الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: المصالح والمفاسد
مفهوم المصلحة والمفسدة
…
الفصل الثاني: المصالح والمفاسد
إذا كان البحث في مسألة التعليل هو بحث في أساس مقاصد الشريعة، فإن البحث في المصالح والمفاسد، هو بحث في صميم المقاصد. فقد رأينا أن مقاصد الشريعة تلخص وتجمع في "جلب المصالح، ودرء المفاسد". ومن هنا يستمد البحث في المصالح والمفاسد أهميته وخطورته.
وسأعمل -فيما يلي- على إبراز وتوضيح أهم آراء الشاطبي في موضوع المصالح والمفاسد، مع ما تستدعيه من مقارنة، أو مناقشة، أو تتميم.
مفهوم المصلحة والمفسدة:
مما لا شك فيه ولا خلاف، شأن مسمى "المصلحة" و"المفسدة" -بهذا التعميم، وبهذا الإطلاق يدخل فيه -عند جميع العلماء المسلمين- مصالح الدنيا ومصالح الآخرة. وقد تقدم عن الشاطبي "أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا"1 وهذا من البداهة بمكان لا يحتاج إلى أي إثبات أو توضيح. كما أن من البداهة أن مصلحة الآخرة -أو مصالح الآخرة- هي كل ما يجلب رضوان الله ونعيمه أو يزيد في درجتهما، وأن مفاسد الآخرة هي كل ما يجلب سخط الله وعذابه أو يزيد في درجتهما. أو لنقل -على الأصح- مصلحة الآخرة
1 الموافقات، 2/ 6.
هي رضوان الله ونعيمه، ومفسدتها هي سخط الله وعذابه، وإنما اعتبر ما يجلبهما مصلحة ومفسدة من باب إعطاء الوسائل حكم المقاصد، وإعطاء الأسباب حكم مسبباتها.
فهذه البدهيات، ينبغي ألا تغيب عنا، ونحن ننظر في تعريفات الأصوليين للمصلحة والمفسدة، ونجد عندهم مثلًا، أن:"المصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة"1 وأن "المنفعة عبارة عن اللذة أو ما يكون طريقًا إليها، والمضرة عبارة عن الألم أو ما يكون طريقًا إليه"2. أو بعبارة أخرى: "المصلحة لا معنى لها إلا اللذة، أو ما يكون وسيلة إليها. والمفسدة لا معنى لها إلا الألم، أو ما يكون وسيلة إليه"3. وكذلك لا ينبغي أن يغيب عنا أن مثل هذه التعريفات شاملة لما هو حسي ولما هو معنوي، من اللذات والآلام ولهذا عمد ابن عبد السلام إلى مزيد من التوضيح في معنوي، من اللذات والآلام ولهذا عمد ابن عبد السلام إلى مزيد من التوضيح في تعريفه فقال: "المصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها. والمفاسد أربعة أنواع: الآلام وأسبابها، والغموم وأسبابها. وهي منقسمة إلى دنيوية وأخروية"4. فقد فرق - في المصالح- بين اللذات والأفراح. وفرق -في المفاسد- بين الآلام والغموم. وذلك للتنبيه على "المعنويات" من المصالح والمفاسد. هي لا شك داخلة ومقصودة في التعريفات السابقة.
وعلى الجانب المعنوي ينبه الشاطبي -أيضًا- في تعريفه للمصالح الدنيوية بقوله: "وأعني بالمصالح: ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان، وتمام عيشة، ونيله ما
1 التعريف لابن قدامة الحنبلي في روضة الناظر وجنة المناظر، 1/ 412، وسبق للغزالي أن أورده، لكنه تحفظ في الأخذ به. "المستصفى، 1/ 286"، والحقيقة أنه إذا استحضرنا اعتبار البعد الديني الأخروي لهذا التعريف، لم يبق داع للتحفظ عليه. وبهذا يكون التعريف الذي أخذ به الغزالي وهو أن المصلحة هي:"المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. ليس أكثر من توضيح وتفصيل للتعريف السابق. "المستصفى، 1/ 287".
2 الرازي، "المحصول، ج2، ق2/ 218"، والشوكاني "إرشاد الفحول، 215".
3 المحصول، ج2، ق3/ 240.
4 قواعد الأحكام، 1/ 11- 12.
تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق، حتى يكون منعمًا على الإطلاق"1.
وبناء على كل ما تقدم من تعريفات، فإن مفهوم المصلحة والمفسدة عند العلماء المسلمين يدخل فيه:
- المصالح الأخروية ووسائلها وأسبابها.
- والمفاسد الأخروية ووسائلها وأسبابها.
- والمصالح الدنيوية ووسائلها وأسبابها.
- والمفاسد الدنيوية ووسائلها وأسبابها.
- وحقيقة المصلحة: هي كل لذة ومتعة، جسمية كانت أو نفسية أو عقلية أو روحية.
- وحقيقة المفسدة هي كل ألم وعذاب، جسميا كان أو نفسيا أو عقليا أو روحيا.
فالتعبير عن المصلحة باللذة والمتعة، لا يعني -أبدًا- أن المصلحة منحصرة في تلبية الشهوات وإشباع الغرائز الجسمية، وإنما هي لذات ومتع ومنافع متعددة الوجوه والأبعاد. ومثل هذا يقال عن المفاسد.
ولتفادي أي تضييق أو التباس في مفهوم المصلحة، نص الشاطبي على أن المصالح الحقيقية، هي التي تؤدي إلى إقامة الحياة لا إلى هدمها، وإلى ربح الحياة الأخرى والفوز فيها، يقول: "المصالح المجتلبة والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى. لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية، فالشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين من أهوائهم حتى يكونوا عباد الله. وهذا المعنى إذا ثبت، لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة
1 الموافقات، 2/ 25.
كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 1 الآية.
فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس2.
ومن هنا جاء الشرع بوضع حدود وقيود على تحصيل مختلف المصالح والاستمتاع بها. لأن الإنسان باندفاعه وقصر نظره، قد يحرص على مصلحة وفيها مفاسد، أو فيها تفويت مصالح أهم منها. وقد يفر من مفسدة قريبة فيقع فيما هو شر منها. وقد يطلب الراحة العاجلة، فيجلب على نفسه -أو على غيره- عناء طويلًا، "ورب شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلا وعذابا وبيلًا3.
وهذا يجرنا إلى مسألة اختلاط المصالح بالمفاسد، بحيث يكون الفعل الواحد مصلحة من جهة ومفسدة من جهة أخرى، أو مصلحة في عاجل أمره ومفسدة في عاقبته ومآله، أو العكس. وقد يكون مصلحة لأحد، مفسدة على غيره. وقديمًا قالوا: مصائب قوم عند قوم فوائد.
ومعنى هذا أنه ليست هنالك مصالح خالصة ومفاسد خالصة "فإذا كان كذلك، فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا، إنما تفهم على مقتضى ما غلب، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفًا. وإذا غلبت الجهة الأخرى، فهي المفسدة المفهومة عرفًا4.
واختلاط المصالح بالمفاسد تكلم عنه غير واحد ممن سبقوا الشاطبي، فالقرافي يقول: "استقراء الشريعة يقتضي أن ما من مصلحة إلا وفيها مفسدة، ولو قلت على البعد، ولا مفسدة إلا وفيها مصلحة، وإن قلت على
1 سورة المؤمنون، 71.
2 من المسألة الثامنة من النوع الأول من المقاصد، "الموافقات، 2/ 37-39".
3 ابن عبد السلام، قواعد الأحكام، 1/ 8.
4 الموافقات، 2/ 26.
البعد، وقد قال الله تعالى في الخمر والميسر {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 1.
وقبل القرافي، نص شيخه ابن عبد السلام على "أن المصالح الخالصة عزيزة الوجود2.
إلا أن تناول الشاطبي للموضوع امتاز بتدقيق "مقاصدي" مهم، وهو أن الشارح حين يأمر بمصلحة وفيها قدر من المفسدة، فإنه لا يقصد ذلك القدر من المفسدة. وحين ينهي عن مفسدة وفيها نوع من المصلحة، فإنه لا يقصد بالنهي تلك المصلحة:
"فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعًا. ولتحصيلها وقع الطلب على العباد. فإن تبعها مفسدة أو مشقة، فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه.
وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد، فرفعها هو المقصود شرعيا. ولأجله وقع النهي. فإن تبعها مصلحة أو لذة، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل.
فالحاصل في ذلك: أن المصالح المعتبرة شرعًا، هي خالصة، غير مشوبة بشيء من المفاسد، لا قليلا ولا كثيرًا3.
ولما كانت المصالح والفاسد -في واقع الحياة- على هذا القدر الكثيف من التشابك والاختلاط والتعارض، كان لا بد من التشريع، وكان لا بد من أن يذعن الناس لهذا التشريع، ويدخلوا تحت سلطانه. وهذه هي أم المصالح، أو هي المصلحة "الكلية"، وعنها تصدر، وبها تضمن جميع المصالح. وهو ما يتمثل في
1 شرح تنقيح الفصول، 78.
2 قواعد الأحكام، 1/ 7.
3 الموافقات، 2/ 26-27.
الشريعة. ذلك "أن أحكام الشريعة تشتمل على مصلحة كلية في الجملة، وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على الخصوص.
أما الجزئية فما يعرب عنه كل دليل في خاصته.
وأما الكلية فهي أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته وأقواله واعتقاداته. فلا يكون كالبهيمة المسببة تعمل بهواها، حتى يرتاض بلجام الشرع"1.
ومن البدهيات أيضًا -في مفهوم المصلحة- أن الشريعة قد تضمنت حفظ المصالح من جميع الأنواع، وفي جميع المراتب. فقد تضمنت -كما تقدم غير ما مرة- حفظ المصالح الضرورية ومكملاتها، وحفظ المصالح الحاجية ومكملاتها، وحفظ المصالح التحسينية مهما صغر شأنها.
ومعنى هذا أن الشريعة لم تهمل من أمر المصالح والمفاسد شيئًا، قليلًا كان أو جليلًا. وما لا تشمله نصوصها الخاصة، فقد شملته نصوصها العامة.
وقد يشكل هذا مع ما هول معروف من تقسيم المصلحة -بالنظر إلى حكم الشرع فيها- إلى ثلاثة أنواع: مصلحة معتبرة، ومصلحة ملغاة، ومصلحة مرسلة.
فبناء على هذا التقسيم -وهو مسلم عند جميع الأصوليين- فإن الشريعة لم تتضمن إلا حفظ النوع الأول من المصالح. وسكتت عن النوع الأخير، بينما أهدرت النوع الثاني. ومعنى هذا أن الشريعة قد حفظت نوعًا واحدًا من المصالح وأهدرت وأهملت غيره!
والحقيقة أن ما أهدرته الشريعة من المصالح -وهي المصلحة الملغاة، حسب تقسيم الأصوليين- إنما هي المصالح المرجوحة، التي عارضتها مصالح أولى منها بالتقديم والاعتبار. فترجح حفظ الأهم على غيره. وذلك عندما تعذر الجميع بينهما. وليس في هذا أي إلغاء أو إهدار لحقيقته المصلحة. ولعل في آية الخمر والميسر
1 الموافقات، 2/ 386.
-المتقدمة- أوضح مثال على هذا. فقد صرحت الآية أن في الخمر والميسر مفاسد ومصالح. ولكن جانب المفسدة كثير، والمفسدة عامة. بينما منافع الخمر والميسر قليلة، وفردية. فرجع الشارع جانب المصلحة الكثيرة والعامة، بدفع مفاسد الخمر والميسر وتحريمهما. وأهمل جانب المنافع القليلة الخاصة. ولكن هذه المنافع الملغاة في هذه الحالة، وليست ملغاة مطلقًا. فإذا افترضنا أن منافع الخمر والميسر، هي: الربح المالي، وهي متعة الانتشاء بالسكر، أو بالفوز في القمار فإن هذه المنافع ليست ملغاة في الشرع. بل قد أباح منها وشرع لها ما لا يحصى من أوجه الحفظ والتحصيل، وهي الأوجه التي لا يكون فيها مفاسد مكافئة أو تزيد، ولا يكون فيها تفويت مصلحة أهم وأولى بالتقديم.
وإذًا، فإن "إلغاء" بعض المصالح، إنما هو عين الحفظ للمصلحة. وقل مثل هذا في سائر "المصالح الملغاة" أي أنها إنما ألغيت في حالات معينة. بينما هي معتبرة ومحفوظة في أضعاف أضعاف حالات المنع والإلغاء. ومعنى هذا أن حفظ المصلحة -أي مصلحة- هو الأصل، وأما الإلغاء حفظ جوانب أخرى من مصالحهم ومصالح غيرهم، مع أن ما فات من "المصلحة الملغاة" لم يفت مطلقًا، بل لتحصيله أبواب مشروعة واسعة كثيرة. ومن دقائق القاضي أبي بكر بن العربي قوله: "إن الباري سبحانه، ببديع حكمته، لما خلق لنا ما في الأرض جميعًا كما أخبرنا، قسم الحال فيه: فمنه ما أباحه على الإطلاق، ومنه ما أباحه في حال دون حال، ومنه ما أباحه على وجه دون وجه. فأما أن يكون في الأرض ممنوع لا تتطرق إليه إباحة في حال ولا على وجه، فلا أعلمه الآن1.
وأما فيما يخص "المصالح المرسلة" فهي أيضًا ليست مصالح مهملة مسكوتًا عنها، أي أنها ليست مرسلة مطلقًا، بل هي "مرسلة" -فقط- من حيث عدم التنصيص الجزئي الخاص بها. أما من حيث جنسها، ومن باب أولى، من حيث كونها مصلحة وخيرًا ونفعًا.
1 عارضة الأحوذي، 5/ 199.
أما بهذا الاعتبار، فليست هناك مصلحة مرسلة أبدًا.
فأي مصلحة تبقى مرسلة بعد قول الله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1 وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} 2 وبعد أن بين سبحانه أنه أرسل رسوله إلى الناس {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} 3 وبعد أن جعل شعار المؤمنين -بعد غمانهم- هو {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 4 وبعد أن أمر سبحانه بالتعاون على كل ذلك: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 5.
فالناس مأمورون -في هذه الآيات وغيرها- بفعل الخير، وبالعدل والإحسان وبفعل المعروف، وبفعل الصالحات، وبفعل البر، ومأمورون بالتعاون على ذلك كله. وعلى ذلك كله يتوقف فلاحهم {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، ولا فلاح لهم -لا في دنيا ولا في آخرة- إلا بهذا:{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .
ومما هو جدير بالتدبر في هذا المقام ما خرجه الإمام مسلم عن مجاشع بن مسعود السلمي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبايعه على الهجرة فقال: "إن الهجرة قد مضت لأهلها، ولكن على الإسلام والجهاد والخير".
والحق أن أي نص من هذه النصوص، كاف وحده للدلالة على أنه ليست هناك مصلحة أو منفعة، إلا وهي مطلوبة، ومشمولة بعناية الشريعة ورعايتها.
وأيضًا، فقد أجمع العلماء -على اختلاف تخصصاتهم، ومذاهبهم، وعصورهم- على كون الشريعة قد تضمنت حفظ الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، وأن أمهات المصالح المحفوظة -أو المطلوب حفظها- هي: الدين،
1 سورة الحج، 77.
2 سورة النحل، 90.
3 سورة الأعراف، 157.
4 يوجد منها في القرآن عشرات.
5 سورة المائدة، 2.