المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الضروريات الخمس: - نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي

[أحمد الريسوني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد: في معنى المقاصد ونظرية المقاصد

- ‌الباب الأول: المقاصد قبل الشاطبي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: فكرة المقاصد عند الأصوليين

- ‌مدخل

- ‌حلقات سابقة:

- ‌ الحلقات الشهيرة:

- ‌الفصل الثاني: فكرة المقاصد في المذهب المالكي

- ‌مدخل

- ‌ماذا أعني بالمذهب المالكي:

- ‌أصول المذهب المالكي والمقاصد

- ‌المصلحة المرسلة

- ‌ سد الذرائع:

- ‌ مراعاة مقاصد المكلفين:

- ‌الباب الثاني: الشاطبي ونظريته

- ‌الفصل الأول: تعريف بالشاطبي

- ‌مدخل

- ‌ خلاصة ترجمة الشاطبي:

- ‌ الشاطبي يتحدث عن نفسه:

- ‌ مراسلات الشاطبي:

- ‌الفصل الثاني: عرض النظرية

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول: مقاصد الشارع

- ‌النوع الأول: قصد الشارع في وضع الشريعة

- ‌النوع الثاني: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام

- ‌النوع الثالث: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها

- ‌النوع الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة

- ‌القسم الثاني: مقاصد المكلف في التكليف

- ‌خاتمة الكتاب: بماذا يعرف مقصود الشارع

- ‌الفصل الثالث: أبعاد النظرية

- ‌مدخل

- ‌ الضروريات الخمس:

- ‌ مسائل المباح:

- ‌ الأسباب والمسببات:

- ‌الباب الثالث: القضايا الأساسية لنظرية الشاطبي عرض ومناقشة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مسألة التعليل

- ‌أحكام الشريعة بين التعليل والتعبد

- ‌الرافضون للتعليل:

- ‌موقف الرازي من التعليل:

- ‌ابن حزم والتعليل:

- ‌الفصل الثاني: المصالح والمفاسد

- ‌مفهوم المصلحة والمفسدة

- ‌إدراك المصالح بالعقل:

- ‌مجالات العقل في تقدير المصالح

- ‌التفسير المصلحي للنصوص

- ‌ تقدير المصالح المتغيرة والمتعارضة:

- ‌ تقدير المصالح المرسلة:

- ‌الفصل الثالث: بماذا تعرف مقاصد الشارع

- ‌فهم المقاصد وفق مقتضيات اللسان العربي

- ‌ الأوامر والنواهي الشرعية بين التعليل والظاهرية:

- ‌ المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية:

- ‌ سكوت الشارع:

- ‌ الاستقراء:

- ‌الباب الرابع: تقييم عام لنظرية الشاطبي

- ‌الفصل الأول: نظرية الشاطبي بين التقليد والتجديد

- ‌جوانب التقليد

- ‌مدخل

- ‌استفادته من الأصوليين:

- ‌استفادته من المذهب المالكي:

- ‌جوانب التجديد

- ‌مدخل

- ‌ التوسع الكبير:

- ‌ مقاصد المكلف:

- ‌ بماذا تعرف مقاصد الشارع

- ‌ تقديم ثروة من القواعد:

- ‌قواعد المقاصد:

- ‌الفصل الثاني: المقاصد والاجتهاد

- ‌مدخل

- ‌المقاصد وشروط المجتهد:

- ‌مسالك الاجتهاد المقاصدي

- ‌النصوص والأحكام بمقاصدها

- ‌ الجمع بين الكليات العامة والأدلة الخاصة:

- ‌ جلب المصالح ودرء المفاسد مطلقًا:

- ‌ اعتبار المآلات:

- ‌خاتمة: آفاق البحث في المقاصد

- ‌الفهارس:

- ‌فهرس الأعلام:

- ‌المصادر والمراجع: مرتبة ترتيبًا ألفبائيا على الأسماء المشهورة لمؤلفيها:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ الضروريات الخمس:

1-

‌ الضروريات الخمس:

منذ المقدمات الأولى لكتاب "الموافقات"1 بدأ الشاطبي يثير مسائل المقاصد، ويتكئ عليها في تدعيم وتوضيح آرائه الأصولية.

ففي المقدمة الأولى، التي خصصها للقول بأن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية2، جعل أقوى حججه على هذا القول، هو كون أصول الفقه راجعة إلى كليات الشريعة. وكليات الشريعة لا يمكن أن تكون إلا قطعية. قال: "وأعني بالكليات هنا: الضروريات، والحاجيات والتحسينيات3.

وقطعية هذه الكليات مسألة لا يرقى إليها جدال، بل هي في أعلى درجات القطع: "فقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري4.

ومن المقدمات ننتقل إلى كتاب الأدلة "الجزء الثالث حسب تقسيم الطبعات"، حيث نجده يضع القواعد العامة للنظر في الأدلة الشرعية. ومن ذلك

1 وهي ثلاث عشرة مقدمة، قال عنها:"تمهيد المقدمات المحتاج إليها قبل النظر في مسائل الكتاب".

2 الخلاف في هذه القضية يبدو أنه راجع إلى عدم تحرير محل النزاع فقط، فالقائلون بأن "أصول" الفقه قطعية، لا تحتمل الظنيات -ومنهم الشاطبي- يقصدون "أصول الأدلة" والقواعد الكلية للشريعة، ويعتبرون ما سوى ذلك من المباحث التفصيلية والاتجتهادات التطبيقة، ليس من "أصول" الفقه، وإن بحث في علم أصول الفقه وكتبه. وأما القائلون بأن أصول الفقه تشتمل على كثير من الظنيات، فإنما يتكلمون عن "علم أصول الفقه"، حيث أدرجت فيه كثير من الظنيات. ودليل ظنيتها، كثرة الخلاف فيها، وهو ما سعى الشاطبي إلى إقصائه من "أصول الفقه"، وافتتح كتابه بالتأكيد على أن أصول الفقه قطعية لا ظنية، وانظر في هذا:"البرهان" لإمام الحرمين: 1/ 85-86.

3 الموافقات: 1/ 30.

4 الموافقات: 1/ 38.

ص: 152

ما قرره في المسألة الثامنة بقوله: "إذا رأيت في المدينات1 أصلًا كليات فتأمله تجده جزئيا بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلًا لأصل كلي، وبيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال2.

ومراده من هذا الكلام أن التشريعات التي جاءت بالمدينة، وإن وجد فيها ما يعتبر أصلًا كليا، وقاعدة عامة، فإنها تعتبر فروعًا للكليات الأعم والأهم، وهي التي نزلت -لأهميتها- بمكة. فمقاصد التشريع العليا، وأسسه الكبرى، تم إرساؤه في القرآن المكي، جنبا إلى جنب مع أصول العقيدة وأسسها.

ثم بين ذلك رحمه الله، بإرجاع الأصول الخمسة إلى أدلتها من القرآن المكي:

أما حفظ الدين وتصحيح الإيمان وتثبيته في القرآن المكي، فمسألة أشهر وأوضح من أن تحتاج إلى دليل أو مثال، حتى لقد شاع -خطأ- أن القرآن المكي لا يحتوي إلا على هذا. وهي الفكرة التي يصححها الإمام الشاطبي من خلال بيان ما اشتمل عليه القرآن المكي لا يحتوي إلا على هذا. وهي الفكرة التي يصححها الإمام الشاطبي من خلال بيان ما اشتمل عليه القرآن المكي من قواعد وكليات تشريعية من قبيل ما يلي:

وأما حفظ النفس، فقد نص عليه في كثير من الآيات المكية كقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} 3 وقوله: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 4، وغيرهما.

وحفظ النفس يتضمن حفظ العقل. وأما "تكميل" حفظ العقل، فقد جاء في المدينة بتحريم المسكرات، وإقامة الحد عليها. فالحفظ الأول أساس الحفظ الثاني، وهذا هو المراد بيانه في هذا السياق.

1 أي الأحكام التي شرعت بالمدينة، فهي امتداد وتفصيل لما جاء بمكة. وينبغي النظر إليها وفهمها على هذا الأساس.

2 الموافقات: 3/ 46-47.

3 الأنعام: 151.

4 سورة التكوير: 8.

ص: 153

وحفظ النسل، أيضًا، جاء بمكة، بتحريم الزنى، والأمر بحفظ الفروج عن الحرام.

وكذلك حفظ المال، يحققه ما جاء في المكي من تحريم الظلم، وأكل مال اليتيم والإسراف، والبغي، ونقص المكيال والميزان، والفساد في الأرض.

ومن هذا الباب أيضًا: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما ضروريان لحفظ الأصول المتقدمة، قد جاء النص عليهما بمكة، كما في الآية:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1. وما الجهاد الذي شرع بالمدينة إلا فروع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر2.

وعندما انتقل إمامنا أبو إسحاق، إلى موضوع "النسخ"، استصحب معه مقاصده وكلياته: فأعاد التذكير -في المسألة الأولى من مسائل النسخ- بأن "القواعد الكلية هي الموضوعة أولا، والتي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة، كملت بها القواعد التي وضع أصلها بمكة3.

وليس هذا من الشاطبي مجرد تكرار لفكرته عن التشريع بين المكي والمدني، على أهميتها، وإنما أعاد الفكرة هنا، وفصل فيها أكثر، لما يريد أنه يبينه عليها في موضوع النسخ، وذلك قوله -في المسألة الثانية-: "لما تقرر أن المنزل بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية، والقواعد الأصولية في الدين، على غالب الأمر، اقتضى ذلك أن النسخ فيها قليل لا كثير4. لأن النسخ لا يكون في الكليات وقوعًا، وإن أمكن عقلًا.

ويدل على ذلك الاستقراء التام، وأن الشريعة مبينة على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء، بل إنما أتى بالمدينة ما

1 سورة لقمان: 17.

2 الموافقات: 3/ 102.

3 المرجع نفسه.

4 لا يعني أن النسخ في الكليات المكية قليل، بل سينفيه -في الأسطر التالية- نفيًا باتا ولكنه يعني أن في التشريع المكي بعض الأحكام الجزئية، وأن منها ما نسخ. ويمكن أن أمثل لذلك بالصلاة، التي كانت بمكة ركعتين ركعتين، ثم زيدت الزيادات المعروفة.

ص: 154

يقويها ويحكمها ويحصنها. وإذا كان كذلك. لم يثبت نسخ لكلي البتة. ومن استقرى كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى. فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها، والجزئيات المكية قليلة1.

وعند تطرقه إلى الحديث عن السنة -بعد الحديث عن القرآن- وقف وقفة أخرى، استخدم فيها النظرة "المقاصدية"2، في الربط بين أدلة الشريعة، قرآنا وسنة، وفي الربط بين مناحي البناء التشريعي بكلياته وجزئياته.

فكما أنه رحمه الله لاحظ أن القرآن المدني بتفصيلاته، قد بني على القرآن المكي وكلياته، لاحظ أيضًا -وبين- أن السنة قد بنيت -بشكل تام- على القرآن الكريم، لأن مدارهما واحد، هو مقاصد الشريعة في إقامة المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية.

ورغم أني أتحاشى النقول الطويلة، فإني الآن لا أجد بدا من نقل هذا النص الطويل الرابع المفصل، وهو تفصيل لا نجده حتى موضعه الطبيعي، وهو كتاب المقاصد.

ومنطلق النص: بيان أوجه الترابط والتكامل بين القرآن والسنة، وكيف أن القرآن هو أصل السنة، وأن السنة نابعة منه، ومنبنية عليه، ففي سياق تعداد هذه الأوجه وبيانها، قال:

"ومنها: النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة، وأنه موجود في السنة على الكمال، زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح، وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبًا لها، والتعريف بمفاسدهما دفعًا لها. وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام، وهي: الضروريات، ويلحق بها مكملاتها.

1 الموافقات: 3/ 104-105.

2 أضعها بين قوسين لما هو معروف عند أهل اللغة من عدم صحة النسبة إلى الجمع، ولكني مضطر إلى ذلك، مثلما اضطروا قديمًا إلى القول:"أصولي" نسبة إلى أصول و "أعرابي" نسبة إلى أعراب، وما أشبه ذلك.

ص: 155

والحاجيات، ويضاف إليها مكملاتها. والتحسينيات، ويليها مكملاتها. ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد.

وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور. فالكتاب أتى بها أصولًا يرجع إليها، والسنة أتت بها تفريعًا على الكتاب وبيانًا لما فيه منها. فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام.

فالضروريات الخمس كما تأصلت في القرآن تفصلت في السنة:

- فإن حفظ الدين: حاصلة في ثلاثة معان، وهي: الإسلام، الإيمان، والإحسان، فأصلها في الكتاب، وبيانها في السنة. ومكملة ثلاثة أشياء، وهي: الدعاء1 إليه بالترغيب والترهيب، وجهاد من عانده أو رام إفساده، وتلاقى النقصان الطارئ في أصله. وأصل هذه في الكتاب. وبيانها في السنة على الكمال.

- وحفظ النفس: حاصلة في ثلاثة معان، وهي: إقامة أصله بشعرية التناسل. وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود، من جهة المأكل والمشرب -"وذلك ما يحفظه من داخل"- والملبس والمسكن، "وذلك ما يحفظه من خارج"2. وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة. ومكمله ثلاثة أشياء: وذلك حفظه عن وضعه في حرام كالزنى، وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح، ويلحق به كل ما هو من متعلقاته كالطلاق والخلع واللعان وغيرهما، وحفظ ما يتغذى به أن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد، وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به، من الذبائح والصيد، وشرعية الحد والقصاص، ومرعاة العوارض اللاحقة، وأشباه ذلك.

- وقد دخل حفظ النسل في هذا القسم، وأصوله في القرآن، والسنة بينتها.

- وحفظ المال راجع إلى مراعاة دخوله في الأملاك وتنميته أن لا يفي.

1 أي الدعوة.

2 هل ذكرت المعاني الثلاثة التي فيها حفظ النفس، أم ذكر اثنين منها فقط؟ انظر تعليق الشيخ دراز: 4/ 27.

ص: 156

ومكمله: دفع العوارض، وتلافي الأصل بالزجر والحد والضمان، وهو في القرآن والسنة.

- وحفظ العقل يتناول ما لا يفسده، وهو في القرآن. ومكمله: شرعية الحد، أو الزجر، وليس في القرآن له أصل على الخصوص، فلم يكن له في السنة حكم على الخصوص أيضًا. فبقي الحكم فيه إلى اجتهاد الأمة.

- وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض، فله في الكتاب أصل، شرحته السنة في اللعان والقذف.

وإذا نظرت إلى الحاجيات: اطرد النظر أيضًا فيها على ذلك الترتيب أو نحوه. فإن الحاجيات دائرة على الضروريات.

وكذلك التحسينيات.

وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن وفي السنة، فلم يتخلف عنها شيء، والاستقرار يبين ذلك ويسهل على من هو عالم بالكتاب والسنة. ولما كان السلف الصالح كذلك قالوا به، ونصوا عليه حسبما تقدم عن بعضهم فيه.

ومن تشوف إلى مزيد، فإن دوران الحاجيات: على التوسعة والتيسير، ورفع الحرج، والرفق:

فبالنسبة إلى الدين: يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة: كالتيمم، ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها. وفي الصلاة بالقصر، ورفع القضاء في الإغماء، والجمع، والصلاة قاعدًا وعلى جنب. وفي الصوم بالفطر في السفر والمرض. وكذلك سائر العبادات. فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل كالتيمم والقصر والفطر، فذاك. وإلا، فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية ولمجتهد إجراء القاعدة، والترخص بحسبها. والسنة أول قائم بذلك.

وبالنسبة إلى النفس أيضًا، يظهر في مواضع منها مواضع الرخص: كالميتة للمضطر، وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها، وإباحة الصيد وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتي بالذكاة الأصلية.

ص: 157

وفي التناسل، من العقد على البضع من غير تسمية صداق، وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على تركه المشاحة كما في البيوع، وجعل الطلاق ثلاثًا دون ما هو أكثر، وإباحة الطلاق من أصله، والخلع، وأشباه ذلك.

وبالنسبة إلى المال أيضًا، في الترخيص في الغرر اليسير، والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب، ورخصة السلم والعرايا، والقرض، والشفعة، والقراض، والمساقاة ونحوها. ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك ما هو فوق الحاجة منها، والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد، من غير إسراف ولا إقتار.

وبالنسبة إلى العقل، في رفع الحرج عن المكره، وعن المضطر1 على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك.

وكل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج، لأن أكثره اجتهادي، وبينت السنة ما يحتذى حذوه، فرجع إلى تفسير ما أجمل من الكتاب. وما فسر من ذلك في الكتاب فالسنة لا تعدوه ولا تخرج عنه.

وقسم التحسينيات جار أيضًا كجريان الحاجيات.

فجميع هذا له أصل في القرآن، بينه الكتاب على إجمال، أو تفصيل، أو على الوجهين معًا. وجاءت السنة قاضية على ذلك بما هو أوضح في الفهم، وأشفى في الشرح.

وإنما المقصود هنا التنبيه، والعاقل يتهدى منه لما لم يذكر، مما أشير إليه. وبالله التوفيق2.

وعندما تناول مباحث الأمر والنهي، اعتمد كثيرًا، كعادته على المقاصد، ورجح بها آراءه الأصولية في الموضوع. من ذلك اعتماده على ما هو مسلم عند العلماء من تقسيم المصالح والأحكام الشرعية إلى: ضروريات، وحاجيات،

1 أي في تناول المسكرات.

2 الموافقات: 4/ 27-32.

ص: 158

وتحسينيات، للقول بأن الأوامر والنواهي الشرعية، ليست ذات درجة واحدة، وليست في الأهمية سواء: "فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأمور الحاجية، ولا التحسينية، ولا الأمور المكملة للضروريات كالضروريات أنفسها، بل بينهما تفاوت معلوم، بل الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزان واحد1 ومثل لهذا بما هو معلوم من تقديم الدين على النفس، وتقديم النفس على العقل.

ونتيجة هذا، أن على المكلف في نفسه، وعلى المجتهد في اجتهاده، أن يراعي هذا الترتيب، وهذا التفاوت، في فهم الأوامر والنواهي الشرعية، قصد إنزال كل شيء منزلته، وتقديم ما حقه التقديم وتأخير ما حقه التأخير، وإعطاء الأولوية لما يستحقها. وأما إذا أهملنا هذا النظر -وقد اعتبره الشارع- فإننا سنقع في أغلاط جسيمة وحرج كثير، فضلا عن مخالفة هدي الشارع بإهمال مفاضلته وترتيبه فليست الأوامر الشرعية بنفس الدرجة وتعطي نفس الحكم، وكذلك الشأن في النواهي. وحتى بالنسبة للأوامر التي تفيد الوجوب، والنواهي التي تفيد التحريم، ليست على درجة واحدة. فالواجبات الشرعية درجات، والمحرمات كذلك.

وقد استصحب الشاطبي هذه الفكرة وهو يعالج موضوع البدع في كتابه الاعتصام، حيث قال: "إن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر. ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات. فإذا كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر، وإن وقعت في التحسينيات فهي أدنى رتبة بلا إشكال. وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين.

ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمل، ولا يمكن في المكمل أن يكون في رتبة المكمل. فإن المكمل مع المكمل في نسبة الوسيلة مع القصد. ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد، فقد ظهر تفاوت رتب المعاصي والمخالفات.

1 الموافقات: 3/ 209، وانظر أيضًا في نفس المعنى ص153 و255.

ص: 159

وأيضًا، فإن الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه. فليست مرتبة كمرتبة الدين. أو ليس تستصغر حرمة النفس في جنب حرمة الدين، قبيح الكفر الدم؟ والمحافظة على الدين، مبيحة لتعريض النفس للقتل والإتلاف في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين.

ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس"1.

ثم ينتقل من هذا التمهيد "المقاصدي"، إلى موضوعه الأصلي -وهو البدع- ليطبق عليه ما تقرره مقاصد الشريعة فيقول:"وإذا كان كذلك، فالبدع من جملة المعاصي، وقد ثبت التفاوت في المعاصي، فكذلك يتصور مثله في البدع. فمنها ما يقع في الضروريات "أي أنه إخلال بها" ومنها ما يقع في رتبة الحاجيات، ومنها ما يقع في رتبة التحسينيات. وما يقع في رتبة الضروريات: منه ما يقع في الدين أو النفس أو النسل، أو العقل، أو المال"2.

وبناء على هذا التفاوت في المصالح والمفاسد، وفي الأوامر والنواهي الشرعية -تبعًا لذلك- يقرر أن: "الفعل يعتبر شرعًا بما يكون عنه3 من المصالح أو المفاسد. وقد بين الشرع ذلك، وميز بين ما يعظم من الأفعال مصلحته فجعله ركنا، أو مفسدته فجعله كبيرة. وبين ما ليس كذلك سماه في المصالح إحسانًا، وفي المفاسد صغيرة.

وبهذه الطريقة يتميز ما هو من أركان الدين وأصوله، وما هو من فروعه وفصوله، ويعرف ما هو من الذنوب كبائر، وما هو منها صغائر، فما عظمه الشرع في المأمورات فهو من أصول الدين، وما جعله دون ذلك، فمن فروعه وتكميلاته. وما عظم أمره في المنهيات، فهو من الكبائر، وما كان دون ذلك، فهو من الصغائر، وذلك على مقدار المصلحة أو المفسدة"4.

1 الاعتصام: 2/ 38.

2 الاعتصام: 2/ 39.

3 أي: يقيم الفعل بما يترتب عنه.

4 الموافقات: 1/ 213 وانظر أيضًا: 2/ 299، فقد حاول هناك إعطاء ضبط أكثر دقة للفرق بين الضروريات والحاجيات، من الأوامر والنواهي.

ص: 160