المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المقاصد وشروط المجتهد: - نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي

[أحمد الريسوني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد: في معنى المقاصد ونظرية المقاصد

- ‌الباب الأول: المقاصد قبل الشاطبي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: فكرة المقاصد عند الأصوليين

- ‌مدخل

- ‌حلقات سابقة:

- ‌ الحلقات الشهيرة:

- ‌الفصل الثاني: فكرة المقاصد في المذهب المالكي

- ‌مدخل

- ‌ماذا أعني بالمذهب المالكي:

- ‌أصول المذهب المالكي والمقاصد

- ‌المصلحة المرسلة

- ‌ سد الذرائع:

- ‌ مراعاة مقاصد المكلفين:

- ‌الباب الثاني: الشاطبي ونظريته

- ‌الفصل الأول: تعريف بالشاطبي

- ‌مدخل

- ‌ خلاصة ترجمة الشاطبي:

- ‌ الشاطبي يتحدث عن نفسه:

- ‌ مراسلات الشاطبي:

- ‌الفصل الثاني: عرض النظرية

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول: مقاصد الشارع

- ‌النوع الأول: قصد الشارع في وضع الشريعة

- ‌النوع الثاني: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام

- ‌النوع الثالث: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها

- ‌النوع الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة

- ‌القسم الثاني: مقاصد المكلف في التكليف

- ‌خاتمة الكتاب: بماذا يعرف مقصود الشارع

- ‌الفصل الثالث: أبعاد النظرية

- ‌مدخل

- ‌ الضروريات الخمس:

- ‌ مسائل المباح:

- ‌ الأسباب والمسببات:

- ‌الباب الثالث: القضايا الأساسية لنظرية الشاطبي عرض ومناقشة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مسألة التعليل

- ‌أحكام الشريعة بين التعليل والتعبد

- ‌الرافضون للتعليل:

- ‌موقف الرازي من التعليل:

- ‌ابن حزم والتعليل:

- ‌الفصل الثاني: المصالح والمفاسد

- ‌مفهوم المصلحة والمفسدة

- ‌إدراك المصالح بالعقل:

- ‌مجالات العقل في تقدير المصالح

- ‌التفسير المصلحي للنصوص

- ‌ تقدير المصالح المتغيرة والمتعارضة:

- ‌ تقدير المصالح المرسلة:

- ‌الفصل الثالث: بماذا تعرف مقاصد الشارع

- ‌فهم المقاصد وفق مقتضيات اللسان العربي

- ‌ الأوامر والنواهي الشرعية بين التعليل والظاهرية:

- ‌ المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية:

- ‌ سكوت الشارع:

- ‌ الاستقراء:

- ‌الباب الرابع: تقييم عام لنظرية الشاطبي

- ‌الفصل الأول: نظرية الشاطبي بين التقليد والتجديد

- ‌جوانب التقليد

- ‌مدخل

- ‌استفادته من الأصوليين:

- ‌استفادته من المذهب المالكي:

- ‌جوانب التجديد

- ‌مدخل

- ‌ التوسع الكبير:

- ‌ مقاصد المكلف:

- ‌ بماذا تعرف مقاصد الشارع

- ‌ تقديم ثروة من القواعد:

- ‌قواعد المقاصد:

- ‌الفصل الثاني: المقاصد والاجتهاد

- ‌مدخل

- ‌المقاصد وشروط المجتهد:

- ‌مسالك الاجتهاد المقاصدي

- ‌النصوص والأحكام بمقاصدها

- ‌ الجمع بين الكليات العامة والأدلة الخاصة:

- ‌ جلب المصالح ودرء المفاسد مطلقًا:

- ‌ اعتبار المآلات:

- ‌خاتمة: آفاق البحث في المقاصد

- ‌الفهارس:

- ‌فهرس الأعلام:

- ‌المصادر والمراجع: مرتبة ترتيبًا ألفبائيا على الأسماء المشهورة لمؤلفيها:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌المقاصد وشروط المجتهد:

والشاطبي لم يكتف بالتوسع والتعمق في مقاصد الشريعة، وبناء نظرية متكاملة في ذلك، وشق مسالك البحث والكشف عن المقاصد، لم يكتف بهذا ليترك أمر الاستفادة من ذلك لفهم الفاهمين ومبادرة المتفقهين، بل حرص بنفسه على أن يوصل الأمر إلى غايته، وينتهي به إلى ثمرته. فلم يبرح حتى أدخل المقاصد في عالم الاجتهاد، وأدخل الاجتهاد في عالم المقاصد، فأحيا صلة الرحم ووثقها بينهما.

ص: 326

‌المقاصد وشروط المجتهد:

فلأول مرة -في حدود ما يعلم- نجد أن أول شرط لبلوغ درجة الاجتهاد هو "فهم مقاصد الشريعة على كمالها1 ونجد أن الشرط الثاني -والأخير- لا يخرج أيضًا عن المقاصد، وهو: "التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها"2. أي في المقاصد.

ولقد ظل الأصوليون -لعدة قرون- يسطرون لائحة طويلة بشروط المجتهد وما ينبغي أن يحصله من الدرجات العلمية، وبعضهم يزيد فيها، وبعضهم ينقص منها3.

ثم جاء الشاطبي، فأعرض عن تلك اللوائح، طويلها وقصيرها، وحصر درجة الاجتهاد في أمر جامع: هو فهم مقاصد الشريعة على كمالها، وإلى حد التمكن من الاستنباط في ضوئها.

ولست أعني -أبدًا- أن السابقين، من فقهاء وأصوليين، لم يكونوا على بال من أمر المقاصد وضرورتها للمجتهد، وإنما أعني -فقط- أن بين الشاطبي وسابقيه

1 الموافقات، 4/ 105-106.

2 الموافقات، 4/ 105-106.

3 من غريب ما وقفت عليه أن الإمام ابن عرفة -هو معاصر للشاطبي، كما مر -يشنع على بعض الفقهاء إقدامهم على الفتوى، وهم لا يحسنون إعراب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ! "المعيار، 6/ 382". ولست أدري هل كان أبو حنيفة ومالك يعرفان هذا "الإعراب"؟ ولا أسأل عمن قبلهما من المفتين والمجتهدين!

ص: 326

ممن تكلموا في الاجتهاد وشروطه، فروقًا كبيرة، ستزداد وضوحًا خلال الصفات الآتية.

كما أني لا أقول بما ذهب إليه الشيخ عبد الله دراز -تعليقًا على اشتراط الشاطبي فهم المقاصد لبلوغ درجة الاجتهاد- حيث قال: "لم نر من الأصوليين من ذكر هذا الشرط الذي جعله الأول، بل جعله السبب. أما التمكن من الاستنباط، فهو الذي اقتصرت عليه كتب الأصول المشتهرة، وجعلوه يتحقق بمعرفة الكتاب والسنة، أي ما يتعلق منهما بالأحكام، ثم بمعرفة مواقع الإجماع وشرائط القياس، وكيفية النظر وعلم العربية، والناسخ والمنسوخ، وحال الرواة، ثم رأيت في إرشاد الفحول للشوكاني: نقل الغزالي عن الشافعي، ويلاحظ القواعد الكلية أولًا، ويقدمها على الجزئيات"1.

والحق أن الشاطبي مسبوق باشتراط العلم بمقاصد الشرعية، بكيفية صريحة أحيانًا، وبشكل ضمني أحيانًا أخرى.

وقد ورد التصريح بهذا الشرط في بضع "كتب الأصول المشتهرة". ولا أحسب كتاب "جمع الجوامع" إلا أشهرها إلى أيام الشيخ دراز، ولعله قد حفظه في شبابه، ثم لعله قد نسيه بعد قراءته الموافقات!

فقد تحدث ابن السبكي عن العلوم التي تلزم المجتهد، ثم نقل عن والده في تعريف المجتهد:"وقال الشيخ الإمام: هو من هذه العلوم ملكة له. وأحاط بمعظم قواعد الشرع، ومارسها بحيث اكتسب قوة يفهم بها مقصود الشارع"2.

وفي شرحه للمنهاج، صرح أن العالم إذا تحققت له رتبة الاجتهاد، ومنها "الاطلاع على مقاصد الشريعة والخوض في بحارها"3 جاز تقليده كما قلد الشافعي وغيره من الأئمة.

1 الموافقات، 4/ 105-106.

2 جمع الجوامع، 2/ 383.

3 الأبهاج بشرح المنهاج، 3/ 206.

ص: 327

وواضح أن عبد الوهاب السبكي -كما صرح بنفسه- تابع في اشتراط العلم بالمقاصد، لأبيه "علي بن عبد الكافي: ت 756"، وقد صرح الأب في مقدمة شرح المنهاج بأن كمال رتبة الاجتهاد يتوقف على ثلاثة أشياء، وجعل ثالثها: "أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها موارد الشرع من ذلك، وما يناسب أن يكون حكمًا لها في ذلك المحل، وإن لم يصرح به"1.

وأما ما قرأه الشيخ دراز عند الشوكاني، نقلًا عن الغزالي، من كون الإمام الشافعي كان يلاحظ القواعد الكلية ويقدمها على الجزئيات، فقد أورده الغزالي في "المنخول، ص: 366-367". ومعلوم أن المنخول مأخوذ كله عن إمام الحرمين. وفعلا فقد أورد الجويني هذه المسألة في البرهان، حيث ذكر مصادر الاجتهاد عند الشافعي، وأنه يعتمد على الكتاب، ثم الأخبار المتواترة، ثم الآحاد، ثم ظواهر الكتاب إلا أن تكون مخصصة، ثم ظواهر الأخبار، المتواترة فالآحاد، ثم قال:

"فإن عدم المطلوب في هذه الدرجات، لم يخض في القياس بعد، ولكنه ينظر في كليات الشرع ومصالحها العامة. وعد الشافعي من هذا الفن: القصاص في المثقل، فإن نفيه2 يخرم قاعدة الزجر. ثم إذا لم يجد في الواقعة مصلحة عامة، التفت إلى مواضع الإجماع. فإن عدم ذلك خاض في القياس"3.

ولا يهمني الآن هذا الترتيب للأدلة، وتقديم بعضها على بعض، وما إن كان هذا الترتيب يمثل حقيقة الأمر في اجتهاد الإمام الشافعي، أم أنه -فقط- استنتاج لإمام الحرمين، وإنما الذي يهمني في هذا النص، هو أن الإمام الشافعي كان -في اجتهاده "ينظر في كليات الشرع ومصالحها العامة" أي أنه -بعبارة أخرى- ينظر

1 المرجع السابق، 1/ 8. ومعلوم أن هذا الشرح بدأه الأب وأتمه الابن.

2 يشير إلى مذهب أبي حنيفة القائل بأن القتل بالمثقل "كالحجر، والعصا، والتغريق" لا قصاص فيه، وفيه التعزير. وأن القصاص إنما هو في القتل بالمحدد "السكين والسيف وغيرهما من الأدوات الحادة".

3 البرهان، 2/ 1338.

ص: 328

في المقاصد العامة للشريعة، ويبني عليها اجتهاده. هذا مع العلم أن الإمام الشافعي هو أقل الأئمة الأربعة اعتمادًا على المصالح والمقاصد.

وتنصيص الأصوليين الشافعية على هذا المسلك الاجتهادي عند الإمام الشافعي، هو اشتراط ضمني لمعرفة مقاصد الشريعة وضرورة مراعاتها والبناء عليها.

ومما ينسجم مع هذا المسلك، ما ذهب إليه إمام الحرمين من أن المصالح الضرورية إذا جاء القياس بخلافها، ترك وقدمت عليه القواعد العامة التي تقتضي حفظ الضروريات. قال:"ومن خصائص هذا الضرب أن القياس الجزئي فيه -وإن كان جليا- إذا صادم القاعدة الكلية، ترك القياس الجلي للقاعدة الكلية"1.

وقد مثل هذا بقتل الجماعة بالواحد، فإنه خلاف القياس الذي يقتضي المماثلة "النفس بالنفس"، ولكن حفظ الأنفس، الذي هو من أبرز مقاصد الشارع، اقتضى قتل الجماعة إذا اشتركوا في قتل واحد. لأنه لو لم يقتلوا، لكان ذلك مغريًا باللجوء إلى القتل المشترك، تهربًا من القصاص. وهذا اعتماد واضح على المقاصد الضرورية وتقديم لها على القياس الجزئي، ولو كان جليا.

وقال الإمام الغزالي: "ونحن نجعل المصلحة تارة علمًا للحكم، ونجعل الحكم أخرى علمًا لها"2.

وقد رأينا أن الغزالي لا يعتد بالمصلحة، إلا إذا ظهر أنها مقصودة للشارع فمعنى نصه هذا: أن مقاصد الشارع تتخذ دليلًا على الحكم، مثلما يتخذ الحكم دليلًا على مقصود الشارع. وهذا يستلزم معرفة المجتهد لمقاصد الشريعة.

ورأينا أيضًا أن الأصوليين، أدخلو المقاصد في باب التراجيح، ونصوا على ترجيح المقاصد الضرورية على الحاجية، والحاجية على التحسينية، كما

1 البرهان، 2/ 927.

2 المنخول، 355.

ص: 329

تعرضوا لترجيح الضروريات فيما بينها، وهذا اشتراط ضمني للعلم بالمقاصد في حق كل من يجتهد ويرجح بين العلل والمقاصد. فلا يمكن أن يرجح بين المقاصد إلا عالم بها.

ولقد كان الإمام القرافي صريحًا في اشتراط معرفة المقاصد، ليس في المجتهد فحسب، بل حتى في حق الفقيه المقلد، وإن كان لكل منهما مرتبته. قال:"ولكنه "أي الفقيه المقلد" إذا وقعت له واقعة ليست في حفظه، لا يخرجها على محفوظاته، ولا يقول: هذه تشبه المسألة الفلانية، لأن ذلك إنما يصح ممن أحاط بمدارك إمامه وأدلته وأقيسته وعلله التي اعتمد عليها مفصلة، ومعرفة رتب تلك العلل ونسبتها إلى المصالح الشرعية، وهل هي من باب المصالح الضرورية، أو الحاجية، أو التتمية، وسبب ذلك أن الناظر في مذهبه والمخرج على أصول إمامه: نسبته إلى مذهبه وإمامه كنسبة إمامه إلى صاحب الشرع في اتباع نصوصه والتخريج على مقاصده"1.

وإذًا، فالمقاصد يجب أن يعرفها المجتهد ليتأتى له التخريج عليها، ويجب أن يعرفها الفقيه المقلد، لأن فقه إمامه قد بني عليها، فلا يستطيع هو أن يفتي بذلك الفقه ويخرج عليه حتى يعرف المقاصد التي بني عليها، والمصالح التي راعاها.

وأعود إلى شيخ المقاصد.

فقد تقدم أنه جعل الشرط الأول والأعظم لبلوغ مرتبة الاجتهاد هو معرفة المقاصد على كمالها، قال:"فإذا بلغ الإنسان مبلغًا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزيله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله"2.

1 الفروق، الفرق 78.

2 الموافقات، 4/ 106-107.

ص: 330

فالصفة الحقيقية التي تؤهل صاحبها لأن ينوب عن غيره، ويتكلم باسمه، هي أن يكون عارفًا خبيرًا بمقاصده على الجملة وعلى التفصيل. وأما ما عدا ذلك فأمور مساعدة. فالمجتهد، الذي يحكم ويفتي باسم الشارع، لا بد وأن يكون -أول ما يكون- عالمًا تمام العلم بمقاصده العامة، وأن يكون عالمًا بمقصده -أو مقاصده- في المسألة التي يجتهد فيها ويحكم عليها.

وهكذا ارتفع أبو إسحاق بمنزلة المقاصد في الاجتهاد، إلى أعلى المنازل. فلم تبق عبارة عن كلمات عابرة غامضة، تقال -أو لا تقال- في أواخر لائحة طويلة من الشروط المطلوبة في المجتهد، لا يكاد يلتفت إليها الدارس، فضلًا عن القاري العابر، حتى رأينا الشيخ دراز -وهو الأصولي المتمرس- قد غفل عنها ونفاها.

وقد عمل الشاطبي على تأكيد وترسيخ أهمية المقاصد وضرورتها للمجتهد في مناسبات عدة، وبأساليب شتى. حتى إنه نبه على أن العالم المجتهد، وإن كان عالمًا بالمقاصد، فإنه إذا غفل عنها زل في اجتهاده. قال:"فزلة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشرع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه"1.

وإذا كان هذا شأن المجتهد الخبير بمقاصد الشرع، فما بالك بمن قصروا عن هذه المرتبة! ولهذا تجده كلما حمل على المنحرفين في فهم الدين وشريعته، وضع إصبعه على الجهل، بمقاصد الشريعة، أو نص على أنه السبب، أو أحد الأسباب على الأقل.

فمن هؤلاء ناس يرون أنفسهم أهلًا للاجتهاد في الدين، فيتجرءون على أحكامه وشريعته، حتى لتجد أحدهم "آخذًا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها. حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه، من غير إحاطة بمعانيها ولا راجع رجوع الافتقار إليها، ويعين على هذا: الجهل بمقاصد الشريعة، وتوهم بلوغ مرتبة الاجتهاد"2.

1 الموافقات، 4/ 170.

2 الموافقات، 4/ 174-175.

ص: 331

ومن هؤلاء أيضًا: بعض أهل البدع والأهواء1، فإنهم وقفوا عند "اتباع ظواهر القرآن، على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده"2.

ومن هؤلاء أيضًا: أتْباع المتشابهات، الذين يعمدون إلى بعض النصوص، فيعزلونها عن أصول الدين وكلياته، ثم يضربون بها محكماته ومسلماته. قال الشاطبي:"ومدار الغلط في هذا الفصل، إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض. فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها، وجزئياتها المرتبة عليها" إلى أن قال:

"فشأن الراسخين: تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضًا، كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة.

وشأن متبعي المتشابهات: أخذ دليل ما -أي دليل كان- عفوًا وأخذا أوليا، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي، فكان العضو الواحد لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكمًا حقيقيا"3.

فالنظرة الشمولية المنسجمة للشريعة وأحكامها، لا تتأتى إلا لمن خبروا المقاصد وأحكموا الكليات، ثم نظروا في الأحكام من خلال ذلك. ومن فاته هذا المستوى، وأهمل هذا النوع من النظر، وقع في التخبط والاضطراب، وأتى بالأقوال الشاذة المجافية لمقاصد الشارع، أو انتهى إلى العجز والانكماش، تاركًا ما ليس لقيصر، لقيصر.

فالمقاصد ليست -فحسب- أداة لإنضاج الاجتهاد وتقويمه، ولكنها -أيضًا- أداة لتوسيعه وتمكينه من استيعاب الحياة بكل تقلباتها وتشعباتها

، وفي هذا

1 وهو يشير إلى الخوارج خاصة.

2 الموافقات، 4/ 179.

3 الاعتصام، 1/ 244-245.

ص: 332

يقول الشاطبي "فالمجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إليها ولولا ذلك لم يستقم له إجراء الأحكام على وفق المصالح إلا بنص أو إجماع"1، فالنصوص إذا أخذت بظاهرها وحرفيتها فقط. ضاق نطاقها وقل عطاؤها وإذا أخذت بعللها ومقاصدها، كانت معينًا لا ينضب، فينفتح باب القياس، وينفسح باب الاستصلاح، وتجري الأحكام مجراها الطبيعي في تحقيق مقاصد الشارع، بجلب المصالح ودرء المفاسد.

وبعد أن أعطى الشاطبي للمقاصد هذه المرتبة العليا، وهذا الوزن الثقيل في ممارسة الاجتهاد، أخذ العلماء -اليوم- يسلكون مسلكه في إبراز ضرورة المقاصد للمجتهدين في أحكام الشرع، وفي بيان أهميتها وفائدتها في أي اجتهاد فقهي أو فكري.

فقد أكد الأستاذ علال الفاسي: "أن مقاصد الشريعة هي المرجع الأبدي لاستقاء ما يتوقف عليه التشريع والقضاء في الفقه الإسلامي، وأنها ليست مصدرًا خارجيا عن الشرع الإسلامي، ولكنها من صميمه. وليست غامضة غموض القانون الطبيعي الذي لا يعرف له حد ولا مورد. وأن المقاصد تؤثر حتى على ما هو منصوص عليه عند الاقتضاء"2.

وقد مثل لهذا، بتوقيف عمر حد السرقة عام المجاعة، لأنه رضي الله عنه كان يعلم أن مقصود الشارع بهذا الحد هو عقوبة المعتدين وزجرهم عن الاعتداء. والسارق المضطر ليس معتديًا، بل المعتدي من كان غنيا والناس من حوله جياع إلى حد الضرورة. وقد أعذر الله المضطرين، فكيف يقام عليهم الحد؟

وقد انتقد الأستاذ علال الفاسي "ص41" الدكتور صبحي محمصاني، لكونه اعتبر مقاصد الشريعة، من المصادر الخارجية للتشريع الإسلامي3.

1 الموافقات، 1/ 200.

2 مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 51-52.

3 انظر ذلك في الباب الرابع من كتابه: فلسفة التشريع الإسلامي.

ص: 333

وأما العلامة ابن عاشور، فقد تعرض مرارًا لبيان أهمية المقاصد في الاجتهاد الفقهي. فقد كتب فصلا سماه:"احتياج الفقيه إلى إلى معرفة مقاصد الشريعة"، بين فيه أن الاجتهاد في الشريعة يكون على خمسة أوجه هي:

1-

فهم أقوالها ونصوصها بمقتضى اللغة والاصطلاح الشرعي.

2-

النظر يما يعارض النص من نسخ، أو تقييد، أو تخصيص، أو نص راجح.

3-

تعرف علل الأحكام ثم القياس عليها.

4-

الحكم فيما لا يشمله نص خاص ولا قياس.

5-

تقرير الأحكام التعبدية على ما هي عليه. فهذه خمسة مجالات لاجتهاد الفقهاء.

ثم قال: "فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلها"1.

ثم وضح ذلك، مما يطول نقله، غير أني أنقل شيئًا من بيانه لأهمية المقاصد للنوع الرابع من أنواع الاجتهاد، وهو الاجتهاد فيما لا يدخل تحت نص خاص ولا قياس. قال:"أما في النحو الرابع: فاحتياجه فيه ظاهر، وهو الكفيل بدوام أحكام الشريعة الإسلامية للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الشارع، والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا. وفي هذا النحو أثبت مالك رحمه الله حجية المصالح المرسلة، وفيه أيضا قال الأئمة بمراعاة الكليات الشرعية الضرورية، وألحقوا بها الحاجية والتحسينية"2.

وكتب فصلًا آخر بعنوان "أدلة الشريعة اللفظة لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية" أكد فيه ضرورة أخذ النصوص بمقاصدها، التي تدل عليها القرائن والأمارات الخارجة عن النص، ونعى فيه على من يتعاملون مع النصوص

1 مقاصد الشريعة الإسلامية، ص15-16.

2 مقاصد الشريعة الإسلامية، ص15-16.

ص: 334