الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والشاطبي، كما تقدم، وضع قانونًا عظيمًا، للترجيح بين عدد من الحالات التي تتعارض فيها مصالح الناس ومفاسدهم1.
وللإمام عز الدين بن عبد السلام ترجيحات أكثر تفصيلًا بين مختلف المصالح والمفاسد. بل إن هذا الموضوع هو أكثر ما يغطي كتابه: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام".
ورغم كل هذا وغيره، فإن الأمور -عند التطبيق- تظل بحاجة شديدة إلى النظر والتمييز والتقدير، لتحديد الراجح من المرجوح، ولتحديد أي المصلحتين أصلح، وأيهما أكبر، ولتحديد أهون الشرين، وأعظمهما ضررًا، ولتمييز ما هو من قبيل جلب المصلحة وما هو من قبيل درء المفسدة. ولتمييز حد الضرورة مما لا يبلغه. ولتمييز ما يعتبر من مصلحة الآخرة وما يعتبر من مصلحة الدنيا، وتحت كل هذا ما لا يحصى من الصور والوقائع التي يقع فيه التعارض، وتحتاج إلى التقدير والترجيح، أي تحتاج إلى العقل والنظر.
1 المسألة الخامسة من مقاصد المكلف، أو راجع الخلاصة المتقدمة في هذا البحث. فقرة مقاصد المكلف.
3-
تقدير المصالح المرسلة:
وقد سبق -في هذا الفصل- توضيح معنى الإرسال في المصالح المرسلة. وأنه ليست هناك مصلحة مرسلة بالمعنى المطلق للإرسال. وأن ما يسمى بالمصالح المرسلة، هي في الحقيقة مصالح معتبرة شرعًا. وكل ما في الأمر أنها لم يرد في تسميتها وحفظها نصوص خاصة. بل يدخل حفظها فيما علم - قطعًا- من قصد الشريعة إلى حفظ المصالح، ويدخل في نصوص عامة تأمر بالخير والصلاح، وإذا ظهر المقصود فلا مشاحة في الاصطلاح.
وإذا كنا قد رأينا -في المجالين السابقين- إلى أي حد نحتاج إلى النظر والتقدير العقلي، فيما هو منصوص عليه من المصالح والمفاسد، فمن باب أولى -وبفارق كبير- نحتاج إلى ذلك في باب المصالح المرسلة: تعيينًا وتقديرًا وترجيحًا.
وهذا الضرب من المصالح، ليس بالقليل ولا بالهين. بل يكفي أن ما يعرف باسم "السياسة الشرعية" يقوم أساسا على حفظ المصالح المرسلة. وبهذا -وحده- يتجلى أن المصالح المرسلة تتسع دائرتها يومًا بعد يوم. فهي تتزايد بتزايد حجم الأمة، وبتزايد حاجاتها، وتتزايد بتزايد وظائف الدولة وتضخمها.
وهكذا أصبحت المصالح المرسلة تمس كميان الأمة ومصيرها، وتؤثر على أرزاقها وكرامتها، وعلى انحطاطها أو تقدمها.
فهل يعقل أو يقبل أن يظل تدبير هذه المصالح الكبرى بمنأى عن مقاصد الشريعة وبمنأى عن موازين الشريعة وبمنأى عن علماء الشريعة؟
وهل يعقل أو يقبل أن يظل علماء الشريعة، بمقاصدهم وقواعدهم وآرائهم بمنأى عن هذا المجال الحيوي المصيري بالنسبة للأمة وشريعتها؟
هل يقعل أو يقبل أن يظلوا عاجزين، أو متهيبين أو مهمشين، عن تقرير مصير الأمة ومسارها، بل حتى عن مجرد المشاركة فيه بنصيب؟
وهذا لن يتأتي إلا إذا كان علماء الشريعة -إلى جانب علمهم بالشريعة وأحكامها المنصوصة- على قدر كبير من الوعي والتقدير للمصالح والمفاسد، وكانوا قادرين على وضع كل مصلحة في مكانها ومنزلتها، مهتدين بهدي الشريعة ومقاصدها. وهذا هو الطريق الصحيح لحفظ مصالح الأمة. يقول ابن عبد السلام:"ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد، حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع، ولا نص، ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك"1.
فمن خلال الإحاطة بأحكام الشريعة ومقاصدها، ومن خلال الخبرة بأحوال الأمة ومتطلباتها، ومن خلال النظر والتقدير العقلي، يتم تعيين المصالح المرسلة، ووضعها في مراتبها اللائقة بها.
1 قواعد الأحكام، 2/ 189.
وبالتأمل في هذه المجالات ومدى حاجاتها إلى إعمال العقل وإيقاد الفكر، يتضح لنا جليا، أن حكمة الله اقتضت أن يفسح للعقل البشري وللاجتهاد البشري مجالات رحبة للعمل والنضج والترقي.
ومن المقاصد العامة للإسلام: تزكية الإنسان، وهو مقصد ثابت نصا واستقراء.
فقد علل القرآن الكريم البعثة النبوية، بتزكية الناس -وبهذا اللفظ نفسه- أربع مرات، هي:
- {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} [البقرة: 151] .
- {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129] .
- {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 164] .
- {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة: 2] .
وأرى -والله أعلم- أن من تزكية الإنسان تزكية عقله، بتنميته وترشيده وتشغيله. وهذا ما فعله الشرع، حيث عمل على تحريم العقول وإطلاقها من قيودها، ورفع عنها ما كان يعطلها من أوهام وخرافات. وطعمها بقيمه وأحكامه، ثم ترك لها المجال واسعًا لتعمل وتتزكى. وهذا وجه آخر من وجوه حفظ العقل. فحفظ الشريعة للعقل ليس منحصرًا في تحريم المسكرات والمعاقبة عليها، فكم من عقول ضائعة وهي لم تر ولم تعرف مسكرًا قط. ولكن أسكرها الجهل والخمول، والتعطيل، والتقليد.
وعلى هذا، فإن إعمال العقل وفسح المجال له، ليس فحسب مساعدًا على تقدير المصالح وحفظها، بل هو نفسه مصلحة من المصالح الضرورية. لأن في إعماله حفظًا له. وحفظه هو أحد الضروريات المتفق عليها.