الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إمام الحرمين "ت 478 هـ":
يعتبر إمام الحرمين "أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني" حلقة كبيرة، ومحطة بارزة، في مسيرة علم أصول الفقه، وهذه حقيقة معروفة مسلمة في تاريخ هذا العلم. ولا تحتاج إلى برهان أكثر من "البرهان"1 نفسه. فقد أصبح "البرهان" منطلق الكتابة والتأليف في أصول الفقه لمن بعده، مثلما كانت "الرسالة" للإمام الشافعي، منطلق الكتابات الأصولية خلال القرنين الثالث والرابع، بل إلى أيام أبي المعالي، حيث إن والده -المتوفى سنة 438- هو أحد شراح "الرسالة".
وحسبنا من أهمية إمام الحرمين في علم أصول الفقه، أنه صاحب أكثر تأثير وأعمقه، عن تلميذه الإمام أبي حامد الغزالي، الذي فاق شيخه شهرة ومكانة، وأول المؤلفات الأصولية للغزالي -وهو "المنخول"- ليس إلا ملخصات أمينة لآراء أبي المعالي2.
1 هو أهم الكتب الأصولية لإمام الحرمين. وقد حققه قبل بضع سنوات الدكتور عبد العظيم الديب، وطبع في مجلدين.
2 صرح بهذا الغزالي نفسه، في نهاية المنخول حيث قال:"هذا تمام القول في الكتاب مع الإقلاع عن التطويل، والتزام ما فيه شفاء الغليل، والاقتصار على ما ذكره إمام الحرمين رحمه الله في تعاليقه، من غير تبديل وتزييد".
2-
الحلقات الشهيرة:
وأما في موضوعنا -مقاصد الشريعة-، فإن للجويني -حتى الآن- ريادة لا ينازعه فيها أحد. وحتى ريادة الغزالي في هذا الباب، فهي مدينة -إلى حد كبير- لشيخه "الإمام".
وريادة الجويني في موضوع المقاصد تتجلى -أولًا- في كثرة ذكره لها، وتنبيهه عليها؛ فقد استعمل لفظ المقاصد، والمقصود، والقصد، عشرات المرات، في كتابه "البرهان"، كما أنه كثيرًا ما يعبر عن المقاصد بلفظ الغرض، والأغراض. ومن أمثلة ذلك أنه تعرض لتعليل الطهارات و"الغرض" منها، ثم انتقل إلى التيمم -وهو "طهارة" يصعب تعليلها- فقال بلسان الفقهاء: "التيمم أقيم بدلًا غير مقصود في نفسه، ومن أمعن النظر ووفاه حقه، تبين أن الغرض من التيمم: إدامة الدربة في
إقامة وظيفة الطهارة، فإن الأسفار كثيرة الوقوع في أطوار الناس1، وإعواز الماء فيها ليس نادرًا. فلو أقام الرجل الصلاة من غير طهارة، ولا بدل عنها، لتمرنت نفسه على إقامة الصلاة من غير طهارة. والنفس ما عودتها تتعود. وقد يفضي ذلك إلى ركون النفس إلى هواها، وانصرافها عن مراسم التكليف ومغزاها"2.
ومن تنبيهاته على أهمية مراعاة المقاصد، أنه -في سياق الرد على الكعبي المعتزلي الذي اشتهر بإنكار المباح في الشريعة3- قال:"ومن لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي، فليس على بصيرة في وضع الشريعة"4.
غير أن أهم ما أسهم به أبو المعالي في لفت الانتباه إلى مقاصد الشريعة، وفي تحريك الكلام فيها، هو ما أورده في باب: تقاسيم العلل والأصول، من كتاب القياس5.
فبعد أن عرض آراء العلماء فيما يعلل وما لا يعلل من أحكام الشرع، وذكر نماذج لتعليلاتهم، وأثر كل ذلك في إجراء الأقيسة في الأحكام قال:"هذا الذي ذكره هؤلاء أصول الشريعة. ونحن نقسمها خمسة أقسام"6.
وظاهر من عبارته الإشعار بأن هذا التقسيم من وضعه، وأنه غير مسبوق به. وقبل أن أذكر تقسيمه الخماسي للعلل والمقاصد الشرعية، أشير إلى أنه أتى به ليبين من خلاله ما يصح إجراء القياس فيه وما لا يصح. أما الأقسام الخمسة للعلل -أو التعليلات- الشرعية، فهي:
- القسم الأول: ما يتعلق بالضرورات، مثل القصاص، فهو معلل بحفظ الدماء المعصومة، والزجر عن التهجم عليها7.
1 ومثلها الأمراض.
2 البرهان، 2/ 913.
3 انظر مبحث المباح في فصل قادم بعنوان: أبعاد النظرية.
4 البرهان، 1/ 295.
5 البرهان، 2/ من 923 إلى 964.
6 البرهان، 2/ 923.
7 البرهان، 2/ 923 و927.
- القسم الثاني: ما يتعلق بالحاجة العامة، ولا ينتهي إلى حد الضرورة. وقد مثله بالإجارات بين الناس1.
- القسم الثالث: ما ليس ضروريا ولا حاجيا حاجة عامة. وإنما هو من قبيل التحلي بالكرامات، والتخلي عن نقائضها. وقد مثله بالطهارات2.
- القسم الرابع: وهو أيضًا لا يتعلق بحاجة ولا ضرورة، ولكنه دون الثالث، بحيث ينحصر في المندوبات3. "فهو -في الأصل- كالضرب الثالث، الذي انتجز الفراغ منه، في أن الغرض المخيل: الاستحثاث على مكرمة لم يرد الأمر على التصريح بإيجابها، بل ورد الأمر بالندب إليها"4.
- القسم الخامس: هو ما لا يظهر له تعليل واضح ولا مقصد محدد، لا من باب الضرورات، ولا من باب الحاجات، ولا من باب المكرمات، قال:"وهذا يندر تصوره جدا"5 أي أن هذا الصنف نادر جدا في الشريعة. لأن كل أحكامها -تقريبًا- لها مقاصد واضحة وفوائد ملموسة. ولهذا فإنه رغم تمثيله هذا القسم الذي لا يعلل، بالعبادات البدنية المحضة، التي "لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية"6، أي لا يظهر فيها درء مفسدة ولا جلب مصلحة، فإنه سرعان ما نبه على أن هذه العبادات، يمكن تعليلها تعليلًا إجماليًّا، وهو أنها تمرن العباد على الانقياد لله تعالى، وتجديد العهد بذكره، مما ينتج النهي عن الفحشاء والمنكر، ويخفف من المغالاة في اتباع مطالب الدنيا، ويذكر بالاستعداد للآخرة. قال: "فهذه أمور كلية، لا ننكر على الجملة أنها غرض الشارع في التعبد بالعبادات البدنية، وقد أشعر بذلك نصوص من القرآن العظيم في مثل قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 7، 8.
1 البرهان، 2/ 924 و930.
2 البرهان، 2/ 924 و937.
3 البرهان، 2/ 925 و947.
4 البرهان، 2/ 947.
5 البرهان، 2/ 926.
6 البرهان، 2/ 926.
7 سورة العنكبوت، 45.
8 البرهان، 2/ 958.
فلم يبق إذن، إلا بعض أحكامها التفصيلية، مما يعسر تعليله ويتعذرالقياس عليه، كهيئات الصلاة. وأعداد ركعاتها، وكتحديد شهر الصوم ووقته1.
ولنعد إلى التقسيم الخماسي للعلل والمقاصد الشرعية، فقد سبق التنبيه -واعتمادا على كلام الإمام نفسه- على أن القسمين الثالث والرابع، يمكن دمجهما في قسم واحد. ويؤكد هذا أنه عندما ذكر القسم الخامس نص على أنه لا يدخل لا في الضرورات، ولا في الحاجات، ولا في المحاسن2. فحصر الأقسام الأخرى في ثلاث.
ثم إذا جئنا إلى هذا القسم الخامس، نجد أنه قد قسمه -ضمنيًا- إلى ما يعلل تعليلًا إجماليًا، وإلى ما لا تعليل له. وإذن، فما وقع تعليله، فيجب إلحاقه بأحد الأقسام الثلاثة، فهو إما من الضروريات، وإما من الحاجات، وإما من المحاسن. وما تعذر تعليله، فهو ليس مما نحن فيه، أي تقسيم العلل. فلا يبقى عند التحقيق إلا ثلاثة أقسام.
والذي أريد أن أخلص إليه من هذا: هو أن إمام الحرمين رحمه الله، هو صاحب الفضل والسبق في التقسيم الثلاثي لمقاصد الشارع "الضروريات - الحاجايات - التحسينيات"، وهو التقسيم الذي سيصبح من أسس الكلام في المقاصد.
كما أنه صاحب فضل وسبق في الإشارة إلى الضروريات الكبرى في الشريعة، وهي التي سيتم حصرها فيما بعد تحت اسم "الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال". ومن تنبيهاته في هذا الصدد، ما جاء في قوله: "فالشريعة متضمنها: مأمور به، ومنهي عنه، ومباح. فأما المأمور به: فمعظمه العبادات وأما المنهيات: فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر
1 البرهان، 2/ 958.
2 لمزيد من التفصيل، انظر الفضل المخصص لمسألة التعليل من الباب الثالث.
وبالجملة: الدم معصوم بالقصاص. والفروج معصومة بالحدود. والأموال معصومة عن السراق بالقطع1.
أبو حامد الغزالي "ت 505 هـ":
الإمام الغزالي -كما أشرت قبل قليل- هو امتداد لشيخه أبي المعالي. فقد تشيع بفكره وآرائه، واصطبغ كثيرًا بمنهجه واختياراته. ولكنه -مع هذا كله- لم يقف عند حدود ما وقف عنده الإمام، سواء في علم أصول الفقه عمومًا، أو في مقاصد الشريعة خصوصًا. بل نقح وحور، وأضاف وطور. فصار -هو أيضًا- صاحب فضل وسبق، وصاحب المكانة المرموقة في مسيرة علم أصول الفقه، وفي العناية بمقاصد الشرعية على وجه الخصوص. وأصبحت منزلته بالنسبة إلى شيخه، يصدق عليها ما قاله شيخه نفسه، وهو يلتمس المرجحات لمذهب الشافعي على غيره2. حيث قال:"السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس والتأصيل، فللمتأخر الناقد حق التتميم والتكميل. وكل موضوع على الافتتاح، قد يتطرق إلى مبادئه بعض التثبيج3، ثم يتدرج المتأخر إلى التهذيب والتكميل فيكون المتأخر أحق أن يتبع لجمعه المذاهب إلى ما حصل السابق تأصيله. وهذا واضح في الحرف والصناعات، فضلًا عن العلوم"4.
وإذا كان الإمام الغزالي لم يأت بجديد يذكر، في مؤلفه الأصولي الأول -وهو "المنخول من تعليقات الأصول"- فإنه قد تقدم كثيرًا في التنقيح والتطوير، في كتابه "شفاء الغليل، في بيان الشبه والمخيل، ومسالك التعليل" ثم انتهى إلى ما هو أوضح وأنضج في كتاب "المستصفى من علم الأصول".
أما في "شفاء الغليل"، فقد تعرض لذكر المقاصد في سياق كلامه على "مسلك المناسبة" من مسالك التعليل. وهذا المسلك يقوم على أساس تعليل
1 البرهان، 2/ 1151.
2 وخاصة على المذهبين الحنفي والمالكي.
3 الغموض والاضطراب.
4 البرهان، 2/ 1147.
الأحكام الشرعية بما تتضمنه وتفضي إليه من جلب مصلحة أو دفع مفسدة. ولهذا قال: "المعاني المناسبة: ما تشير إلى وجوه المصالح وأماراتها. والمصلحة ترجع إلى جلب منفعة أو دفع مضرة. والعبارة الحاوية لها: أن المناسبة ترجع إلى رعاية أمر مقصود"1.
فالمناسبات المصلحية التي يصح التعليل بها، هي التي تتضمن رعاية مقصود من مقاصد الشارع، "وما أنفق عن رعاية أمر مقصود فليس مناسبًا. وما أشار إلى رعاية أمر مقصود، فهو مناسب"2.
وهذا التقييد الذي وضعه للتعليل المصلحي -أو التعليل بالمناسبة- بأنه ينبغي أن يتضمن رعاية مقصود من مقاصد الشارع، نجده في "المستصفى" أصرح وأوضح. وذلك عند تعرضه لحجية الاستصلاح -أو المصلحة المرسلة- حيث عرف المصلحة المعتد بها بقوله:"نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشارع"3 ثم عاد في نهاية بحثه للمصلحة المرسلة ليقرر ما يمكن اعتباره فصل الخطاب في مدى حجية الاستصلاح، فقال رحمه الله:"فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع4، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلاتئم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطرحة. وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودًا بالكتاب والسنة والإجماع، فليس خارجًا من هذه الأصول. لكنه لا يسمى قياسًا، بل مصلحة مرسلة"5 إلى أن قال: "وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف في اتباعها. بل يجب القطع بكونها حجة"6.
وفي "شفاء الغليل"، كما في "المستصفى"، حدد لنا أمهات المقاصد الشرعية، التي عليها مدار كل مقصود، شرعي، وكل مصلحة شرعية: ففي
1 شفاء الغليل، 159.
2 شفاء الغليل، 159.
3 المستصفى، 1/ 286.
4 الأصوب -فيما رأى- أن يقال: فهم من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولعل هذا ما يقصده.
5 المستصفى، 1/ 310-311.
6 المستصفى، 1/ 311.
الكتاب الأول نجده يقسم مقصود الشرع إلى ديني ودنيوي1، ثم ينص على أنه "قد علم على القطع أن حفظ النفس، والعقل، والبضع، والمال، مقصود في الشرع"2. ثم أورد لكل مقصود من هذه المقاصد الأربعة، ما يدل عليه:
- حفظ النفس، يدل عليه شرع القصاص في القتل.
- وحفظ العقل دل عليه تحريم الخمر.
- وحفظ البضع واضح في تحريم الزنى والعقوبة عليه.
- والمال محفوظ بمنع التعدي على ملك الغير، وإيجاب الضمان، والقطع في السرقة.
ثم قال: "وقد نبه على مصالح الدين في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، وما يكف عن الفحشاء فهو جامع لمصالح الدين. وقد تقترن به مصلحة الدنيا أيضًا"3.
وفي "المستصفى" أعاد هذه المقاصد الجامعة، ولكن بشكل أكثر إحكامًا وتنقيحًا، فلم يقسمها إلى دينية ودنيوية، ربما لأنه أحس بإمكان الاعتراض عليه، بأن هذه المقاصد كلها دينية ودنيوية في آن واحد. خاصة وأنه قد أشار إلى هذا في نهاية قوله السابق. فالنهي عن الفحشاء والمنكر، هو نفسه النهي عن القتل، وعن السكر، وعن الزنى، وعن السرقة.
ولهذا، فبدل وضعه المصالح الدينية، بإزاء المصالح الدنيوية، جعل في مقدمة المقاصد الشرعية الضرورية:"حفظ الدين" ومصلحة الدين -أو ضرورة الدين- هنا تعني: أصل الدين، وهو المتمثل في الإيمان بالله وتوحيده وعبادته. ودليل هذا أنه قال:"ومثاله أي حفظ الدين: قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم"4.
1 شفاء الغليل، 159.
2 شفاء الغليل، 160
3 شفاء الغليل، 161.
4 المستصفى، 1/ 287.
وبهذا خرج عن الإشكال، وتجنب الاعتراض على تقسيم المصالح إلى دينية ودنيوية.
كما أنه عدل عن لفظ "البضع"، الذي استعمله في "شفاء الغليل" إلى لفظ أكثر دقة ووضوحًا، وهو لفظ "النسل" وهكذا أصبحت صياغة المقاصد الأساسية كما يلي:"ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم"1.
ومن آرائه التي نجد أصلها في "شفاء الغليل"، ثم أحكامها في "المستصفى، ما يتعلق بحفظ هذه الضروريات في الشرائع السابقة، فقد قال في "الشفاء" عن حفظ النفوس: "وهو الذي لا يجوز انفكاك شرع عنه عند من يقول بتحسين العقل وتقبيحه"2، ويعني بهم المعتزلة، ولكنه سرعان ما تبنى هذا الرأي دون حاجة إلى نسبته إلى أهل التحسين والتقبيح، فقال عن حفظ العقل وتحريم المسكر لأجله: "فهذا أيضًا مما لا يجوز أن تنفك عنه عقول العقلاء، ولا أن يخلو عنه شرع مهد بساطه لرعاية مصلحة الخلق في الدين والدنيا. فلم تشتمل ملة قط على تحليل مسكر، وإن اشتملت على تحليل القدر الذي لا يسكر من جنس المسكر.
وكذلك القول في مقصود البضع والمال وما يقع على هذه الرتبة"3.
ثم قرر في "المستصفى" -بعبارة جامعة حاسمة- أن حفظ الأصول الخمسة: "يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق. ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنى، والسرقة، وشرب المسكر"4.
وسيرا على خطى شيخه إمام الحرمين، فقد قسم المصالح الشرعية حسب درجة قوتها ووضوحها، وعلى هذا الأساس فإن المصالح منها ما هي في رتبة
1 المستصفى، 1/ 287.
2 شفاء الغليل، 162.
3 شفاء الغليل، 164.
4 المستصفى، 1/ 288.
الضرورات، ومنها ما هي في رتبة الحاجات، ومنها ما هي في رتبة التحسينيات والتزيينات. ولكل مرتبة مكملات"1.
وقد جاء هذا التقسيم عند الإمام الغزالي على درجة كبيرة من الوضوح والاستقرار، مع إبرازه لما بين المراتب الثلاث من تفاضل وتكامل، وإعطائه الأمثلة الكافية لكل مرتبة، ولمكملات كل مرتبة، من المراتب الثلاث، وإن كانت مسألة تصنيف الأحكام الشريعة في هذه المراتب، وفي مرتبتي الحاجات والتحسينات بصفة خاصة، إنما هو عمل اجتهادي تقريبي ليس إلا.
وقد أصبحت هذه الخطوات التي خطاها الإمام الغزالي، وأصبحت هذه المبادئ التي نقحها وحررها في مقاصد الشريعة، هي المبتدأ والمنتهى لعامة الأصوليين الذين جاءوا بعده. حتى نصل إلى الإمام الشاطبي، الذي يمثل المنعطف الثالث في تاريخ علم أصول الفقه.
ولعل من الأسباب التي خلدت كلمات الإمام الغزالي عن مقاصد الشريعة، وجعلت الأصوليين -لعدة قرون- لا يتجاوزون تكرارها، هو أنها جاءت تتويجًا لما سبقه من الإشارات والتنبيهات في هذا الموضع، وتتويجًا لخطواته هو نفسه. ولهذا اتسمت -كما سبقت الإشارة- بدرجة عالية من التنقيح والتركيز والوضوح. أعني: في كتابه الأخير "المستصفى".
فخر الدين الرازي "ت 606":
يمكن القول -باختصار- إن الإمام الرازي قد أورد في كتابه "المحصول" كل ما سبق عند الجويني والغزالي. ولا غرابة في هذا، فكتابه إنما هو تلخيص لكتب "المعتمد"، لأبي الحسين البصري، و"البرهان" للجويني، و"المستصفى" للغزالي. ومما يذكر في ترجمته أنه كان يحفظ "المعتمد" و"المستصفى" عن ظهر قلب2.
1 شفاء الغليل، 161-172. والمستصفى، 1/ 286-293.
2 انظر: نهاية السول، للأسنوي، 1/ 4.
على أن مما يمكن أن يذكر للرازي رحمه الله هو أنه أطال وأجاد في الدفاع عن تعليل الأحكام، في وقت كانت فيه فكرة التعليل قد بدأت تتعرض للتراجع والتشكيك. وسيأتي ذكر موقفه هذا في مناسبة قادمة1.
كما يلاحظ أنه لا يلتزم ترتيب الغزالي للضروريات الخمس بل لا يلتزم فيها ترتيبًا واحدًا. فهو تارة يذكرها على هذا النحو: النفس، والمال، والنسب، والدين، والعقل2.
وتارة يذكرها كما يلي: النفوس، والعقول، والأديان، والأموال، والأنساب3.
ولاحظ أيضًا أنه يعبر بالنسب بدل النسل. بينما التعبير بالنسل أصح. فحفظ النسب هو المقصود، وهو الذي يرقى إلى مرتبة الضرورات العامة، أما حفظ النسب، فهو من مكملات حفظ النسل.
سيف الدين الآمدي "ت 631":
وكتاب الآمدي "الإحكام في أصول الأحكام"، هو تلخيص آخر للكتب الثلاثة السابقة:"المعتمد، والبرهان، والمستصفى". إلا أن الجديد المفيد عند الآمدي، هو أنه أدخل المقاصد في باب الترجيحات، وبالذات في الترجيح بين الأقيسة المتعارضة. وهو ما سيصبح سنة حسنة فيمن بعده من الأصوليين.
فقد نص على ترجيح المقاصد الضرورية على الحاجية، وترجيح هذه على التحسينية. كما ترجح المصالح الأصلية على مكملاتها، وترجح مكملات الضروريات على مكملات الحاجيات4.
1 انظر ذلك في نهاية الفصل الأول من الباب الثالث.
2 المحصول، الجزء 2، القسم 2/ 217-218.
3 المرجع السابق، ص612.
4 الإحكام، 4/ 376.
ثم تطرق -وربما لأول مرة- إلى بيان كيفية ترتيب الضروريات الخمس والترجيح بينها بناء على ذلك، ودافع عن الترتيب الذي اختاره.
ورغم أنه عندما ذكر هذه الضروريات للمرة الأولى، ذكرها على ترتيب الغزالي، فقال:"المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل، ولا شريعة من الشرائع هي: الدين والنفس، والعقل، والنسل، والمال"1.
فإنه عند تفصيل القول في الترجيح بينها، اختار تقديم حفظ النسل على حفظ العقل، كما هو الشأن في تقديم حفظ النفس على حفظ العقل. لأن حفظ العقل إنما هو فرع لحفظ النفس والنسل. فبحفظهما يقع حفظ العقل، وبفواتهما يفوت العقل أيضًا. أما حفظ العقل فلا يتضمن حفظ النفس والنسل، بل لا يتصور هو نفسه بدون حفظهما2.
وقد أطال رحمه الله في الدفاع عن تقديم حفظ الدين على حفظ النفس، ومما قاله في ذلك:"فما مقصوده حفظ أصل الدين يكون أولى، نظرا إلى مقصوده وثمرته من نيل السعادة الأبدية في جوار رب العالمين. وما سواه من حفظ الأنفس والعقل والمال وغيرها. فإنما كان مقصودًا من أجله، على ما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3".
ثم رد بتفصيل على احتمال القول بتقديم حفظ النفس على حفظ الدين، وأبطل ما يمكن أن يستدل به على ذلك.
ومن النقط الجديدة عند الآمدي، تنصيصه صراحة على كون الضروريات منحصرة في هذه الخمسة، حيث قال:"والحصر في هذه الخمسة الأنواع إنما كان نظرًا إلى الواقع، والعلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة4". وبعده
1 الإحكام، 3/ 394.
2 الإحكام، 4/ 380.
3 الإحكام، 4/ 377.
4 الإحكام، 3/ 394.
أخذ الأصوليون يصرحون بانحصار الضروريات في هذه الخمسة، وأن الاستقراء دل على ذلك، بينما الإمام الغزالي -الذي سمى هذه الضروريات- اقتصر على حصرها ضمنيا، ولم يصرح بذلك.
وعلى كل، فحصر الضروريات في هذه الخمسة، وإن كان قد حصل فيه ما يشبه الإجماع، يحتاج إلى إعادة النظر والمراجعة، وليس هذا مقام ذلك. وقد تأتي إشارات أخرى، في مواضع قادمة من هذا البحث إن شاء الله تعالى.
وبعد الرازي والآمدي، توقفت عقارب الساعة، وأصحبت التآليف الأصلية التقليدية1 عبارة عن مختصرات لما سبق، وشروح للمختصرات، وتلخيصات للشروح، وتعليقات على التلخيصات. وقد يجهد أحدهم نفسه فيحول بعض ذلك نظمًا، ثم يتطوع آخر -أو هو نفسه- فينشر ذلك النظم.
وهكذا حتى نصل إلى "جمع الجوامع"، أو -على الأصح- إلى "جمع الموانع"، أعني موانع التجديد والتغيير والمراجعة والتقدم العلمي وموانع حتى من التعامل المباشر مع مؤلفات المتقدمين، فلم يبق بعد "جمع الجوامع" إلا حفظه والتحشية عليه.
ابن الحاجب "ت 646":
وهو دائر في فلك الآمدي، يقول:"والمقاصد ضربان: ضروري في أصله، وهي أعلى المراتب كالمقاصد الخمسة التي روعيت في كل ملة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وغير ضروري، وهو ما تدعو الحاجة إليه في أصله، كالبيع والإجارة"2.
وعندما تعرض للترجيحات، نص على ترجيح الضروريات على الحاجيات. إلى آخر ما عند الآمدي.
1 إشارة إلى وجود استثناءات خارجة عن هذه السلسلة التقليدية. وهي الاستثناءات التي توجهها الإمام الشاطبي، موضوع هذا البحث، وسيأتي إلى ذكر نماذج من هذه الاستثناءات التي ظلت تنبض بالحياة، ولا تزال طائفة.
2 منتهى الوصول والأمل، في علمي الأصول والجدل، 182.
ثم تطرق إلى الترجيح فيما بين الضروريات نفسها. فنص على ترجيح ضرورة الدين على بقية الضروريات، ثم قال:"وقد يرجح العكس، بأن حق الآدمي -لتضرره- مرجح على حق الله، لعلوه عن الضرر"1. ثم رد على هذا الرأي، مختصرًا ما قاله الآمدي بالضبط. وكذلك تابعه في تقديم حفظ النسل على حفظ العقل.
البيضاوي "ت 685"- كالرازي- يقسم المقاصد إلى أخروية ودنيوية. فالأخروية كتزكية النفس. والدنيوية: إما ضرورية "كحفظ النفس بالقصاص، والدين بالقتال، والعقل بالزجر عن المسكرات، والمال بالضمان، والنسب بالحد على الزنا"2، وإما مصلحية كنصب الولي للصغير، وإما تحسينية كتحريم القاذورات.
وأما الأسنوي "ت 772"، فلم يعلق على هذا الترتيب للضروريات بشيء. بل التزم به في شرحه للفقرة المتقدمة3. ولكنه ذكرها في موضع آخر على هذا النحو:"الضروريات الخمس، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب"4. واكتفى في باب التجريحات، بحكاية ترتيب الآمدي وابن الحاجب، دون أن يعلق بشيء أيضًا5.
وهكذا تأرجح الأصوليون، في ترتيبهم للضروريات الخمس، ما بين ترتيب الغزالي، وتريتب الآمدي، أو عدم التزام ترتيب معين. وترتيب الغزالي والآمدي يتفقان في تقديم الدين، فالنفس، وفي تأخير المال. ويختلفان في النسل والعقل، أيهما يقدم وأيهما يؤخر؟ والأقرب إلى المنطق ما ذهب إليه الآمدي، علمًا بأن الغزالي لم يعلل ترتيبه ولم يدافع عنه.
1 المرجع السابق، 227-228.
2 منهاج الوصول إلى علم الأصول، مع شرحه، 4/ 75.
3 نهاية السول في شرح منهاج الأصول، 4/ 82-84.
4 المرجع السابق، 388.
5 المرجع السابق، 515.
وإذا ثبت هذا، فلأعرج على بعض الأقوال التي تحتاج إلى تصحيح في موضوعنا هذا، وأعني ما قاله كل من: الدكتور وهبة الزحيلي، والدكتور محمد سعيد البوطي.
- فالدكتور الزحيلي يقول: "يرتب المالكية والشافعية هذه الأصول، أو الضروريات الخمس على النحو الآتي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. ويرتبها الحنفية على النحو التالي: الدين، ثم النفس، ثم النسب، ثم العقل، ثم المال"1.
والحقيقة أن ربط ترتيب هذه الضروريات بالمذاهب الفقهية، هو مجرد إقحام لا مسوغ له. فالمسألة، لا صلة لها -أصلًا- بالمذاهب. ثم إن نسبة ترتيب ما- أيا كان- إلى الحنفية، هو مجرد تكلف لا يقوم على أساس. فليس للحنفي دخل في هذه المسألة، ولا حتى للمالكية، وإن كان ابن الحاجب المالكي قد تابع ترتيب الآمدي، كما تابعه غيره. وقد أحالنا الدكتور الزحيلي في قوله السابق على مرجع حنفي هو "مسلم الثبوت". وهذا المرجع لا حجة فيه من جهتين: من جهة أن صاحبه متأخر جدا "ت 1119هـ"، ومن جهة أنه لم يضع ذلك الترتيب من عنده، ولا قدمه باسم المذهب الحنفي. وإنما تابع فيه الأصوليين الشافعية لا غير. ومعلوم أن "مسلم الثبوت" من المؤلفات الجامعة بين طريقتي الحنفية والشافعية، وهو عندما ذكر الضروريات لأول مرة، ذكرها وفق ترتيب الغزالي -وهو شافعي- أي بتقديم العقل على النسب2، وعندما أوردها في باب الترجيحات، اختار -على غرار صنيع الآمدي- أسبقية النسب على العقل3. والآمدي شافعي أيضًا.
وإذن، فالترتيبان معًا، من وضع الأصوليين الشافعية، ثم تابعهم المالكية والحنفية. مع أن المسألة لا علاقة لها بالتمذهب الفقهي. وإنما هي محض اجتهاد شخصي.
1 أصول الفقه الإسلامي 2/ 752-753.
2 مسلم الثبوت، مع شرح فواتح الرحموت، 2/ 262، مع التذكير بأن الغزالي يعبر بالنسل لا بالنسب.
3 المرجع السابق، 326.
- وأما الدكتور البوطي، فقد تبنى ترتيب الغزالي، وعلله من وجهة نظره، وبنى على ذلك ما بدا له من الأمثلة الفقهية، وكل هذا من حقه، ولا غبار عليه. ولكنه جازف وتكلف عندما قال:"الترتيب بهذا الشكل بين الكليات الخمسة، محل إجماع"1.
وأظن أنني لست بحاجة إلى بيان ما في هذا الحكم من مجازفة، بعد كل ما أوردته سابقًا في الموضوع، فهو حسبي.
ابن السبكي: "ت 771" ذكر الضروريات الخمس، حسب ترتيب الغزالي، إلا أنه -كالرازي وغيره- استبدل "النسب" بالنسل. ثم زاد إلى الخمسة سادسًا، حيث قال:"والضروري": كحفظ الدين، فالنفس، فالعقل، فالنسب، فالمال، والعرض"2.
قال البناني في حاشية عليه: "وهذا -يقصد العرض- زاده المصنف، كالطوفي. وعطفه بالواو، إشارة إلى أنه في رتبة المال. وعطف كلا من الأربعة قبله بالفاء، لإفادة أنه دون ما قبله في الرتبة3.
وإضافة العرض إلى الضروريات الخمس، ذكرها قبل الطوفي "المتوفي سنة 716"، القرافي "المتوفي سنة 684"، وهو يحكيها عمن قبله. قال:"الكليات الخمس، وهي: حفظ النفوس، والأديان، والأنساب، والعقول، والأموال. وقيل: الأعراض"4.
وظاهر أن القرافي -بخلاف السبكي- لا يتبنى هذه الإضافة.
وقد دافع الشوكاني عن هذه الزيادة إلى الضروريات الخمس فقال: "وقد زاد بعض المتأخرين سادسًا وهو: حفظ الأعراض؛ فإن عادة العقلاء بذل نفوسهم
1 ضوابط المصلحة، 250.
2 جمع الجوامع، بحاشية البناني، 2/ 280.
3 جمع الجوامع، بحاشية البناني، 2/ 280.
4 شرح تنقيح الفصول، 391.
وأموالهم دون أعراضهم. وما فدي بالضروري فهو بالضرورة أولى. وقد شرع في الجناية عليه بالقذف، الحد. وهو أحق بالحفظ من غيره. فإن الإنسان قد يتجاوز عمن جنى عليه نفسه أو ماله، ولا يكاد أحد أن يتجاوز عمن جنى على عرضه ولهذا يقول قائلهم:
يهون علينا أن تصاب جسومنا
…
وتسلم أعراض لنا وعقول1
والحقيقة أن جعل "العرض" ضرورة سادسة، توضع إلى جانب ضرورات: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، إنما هو نزول بمفهوم هذه الضرورات، وبمستوى ضرورتها للحياة البشرية، كما أنه نزول عن المستوى الذي بلغه الإمام الغزالي، في تحريره المركز والمنقح لهذه الضرورات الكبرى. فبينما جعل الضروري هو حفظ النفس، نزل "بعض المتأخرين" إلى التعبير بالنسب، ثم إلى إضافة العرض! وهل حفظ الأنساب، وصون الأعراض إلا خادمان لحفظ النسل؟
ثم إن حفظ العرض، ينقصه الضبط والتحديد. فأين يبدأ وأين ينتهي؟ وما هو الحد الفاصل بين حفظ العرض وحفظ النسب؟
ولو جاز لنا أن نضيف ضرورة النسب وضرورة العرض، لجاز لنا أن نضيف -من باب أولى- ضرورة الإيمان، وضرورة العبادة، وضرورة الكسب، وضرورة الأكل إلى غير ذلك من الضرورات الحقيقية، المندرجة في الضرورات الخمس، والخادمة لها.
وقد اعترض الشيخ ابن عاشور، على من جعلوا حفظ العرض من الضروريات، واعتبره من الحاجيات فقط. كما أنه لم يقبل جعل حفظ النسب من الضروريات إلا باعتباره يفضي إلى حفظ النسل2.
والحق أن ما كان هذا شأنه، فهو مكمل للضروري، كما أشرت من قبل
1 إرشاد الفحول، 216.
2 مقاصد الشريعة الإسلامية، 81-82.
وأعود إلى ذكر بعض العلماء، الذين خرجوا عن سلسلة التقليد والتكرار، ولعلل مما ساعد على تحررهم وتميزهم أنهم لم يكونوا أصوليين بالمعنى الضيق لهذا اللقب. بل كانوا أصوليين فقهاء. ولست أعني بهم الأصوليين الأحناف، الذين يعرفون أيضًا باسم "الأصوليين الفقهاء"، وتنعت طريقتهم في التأليف الأصولي بطريقة الفقهاء، أو بطريقة الأحناف، مقابل طريقة المتكلمين -وهي التي كنا معها- وأكثرهم شافعية.
لست أعني الأصوليين الأحناف، لأنهم أقل التفاتا إلى مقاصد الشريعة من المتكلمين. وقد راجعت عددًا من مصنفاتهم، ما بين متقدم ومتأخر، فلم أجد فيها ما يستحق الذكر1. مع أن الفقهاء الحنفية من أكثر الفقهاء تعليلًا لأحكام الشريعة: معاملات وعبادات. والتفاتهم إلى العلل والمقاصد أكثر بكثير من الفقهاء الشافعية. ولكن هذا في الفقه وجزئياته.
أما الأصوليون الفقهاء الذين أعنيهم -الآن- فهم بالتحديد:
عز الدين بن عبد السلام وتلميذه القرافي، وابن تيمية وتلميذه ابن القيم. ومعلوم أن هؤلاء -بالإضافة إلى الشاطبي- هم من العلماء والمفكرين القدماء الذين غزوا عصرنا وذاعت كتبهم وأفكارهم ذيوعًا كبيرًا، وأصبح لهم حضور قوي في الكتابات المعاصرة، سواء في الفقه، أو أصول الفقه، أو مقاصد التشريع الإسلامي، أو في الفكر بصفة عامة، وما ذلك إلا لما اتسموا به من صدق واستقامة ووضوح وتحرر، في تفكيرهم ومواقفهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
1 راجعت منها: - الفصول في الأصول، لأبي بكر الجصاص "ت 370".
- تأسيس النظر، لأبي زيد الدبوسي "ت 432".
- أصول البزدوي، فخر الإسلام "ت 482" وشرحه كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري "ت 730".
- أصول السرخسي "ت 490".
- التوضيح في حل غوامض التنقيح، لصدر الشريعة "ت 747"، وهو دائر في فلك البزدوي. وأما المتأخرون عن الشاطبي فلا داعي لذكرهم في هذا السياق.
عز الدين بن عبد السلام "ت 660":
وقد اشتهر الإمام ابن عبد السلام -أكثر ما اشتهر- بكتابه الفريد "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، وهو كتاب يكاد يكون خاصًا في مقاصد الشريعة، سواء باعتبار كلامه الصريح في مقاصد الأحكام، أبو باعتبار أن الكلام في المصالح والمفاسد، هو كلام في مقاصد الشريعة، التي تتلخص في جلب المصالح ودرء المفاسد.
والغريب أن صاحب "نيل الابتهاج" ذكر لابن عبد السلام كتابًا آخر -غير معروف له- في هذا الموضوع، اسمه "كتاب المصالح والمفاسد"، وأن الإمام ابن مرزوق الحفيد "ت 842"، درسه لبعض طلابه! وكان من الممكن الظن بأن هذا الكتاب هو نفسه كتاب "القواعد" لولا أنه ذكرهما معًا، جنبًا إلى جنب1.
كما أن له كتابًا آخر، سماه السبكي "شجرة المعارف"، وقال عنه:"حسن جدا"2، ولكنه لم يذكر عن موضوعه شيئًا. غير أن الشيخ ابن عاشور، عند تفسيره للآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 3. نقل عن "السيرة الحلبية":"أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام ألف كتابًا سماه "الشجرة" بين فيه أن هذه الآية اشتملت على جمع الأحكام الشرعية في سائر الأبواب الفقهية"4.
وهذا يعني أن الكتاب في الفقه والتشريع، بل في أسس الفقه وفلسفة التشريع. والآية التي بنى عليها كتابه هذا، جامعة لمقاصد الشريعة الإسلامية، لأنها أمرت بجوامع المصالح، ونهت عن جوامع المفاسد، حتى قال عنها ابن مسعود: هي أجمع آية في القرآن5.
1 نيل الابتهاج، 295.
2 طبقات الشافعية، 5/ 103.
3 سورة النحل، 90.
4 التحرير والتنوير، 14/ 260.
5 المرجع السابق، 259.
فالمفروض إذن، أن ابن عبد السلام قد عمل في هذا الكتاب، على ربط الأحكام الشرعية بأصولها ومقاصدها المجموعة في هذه الآية. وهذا عمل جليل فريد من نوعه.
فهل يكون هذا الكتاب، والكتاب السابق، باقيين على قيد الحياة؟ سؤال لا أملك إلا أن أضعه بين أيدي المختصين وذوي الهمم من الباحثين.
وأعود إلى الكتاب المتوفر بين أيدينا، وهو "قواعد الأحكام" لأقدم بعض فقراته الجامعة في موضوع المقاصد:
ومنذ بداية الكتاب نجده ينص على أن: "معظم مقاصد القرآن: الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها"1.
وهو ممن يرون أن الشريعة الإسلامية كلها، معللة بجلب المصالح ودرء المفاسد، سواء منها ما وقع النص على تعليله أو ما لم ينص عليه. فما نص على تعليله فيه تنبيه على ما لم ينص عليه. ويوضح هذا بقوله:"والشريعة كلها مصالح: إما تدرؤ مفاسد أو تجلب مصالح. فإذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرًا يحثك عليه، أو شرا يزجرك عنه، أو جمعًا بين الحث والزجر. وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد، حثا على اجتناب المفاسد، وما في بعض الأحكام من المصالح حثا على إتيان المصالح"2.
ويؤكد -في موضع آخر- هذه "الكلية" في تعليل أحكام الشرع، وأنها -كلها-تقصد مصلحة العباد، فيقول:"التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم. والله غني عن عبادة الكل، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين"3. ويعرف كلا من مصالح الآخرة ومفاسدها، ومصالح
1 قواعد الأحكام، 1/ 8.
2 قواعد الأحكام، 1/ 11.
3 قواعد الأحكام، 2/ 73
الدنيا ومفاسدها: "فمصالح الآخرة: الحصول على الثواب، والنجاة من العقاب. ومفاسدها: الحصول على العقاب، وفوات الثواب وأما مصالح الدنيا: فما تدعو إليه الضروريات أو الحاجات، أو التتمات والتكملات. وأما مفاسدها. ففوات ذلك بالحصول على أضداده"1.
ويحدد المقصود من العبادات بقوله: "والمقصود من العبادات كلها: إجلال الإله وتعظيمه ومهابته والتوكل عليه والتفويض إليه"2.
وأما التعليلات والمقاصد الجزئية للأحكام الشرعية، فالكتاب مليء بها. وانظر في ذلك -بصفة خاصة- الفصل الذي سماه:"قاعدة في اختلاف أحكام التصرفات لاختلاف مصالحها"3 لتجد عشرات من المقاصد الجزئية، ولترى كيف تدور الأحكام مع مقاصدها ومصالحها.
وأكتفي بهذا القدر، فالكتاب أصبح رائجًا متداولًا، ثم إني سأعرض لبعض محتوياته في مناسبات قادمة.
وأخيرًا، فإن ذكر ابن عبد السلام، يجر إلى ذكر تلميذه ووارث علمه وفكره، الإمام شهاب الدين القرافي، فهو من حسناته. غير أني -بعد تأمل ما قاله من المقاصد والمصالح- وجدته لا يكاد يخرج عما قاله شيخه، وإن فاقه ضبطًا وتحريرًا وتنظيمًا للقواعد والنظريات. وهذا التنبيه يكفي.
ابن تيمية "ت 728":
الإمام تقي الدين أحمد بن تيمية، لا يكاد يخلو كلام له عن الشريعة وأحكامها من بيان حكمها ومقاصدها، وإبراز مصالحها، ومفاسد مخالفتها وما سأذكره من كلامه في المقاصد ليس إلا قليلًا من كثير جدا. ففتاوى الرجل، وكتاباته الفقهية مليئة من مثل هذا:
1 قواعد الأحكام، 2/ 72.
2 قواعد الأحكام، 2/ 72.
3 قواعد الأحكام، 2/ 143 وما بعدها.
فهو لا يفتأ يؤكد ويثبت "أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. وأنها ترجح خير الخيريين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وندفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما1. ثم يمضي يفصل الأمثلة من الأحكام الشرعية مطبقة على هذه القواعد الجامعة.
وقد أمر الله العباد بأن يبذلوا غاية وسعهم في التزام الأصلح فالأصح، واجتناب الأفسد فالأفسد، وهذا هو الأساس الأكبر للتشريع الإسلامي:"فإن مدار الشريعة على قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} المفسر لقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" أخرجاه في الصحيحين، وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما، هو المشروع"2.
ونأخذ نموذجًا تطبيقيا لكلامه في المقاصد، وهو بيانه لمقاصد الولايات الشرعية، من خلافة، وقضاء، وحسبة، وفي هذا يقول "أصل ذلك أن تعلم أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون"3. وفي موضع آخر يقول: "فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق، الذي متى فاتهم، خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم"4.
ومقاصد الولايات الشرعية، إنما هي امتداد لوظيفة النبوات، وفرع لها، فمقاصد الولايات هي مقاصد النبوات. ولهذا نجده يربط بين الأمرين في قوله:
1 مجموع الفتاوى، 20/ 48.
2 مجموع الفتاوى، 28/ 284.
3 مجموع الفتاوى، 28/ 61.
4 مجموع الفتاوى، 28/ 262.
"فالمقصود أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا. وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه. وهكذا قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} فالمقصود من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، أن يقوم الناس بالقسط، في حقوق الله وحقوق خلقه"1.
وبناء على معرفة مقاصد الولايات الشرعية، ومعرفة ما تختص به وتتميز به كل ولاية ينبغي أن يتم تحديد من يصلح لكل ولاية: فإذا كان هذا هو المقصود، فإنه يتوسل إليه بالأقرب فالأقرب. وينظر إلى الرجلين، أيهما كان أقرب إلى المقصود ولي"2.
ولهذا فعندنا تكون مقاصد الحكام هي مقاصد الشرع، فإنهم يسيرون على هدي هذا القانون، ويختارون للمناصب والولايات أصلح الناس لتحقيق مقاصدها الشرعية. فإذا اختلفت مقاصدهم عن مقاصد الشرع، فإنهم يختارون من يناسب مقاصدهم. وفي هذا يقول: "وأهم ما في هذا الباب: معرفة الأصلح. وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود. فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر. فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصد الدنيا دون الدين، قدموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد، وكان من يطلب رئاسة نفسه، يؤثر تقديم من يقيم رئاسته3.
ولابن تيمية رحمه الله، استدراك على الأصوليين في حصرهم لمقاصد الشرعية في المقاصد الخمسة المعروفة، حيث يرى أنها لا تشتمل مقاصد سامية عظيمة في الشريعة، وفي هذا يقول: "وقوم من الخائضين في أصول الفقه، وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة، إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد، ودفع
1 مجموع الفتاوى، 28/ 263.
2 مجموع الفتاوى، 28/ 264.
3 مجموع الفتاوى، 28/ 620.
مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان: أخروية، ودنيوية، جعلوا الأخروية: ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم. وجعلوا الدنيوية: ما تضمن حفظ الدماء، والأموال، والفروج، والعقول، والدين الظاهر. وأعرضوا عن العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال القلوب وأعمالها: كمحبة الله، وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجا لرحمته ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة. وكذلك فيما شرعه من الوفاء بالعهود، وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه: حفظًا للأحوال السنية، وتهذيب الأخلاق، ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح"1.
وهذا النص -لا شك- يشير تساؤلات عدة، ويستدعي تعليقًا مطولًا، ونقاشًا مفصلًا. ولكني في هذا الفصل المدخل، أعرض أكثر مما أعلق وأناقش. وقد قدمت من قبل إشارة تتعلق بإمكان المراجعة لما ساد عند الأصوليين من حصر المقاصد الضرورية في الخمس المعروفة. وإيرادي لنص ابن تيمية هو إشارة أخرى في الموضوع2. والمسألة تحتاج إلى بحث خاص.
وأخيرًا، فإن ما قلته عن القرافي مع شيخه ابن عبد السلام يصدق تمامًا على ابن القيم "ت 751" مع شيخه ابن تيمية.
على أن أمامنا مناسبات أخرى لا يراد بعض أقوال الرجلين والتعرف على بعض عطائهما في الموضوع.
1 مجموعة الفتاوى، 32/ 234.
2 وللعلامة ابن فرحون المالكي "ت 799"، كلام يتوافق -نوعًا ما- مع كلام ابن تيمية، حيث قسم مقاصد الأحكام الشرعية إلى خمسة أقسام، ولم يجعل حفظ الضروريات الخمس إلا قسمًا واحدًا منها. "تبصرة الحكام، 2/ 105" ورغم أن كلام ابن فرحون -ككلام ابن تيمية أو أكثر- ينقصه التحرير والإحكام، فإنه يساعد على التفكير في مراجعة الحصر المشهور لأمهات المقاصد الشرعية.