الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصًا علم الشريعة، الذي هو العروة الوثقى، والوزر الأحمى"1.
وأحسب أن تشدد الشاطبي هذا، وتعميمه الحكم في كل العلوم، فيهما من المبالغة والتجني ما لا يخفى2.
وعلى كل فالذي يعنينا هو التأكد من أن الشاطبي كان يستمد أساسًا من السلف الصالح، من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين فقط حل الفقهاء والأصوليين. ولهذا جاءت نظريته -وفكره عمومًا- امتدادًا للفقه السليم، والنظر السديد، والمنهج القويم. وهذا لا ينفي أنه قد استفاد من المتأخرين توجيهات وتنبيهات، وأنه من خلالهم قد عبر إلى القرن الخامس وما قبله. وأنه استفاد من شيوخه -خاصة- ما يستفيده -عادة- كل تلميذ وطالب، من تهييء وتدريب وتوجيه.
1 الموافقات، 1/ 99، وانظر أيضًا ص97.
2 وقد كرر تعميمه لهذا الحكم، على جميع العلوم عدة مرات، مما يدل على العمد والإصرار على تفضيل كل علم متقدم، على كل ما هو متأخرًا وهذا غير مسلم ولا سليم.
جوانب التجديد
مدخل
…
جوانب التجديد في نظرية الشاطبي:
ذكرت في أول هذا الفصل أن تجديد الشاطبي في أصول الفقه ومقاصد الشريعة، أمر لا ينازع فيه أحد. وأننا لا نجد إلا من يشهد به أو يشير إليه
والشاطبي نفسه هو أول متنبه، وأول منبه على ما وفق إليه في موافقاته، من وجوه التجديد والإبداع. وقد تقدم قوله "ولما بدا من مكنون السر ما بدا، ووفق الله لما شاء منه وهدى"1.
وقد كان رحمه الله يخشى أن يتلقى تجديده بالنفور والإنكار، ولهذا خاطب قارئه وطمنه بقوله: "فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار، وغر الظان أنه شيء ما سمع بمثله، ولا ألف في
1 الموافقات، 1/ 23.
العلوم الشرعية الأصلية على منواله، أو شكل بشكله -وحسبك من شر سماعه، ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه- فلا تلتفت إلى الإشكال دون اختبار، ولا ترم بمظنة الفائدة على غير اعتبار. فإنه -بحمد الله- أمر قررته الآيات والأخبار و
…
"1.
وقد بلغ من تخوف الشاطبي من أن يساء فهمه، بسبب ما ألفه أهل العلم من الجمود والركود، ومن التكرار والاجترار، إلى حد التخلي عن بعض ما كان يريد ذكره من تحقيقاته، والاكتفاء ببعض الرموز والإشارات إلى ذلك فقد ختم "الموافقات" بهذه العبارات المثيرة والمشيرة:"وقد تم -والحمد لله- الغرض المقصود، وحصل -بفضل الله- إنجاز ذلك الموعود. على أنه قد بقيت أشياء لم يسع إيرادها. وقل -على كثرة التعطش إليها- ورادها. فخشيت أن لا يردوا مواردها، وأن لا ينظموا في سلك التحقيق شواردها، فثنيت من جماع بيانها العنان، وأرحت من رسمها القلم والبنان. على أن في أثناء الكتاب رموزًا مشيرة، وأشعة توضح من شمسها المنيرة، فمن تهدى إليها رجا بحول الله الوصول".
وقد مر بنا أن صاحب "نيل الابتهاج" وصف كتاب "الموافقات" بأنه "لا نظير له"، ولا شك أنه يشير بهذا إلى جوانب التجديد في الكتاب، وأهمها ومعظمها هو ما يتعلق بمقاصد الشريعة.
وأما حديثًا فقد توالت الإشادات والشهادات بتجديد الشاطبي وإبداعه:
فقد شهد العلامة الشيخ محمد رشيد رضا بأن كتاب الموافقات "لا ند له في بابه" وأنه "لم يسبق إلى مثله سابق" وأن صاحبه "من أعظم المجددين في الإسلام"2.
1 الموافقات، 1/ 25، وقد تقدمت تتمة كلامهء أول هذا الفصل.
2 من مقدمته لكتاب الاعتصام، ص4.
وكذلك فعل في كتابه "تاريخ الأستاذ الإمام"، حيث عد الشاطبي من مجددي القرن الثامن1.
وتبعه في هذا صاحب كتاب "المجددون في الإسلام، من القرن الأول، إلى الرابع عشر"، فبعد أن لخص كلام الشيخ عبد الله دراز في أهمية المقاصد، ومكانة الشاطبي في إبرازها "من مقدمته للموافقات" قال:"وهذه ناحية من التجديد، لها قيمة عظيم"2 ثم قال "وبهذا يكون للشاطبي ذلك الفضل الكبير -بعد الإمام الشافعي- لأنه سبق هذا العصر الحديث بمراعاة ما يسمى فيه روح الشريعة، أو روح القانون، وهذا باهتمامه بمقاصد الشريعة ذلك الاهتمام، وسلوكه في علم أصول الفقه ذلك المسلك"3.
وبناء على هذا، فقد عد الإمام الشاطبي من أهل التجديد في القرن الثامن، وإن كان يقدم عليه في الرتبة: ابن خلدون، وابن تيمية، وابن القيم4.
وأما الشيخ مصطفى الزرقا فيقول: "كتاب الموافقات هو أجل كتاب عرفناه في أصول الفقه ومقاصد الشريعة، أتى فيه مؤلفه الموفق رحمه الله بعجائب التفكير السديد والبصر الفقهي، والأسلوب المبتكر"5.
وعلى هذا المنوال يقول الدكتور مصطفى سعيد الخن "لقد سلك المؤلف في كتابه هذا مسلكا فريدًا لم يسبق إليه" وسر ذلك: "أنه عرض أصول الفقه من خلال مقاصد الشريعة"6.
1 انظر ذلك في تصدير الكتاب المذكور، ص: ج.
2 المجددون في الإسلام لعبد المتعال الصعيدي، 309.
3 المجددون في الإسلام، 309.
4 المرجع السابق، 204 و311، وأما هذه المفاضلة، وكذا بعض آرائه الأخرى في فكر الشاطبي، فلا أرى ضرورة للتعليق عليها، لأنها خارجة عن موضوعي وغرضي.
5 المدخل الفقهي العام، 1/ 119.
6 دراسة تاريخية للفقه وأصوله، 219.