
الرأي القائل بأن المباح مطلوب الفعل، وأنه مطلوب طلب وجوب. لأن كل مباح، ما فعله ترك محرم. وترك المحرم واجب. ففعل المباح واجب، لما فيه من ترك المحرم.
وهذا الرأي الأخير، هو رأي أبي القاسم الكعبي من المعتزلة. وهو رأي مردود عليه منذ القديم، ولهذا لم يحفل به الشاطبي كثيرًا، ولم يتجاوز رده عليه صفحتين1.
وأما الرأي الأول فقد اعتنى الشاطبي ببسط أدلته ومناقشتها بتفصيل تام2، مما يدل على "وجاهته" وسعة انتشاره.
ومن مستندات هذا الرأي: أن الاشتغال بالمباحات يلهي عما هو أهم من فعل الطاعات والنوافل، وقد يلهي حتى عن الواجبات، وقد يوقع في بعض الممنوعات، ومن هنا جاء ذم الدنيا ومتاعها وفتنتها. وقد نقل عن السلف الصالح تورعهم عن كثير من المباحات وزهدهم فيها، حتى أصبح الزهد في الدنيا شعار الصالحين، ومنهج المتقين.
وجواب الشاطبي على هذه المستندات، هو أن الكلام إنما هو في "المباح" في حد ذاته. وأما المباح الذي يلهي عما هو خير منه، أو يوقع في بعض المحاذير الشرعية، فهذا موضوع آخر؛ وهو المباح الذي لابسته عوامل خارجية، واتخذ ذريعة ووسيلة إلى غيره، ومعلوم أن الوسائل تعطي حكم المقاصد.
1 الموافقات: 1/ 124-125.
2 من: 109 إلى: 130.
فالاشتغال بالمباحات، والتمتع بها، عمل مباح في أصله. فإذا ألهى صاحبه عن واجب، أو أوقعه في محرم، تغير حكمه تبعًا لهذا الطارئ.
ولكن الطوارئ التي تدخل على المباح، كما تكون مذمومة، فتصيره مذمومًا، كذلك قد تكون محمودة فتصيره محمودًا. فليس ترجيح الترك بأولى من ترجيح الفعل مطلقًا. فتكثير من المباحات تكون عونًا لصاحبها على فعل الواجبات، واجتنبات المحرمات، والاستكثار من الخيرات. بل هذا هو الأصل فيها. وفي الحديث:"نعم المال الصالح للرجل الصالح1 وأيضًا: "ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلا، والنعيم المقيم"2.
وأما أن ترك المباحات، هو طريق الزهاد والصالحين، فغير مسلم:
من جهة، لأن حقيقة الزهد ترك ما طلب تركه. والمباح المحض ليس من هذا القبيل.
ومن جهة أخرى، فإن ترك بعض المباحات، إذا اعتبرناه زهدًا، فلأجل ما في ذلك من قصد حسن، واشتغال بما هو أولى فقد آل إلى اتخاذه وسيلة فخرج عن دائرة الإباحة:"فهو فضيلة من جهة ذلك المطلوب، لا من جهة مجرد الترك. ولا نزاع في هذا"3.
وهذا يجرنا إلى جانب آخر من مباحث المباح -فيه توضيح وتفصيل لما سبق- وهو: "أن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة"4.
فقد يصير محبوبًا ومطلوبًا فعله: إذا كان "خادمًا لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي5 كالتمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب والملبس، ونحو هذا: فهذه
1 قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث "الإحياء" رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني. بسند جيد "حاشية عبد الله دراز، الموافقات 1/ 114".
2 رواه مسلم.
3 الموافقات: 1/ 123.
4 الموافقات: 1/ 128.
5 الموافقات: 1/ 128.
النعم والمتع مباحات باعتبارها نعمًا ومتعا، وباعتبارها جزئيات معينة يختار منها الإنسان ما شاء، ويدع منها ما شاء، وكيف شاء. ولكنها، بصفتها العامة -أو بصفتها الكلية- تعتبر خادمة لأصل ضروري، هو إقامة الحياة. فهي من هذه الناحية، مأمول بها، فخرجت عن الإباحة إلى الطلب.
وقد يصير المباح مكروهًا مطلوب الترك: إذا صار فيه ضرر على أصل من الأصول الثلاثة. كالطلاق لغير موجب، فالطلاق مباح ومشروع لما يناسبه من الحالات. فإذا صار يستعمل لغير ما شرع له، فقد صار مضرا بعدة ضروريات وحاجيات. ومن هنا صار مبغضًا. وهكذا الشأن -أيضًا- في اللهو واللعب والراحة، هي أمور مباحة، إذا لم يكن شيء منها محظورًا بعينه. ولكنها إذا كثرت، صارت مذمومة، وقد كان العلماء والسلف يكرهون أن لا يرى الرجل في إصلاح معاش، ولا في إصلاح معاد.
وإذا لم يكن هذا ولا ذاك، فهو المباح الباقي على أصل الإباحة. وقد أدى هذا النظر بالشاطبي إلى أن يقسم المباح تقسيمًا رباعيًا، أي أنه -رغم إباحته الأصلية- قد تعتريه الأحكام الأربعة الأخرى. وذلك بحسب الجزئية أو الكلية، أي بحسب الحالات الجزئية المعينة لاستعمال المباحات في الحياة اليومية للأفراد، أو بحسب النظر إلى هذه المباحات في عمومها وشمولها، للفرد والمجتمع، ودورها العام في ذلك، ويتضح هذا -أكثر- من خلال تقسيمه وتمثله للأقسام الأربعة التي قد يؤول إليها المباح، وهي:
1-
مباح بالجزء، مندوب بالكل وذلك كالتمتع بالطيبات من المآكل والمشارب والملابس، فيما زاد عن حد الضرورة1. فالتوسع في هذه النعم والتمتع بها أمر مباح، بحسب الجزئية؛ أي هو في حق الأفراد، وفي مختلف الحالات، وبالنسبة لنماذج معينة من هذه النعم، يمكن أن يفعل وألا يفعل. لا حرج في هذا ولا ذاك. ولكنه بالنسبة لمجموع الناس، في مجموع حياتهم، أمر مطلوب، مرغوب لهم فعله. فهو بحسب الكلية مندوب، وبحسب الجزئية مباح.
1 لأن حد الضرورة من ذلك، غير داخل في موضوعنا، لأنه واجب أصلًا، وليس من المباح.
2-
مباح بالجزء، واجب بالكل: كالأكل والشرب، ووطء الزوجات، والبيع والشراء، وسائر الحرف والمهن. فهي من الناحية الجزئية مباحات:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} 1 {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} 2 {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} 3 فالإنسان إذا أكل أو شرب في هذه الحالة، أو لم يفعل، وإذا لبس كذا، أو كذا من الثياب، كل ذلك تصرفات مباحة، لا مانع من فعلها كما لا مانع من تركها. هذا بحسب الجزئية. ولكن: "لو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك، لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها، فكان الدخول فيها واجبًا بالكل4 وكذلك اختيار حرفة معينة، وأداؤها في هذا الوقت أو ذاك، وعلى هذه الكيفية أو تلك، كل هذا يدخل في دائرة الإباحة، لا بأس في فعله ولا في تركه. لكن، إذا ترك ذلك جملة، كان تاركًا لواجب، فالإباحة بمقتضى الجزئية، والوجوب بمقتضى الكلية.
3-
مباح بالجزء، مكروه بالكل: وقد مثله بالتنزه في البساتين وسماع الغناء المباح وتغريد الحمام، وسائر أنواع اللعب المباحة، "فمثل هذا مباح بالجزء فإذ فعل يومًا أو في حالة ما، فلا حرج فيه. فإن فعل دائمًا، كان مكروهًا"5.
4-
مباح بالجزء، محرم بالكل: كالمباحات التي تقدح في العدالة المداومة عليها. فلولا أن العلماء اعتبروا المداومة عليها مما يدخل في التحريم، لما جرحوا صاحبها وأجروه مجرى الفساق.
والشاطبي لم يمثل لهذا النوع بأي مثال، كما لم يستدل عليه بشيء، إلا ما كان من قول الغزالي "إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة، كما أن المداومة على الصغيرة تصيرها كبيرة"6.
1 سورة البقرة: 275.
2 سورة النساء: 26.
3 سورة المائدة: 1.
4 الموافقات: 1/ 131-132.
5 الموافقات: 1/ 131-132.
6 الموافقات: 1/ 131-132.
وهذا النوع الأخير، قد يصعب التسليم به، خاصة وأنه أورده بلا أمثله ولا أدلة. كما يصعب التفريق بينه وبين سابقيه، ففي كل منهما:"المداومة على بعض المباحات"، إلا أن نقول: إنها "أي تلك المباحات" تصير محرمة بالإدمان عليها والإفراط فيها. لأنها -حينئذ- تصير هوى متبعًا، وآفة مستحكمة، ومضيعة للعمر. وفي هذا من موجبات التحريم ما لا يخفى. ومن الأمثلة الجلية على هذا: احتراف بعض الناس -اليوم- لبعض أنواع اللعب، فيصير الإنسان، حرفته، "لاعب" وتصير حياته لعبًا في لعب! وقريب من هذا، ما يداوم عليه بعض الناس من قطع الساعات الطوال -من كل أيامهم أو معظمها- في المقاهي، وما أشبهها من توافه الأمور وسفاسفها.
وهذا التفريق الذي اعتمده الشاطبي بين الأفعال والتروك، بحسب الكلية والجزئية فيها، إنما هو نظر مصلحي مقاصدي. وقد استدل على صحة هذا التفريق بعدة أدلة، ولكن أهمها وجوهرها هو:"أن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق. وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات. إذ مجاري العادات كذلك جرت الأحكام فيها. ولولا أن الجزئيات أضعف شأنا في الاعتبار لما صح ذلك"1.
وأنتقل إلى الجانب الآخر -الذي سبقت الإشارة إليه- من جوانب المباح، وهو الذي أخره حتى ختم به مسائل الأحكام التكليفية.
وهذا الجانب، هو المباح الذي يكون طلبه من قبيل الضروريات أو الحاجيات، وتعترض تحصيله عوارض مضادة لأصل الإباحة. أو بتعبير أوضح: إذا كان المكلف، في طريقه لتحصيل ما أحل الله له، أو أثناء تحصيله لذلك، يضطر للوقوع في بضع المحرمات، فهل تبقى تلك المبحات على أصل الإباحة بحيث يستمر المكلف في السعي إليها وتحصيلها رغم ما يقع فيه بسببها من آثام، أم أن هذه العوارض تؤثر في حكمها، فيصبح هو التحريم؟
1 الموافقات: 1/ 139.
ومن أمثلتها: المرور في الطرقات والأسواق إذا كان فيه سماع محرم أو رؤيته. ومخالطة الناس إذا كانت توقع في سماع الغيبة والكذب والفحش. والمساكنة إذا كانت تعرض لبعض المحرمات، والزواج إذا كان سيجر إلى بعض الشبهات أو المحرمات، وطلب العلم إذا كان محفوفًا ببعض المنكرات.
وهذه المسألة تعرض لها غير ما مرة، في غير سياقنا الذي نحن فيه1. وعالجها -كعادته- بناء على ما تقرر عنده في المقاصد، فجعل حكم هذه المباحات مع عوارضها المحرمة، يختلف باختلاف مرتبتها في سلم المقاصد:
1-
فإذا كانت من قبيل الضروريات -التي تقدم أنها مباحة بالجزء وواجبة بالكل- صح للمكلف السعي في تحصيها، ولم تؤثر فيه العوارض. لأن "إقامة الضرورة معتبرة، وما يطرأ عليها من عارضات المفاسد مغتفر في جنب المصلحة المجتبلة"2.
ثم إنه قد تقرر في المقاصد أن المكمل إذا عاد على أصله بالإبطال أهمل، وحوفظ على الأصل بدون ذلك المكمل. وما نحن فيه يدخل في هذا الباب أيضًا. فإن السلامة من العوارض، هي مكملة بالنسبة إلى طلب الضروريات فلا يصح إبطال هذه الضروريات وتعطيلها لأجل هذه العوارض.
2-
وإذا لم تكن من قبيل الضروريات، ولكن يلحق المكلف إذا تركها حرج في حياته: "فالنظر يقتضي الرجوع إلى أصل الإباحة، وترك اعتبار الطوارئ، إذ الممنوعات قد أبيحت رفعًا للحرج كما سيأتي لابن العربي في دخول الحمام، وكما إذا كثرت المناكر في الطرق والأسواق، فلا يمنع ذلك التصرف في الحاجات، إذ كان الامتناع من التصرف حرجا بينا {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 3، 4.
1 من ذلك: 3/ 231-235 و4/ 210-211.
2 الموافقات: 1/ 182.
3 سورة الحج: 78.
4 الموافقات: 1/ 181.
وأما قول ابن العربي الذي أشار إلى أنه سيأتي، فقد أتى به في الجزء الثالث، في نفس الموضوع، لكن في سياق آخر، حيث قال الشاطبي هناك:"القواعد المشروعة بالأصل إذا داخلتها المناكر، كالبيع والشراء والمخالطة والمساكنة، إذا كثر الفساد في الأرض واشتهرت المناكر، بحيث صار المكلف عند أخذه في حاجته، وتصرفه في أحواله، لا يسلم في الغالب من لقاء المنكر أو ملابسته، فالظاهر يقتضي الكف عن كل ما يؤديه إلى هذا. ولكن الحق يقتضي أن لا بد له من اقتضاء حاجته، كانت مطلوبة بالجزء أو بالكل، وهي إما مطلوب بالأصل، وما خادم المطلوب بالأصل. لأنه إن فرض الكف عن ذلك أدى إلى التضييق والحرج، أو تكليف ما لا يطاق. وذلك مرفوع عن هذه الأمة. فلا بد للإنسان من ذلك، لكن مع الكف عما يستطيع الكف عنه. وما سواه فمعفو عنه لأنه بحكم التبعية لا بحكم الأصل. وقد قال ابن العربي في مسألة دخول الحمام بعدما ذكر جوازه: فإن قيل: فالحمام دار يغلب فيه المنكر، فدخولها، إلى أن يكون حرامًا أقرب منه إلى أن يكون مكروهًا، فكيف أن يكون جائزًا؟ قلنا: الحمام موضع تداو وتطهر، فصار بمنزلة النهر، فإن المنكر قد غلب فيه بكشف العورات، وتظاهر المنكرات، فإذا احتاج إليه المرء دخله، ودفع المنكر عن بصره وسمعه ما أمكنه. والمنكر اليوم في المساجد والبلدان، فالحمام كالبلد عمومًا، وكالنهر خصوصًا. هذا ما قاله، وهو ظاهر في هذا المعنى"1.
3-
وأما إذا كانت هذه المباحات التي تعترضها عوارض المنع، لا ترقى إلى مرتبة الضروريات، ولا يحصل بتركها حرج، فهي في محل الاجتهاد. ومرجعها إلى الخلاف في "تعارض الأصل الغالب" فالتمسك بالأصل يؤدي إلى إبقائها على الإباحة. والتمسك بالغالب يؤدي إلى ترجيح جانب العوارض، والحكم بالمنع.
وقد ساق حجج الوجهتين من النظر، ثم انتهى إلى القول:"وأوجه الاحتجاج من الجانبين كثيرة، والقصد التنبيه على أنها اجتهادية، والله أعلم"2.
1 الموافقات: 3/ 232-233.
2 الموافقات: 1/ 187.