الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الشاطبي: "ومن هذا يعلم أنه ليس كل علم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علمًا بالأحكام. بل ذلك ينقسم: فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو يطلب نشره بالنسبة إلى حال وقت أو شخص1.
"وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها، وإن كانت صحيحة في نظر الفقه2 وذلك لما يترتب على ذكرها من مفسدة، بسبب سوء تصرف الناس فيها.
وقد وضع رحمه الله ضابطًا يميز به العالم ما يجب تعليمه ونشره وما لا يجب، أو يجب الإمساك عنه، فقال:
"وضابطه: أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم. وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية"3.
وهكذا نرى إلى أي حد يحتاج فهم النصوص فهما سليمًا، إلى العقل والتعقل. وإلى النظر المصلحي المتبصر.
1 الموافقات، 4/ 189.
2 الموافقات، 4/ 191.
3 الموافقات، 4/ 191.
2-
تقدير المصالح المتغيرة والمتعارضة:
وهذا المجال متصل بما انتهينا إليه في المجال السابق، أو هو امتداد له. وهو يشمل نقطتين هما:
أ- التقدير العقلي للمصالح والمفاسد المتغيرة.
ب- التقدير العقلي للمصالح والمفاسد المتعارضة.
أما النقطة الأولى، فالمقصود بها ما هو معلوم ومسلم من أن كثيرًا من المصالح تتغير بتغير الأزمان وتغير الأحوال. وهذا التغير من شأنه أن يؤثر تأثيرًا ما، على الأحكام الشرعية التي نيطت بتلك المصالح.
وههنا لا بد للمجتهد من اليقظة والبصيرة والنظر العميق، حتى يميز ما هي المصالح والمفاسد التي تغيرت أوضاعها، وآثارها تغيرًا حقيقيًا، وهل ذلك التغير يستدعي مراجعة أحكامها ويقتضي تعديلها، وإلى أي حد ينبغي أن يصل ذلك التعديل.
ولا شك أن هذا مرتقى صعب، ولكن لا مفر منه للعلماء. وإلا ضاعت مقاصد الشريعة، وربما حتى رسومها. وأحسب أن كلا قد وقع، والعرب بالباب!
والحقيقة أن التهرب من اقتحام هذه العقبة وصعود هذا المرتقى، ثم إغلاق هذا الباب من أبواب الاجتهاد، قد أربك الفقه الإسلامي، وأضر بمسيرته الطبيعية، وأعجزه -في كثير من الحالات- عن الهيمنة على المجتمعات الإسلامية واستيعاب قضاياها وتطوراتها، وحفظ حاجاتها ومصالحها. وتسبب -مع أسباب أخرى طبعًا- في انسلاخ كثير من مرافق الحياة العامة والخاصة، عن أحكام الشريعة.
وهذا هو الذي فتح الباب للطوفي قديمًا، ثم انفتح على مصراعيه حديثًا، للتوهم والزعم بأن النصوص قد تعارض المصلحة، وينبغي -في هذه الحالة- تقديم المصلحة على النصوص بدعوى أن حفظ المصلحة هو مقصود النصوص وغايتها.
ولقد بلغ بالطوفي حماسه للاعتداد بالمصلحة، إلى ما يشبه العمى حين زعم "أن النصوص مختلفة متعارضة، فهي سبب الخلاف في الأحكام، المذموم شرعًا، ورعاية المصلحة أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه. فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعًا. فكان اتباعه أولى"1.
1 انظر نص كلامه وتمامه في كتاب مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، للأستاذ عبد الوهاب خلاف، ص129 وما بعدها.
وقد يعذر الجاهل بالشريعة، أو السطحي المتعجل في التعرف على أحكامها، ومدى ما بينها من تكامل وانسجام، قد يعذر إذا بدت له النصوص مختلفة متعارضة، فذلك مبلغه من العلم والفهم. ويزيد في "عذره" أن النصوص كثيرة جدا، متنوعة جدا، تعالج قضايا وأحوالًا، وتنظم مجالات متعددة. وتحتاج كما رأينا إلى تدبر وتعقل، وإلى نظر مصلحي خبير. وإلا تعارضت على الناظر فيها، وتضاربت أحكامها ومقتضياتها.
لكن الذي لا يعذر فيه عاقل، هو الزعم بأن رعاية المصلحة أمر حقيقي في نفسه، لا يختلف فيه!!
ولست أدري إن كان قد مر على الطوفي يوم واحد لم تختلف فيه مصالحه مع مصالح غيره. بل مصالحه هو نفسه فيما بينها. ولست أدري هل بقيت مصالحه في آخر حياته، على ما كانت عليه في شبابه وأول حياته؟ أو على الأقل، هل بقيت نظرته إليها هي هي؟
فكيف بالأقطار المترامية، والأعصار المتتالية، والأحوال المتقلبة؟
ولست أنكر أن هناك مصالح حقيقية ثابتة، أو تتسم بقدر كبير من الثبات، هي حجر الأساس في الحياة البشرية، كتلك التي تمثلها أحكام العبادات، وأحكام الحدود والجنايات "الدماء"، وككثير من أحكام الأسرة، وغيرها.
ولكن أيضًا، لا يمكن إنكار أن هناك مصالح كثيرة -ومفاسد- تتأثر باختلاف الأحوال وتغير الظروف. فتتغير أوضاعها وسلم أولوياتها، ويتغير نفعها أو ضررها، مما يستدعي نظرًا جديدًا، وتقديرًا مناسبًا، ووسائل مناسبة. وكل هذا يؤثر على الأحكام تاثيرًا ما، ينبغي أن ينظر فيه ويقدر بقدره، بلا إفراط ولا تفريط. وبهذا يغلق الباب على توهم عجز النصوص أو اختلافها، أو معارضتها للمصالح.
ومن أبرز ما يحتاج إلى النظر والتقدير المتجدد، جانبان من جوانب الحياة: أحدهما في حفظ المصالح. وهو جانب المعاملات المنبنية على الأعراف. والثاني في درء المفاسد، وهو باب التعازير.
وعلى كل حال، فلست أريد الآن الخوض في موضوع تغير المصالح، وتغير الأحكام بتغير الأزمان والأحوال، وإنما أردت فقط أن أنبه على مجال واسع من المجالات التي تحتاج إلى نوع من تحسين العقل وتقبيحه، من خلال تقديره للمصالح والمفاسد المتغيرة والمتجددة، وما تتطلبه من أحكام مناسبة.
أما تفصيل البحث في المسألة، فأدعه اكتفاء بما كتبه فيه عدد من العلماء قديمًا وحديثًا. ويحضرني منهم:
1-
الإمام شهاب الدين القرافي، في كتابه "الإحكام في تمييز الفتاوي من الأحكام، وتصرفات القاضي والإمام".
2-
الإمام ابن قيم الجوزية، في عدد من كتبه، مثل:"أعلام الموقعين" و"الطرق الحكمية" و"إغاثة اللهفان".
3-
محمد أمين بن عابدين في كتابه "نشر العرف في أن بعض الأحكام مبناها على العرف".
كما أن كثيرًا من المؤلفات الحديثة قد تعرضت لهذا الموضوع وعالجت كثيرًا من جوانبه. وفي مقدمتها البحوث المتعلقة بالمصلحة، مثل "تعليل الأحكام" للدكتور محمد مصطفى شلبي "في الباب الثالث على الخصوص" و"المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي" للدكتور مصطفى زيد، و"ضوابط المصلحة" للدكتور البوطي، و"نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي" للدكتور حسين حامد حسان.
كما أن الدكتور يوسف القرضاوي قد تناول الموضوع في عدد من مؤلفاته ومقالاته. وفي مقدمتها: "شريعة الإسلام" و"الاجتهاد في الشريعة الإسلامية".
ويدخل في هذا الباب أيضًا، بحث الدكتور عمر الجيدي:"العرف والعمل في المذهب المالكي".
وأما النقطة الثانية، فالمقصود بها الترجيح بين المصالح والمفاسد عند تعارضها، أمام المكلف أو أمام المجتهد والمفتي، أو غيرهم.
وغير خاف على أحد ما بين المصالح والمفاسد من اختلاط وتشابط لا حد لهما، مما ينشأ عنه تزاحم وتعارض لا حد لهما أيضًا. فما من مصلحة أو مفسدة، إلا وتزاحمها وتتعارض معها مصالح ومفاسد كثيرة.
ولا شك أن كثيرًا من الحالات يكون الأمر فيها واضحًا، والترجيح فيها سهلًا، إما بمقتضى النصوص، وإما بمقتضى التقدير العقلي. ولكن هذا بالنسبة إلى ما ليس كذلك قليل. ويزيد من تعقيد الأمور، كون كثير من المصالح والمفاسد نسبية، أو إضافية، بتعبير الشاطبي حيث يقول:"المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية. ومعنى إضافية، أي أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، أو وقت دون وقت. فكثير من المنافع، تكون ضررًا على قوم لا منافع، أو تكون ضررًا في وقت أو حال، ولا تكون ضررًا في آخر"1.
وقد وضع العلماء عددًا من القواعد التي تساعد على الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة، مثل:
- درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
- تفوت أدنى المصلحتين لحفظ أعلاهما.
- المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة.
- الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
- الضرر لا يزال بمثله.
- يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
- الضرورات تبيح المحظورات.
- الضرورات تقدر بقدرها.
1 الموافقات، 2/ 39-40.