الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد يقال -بعد كل هذا- إذا كان تحسين العقل وتقبيحه على ما رأينا من قصور، وكان تحسين الشرع وتقبيحه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فما حاجاتنا إلى التحسين والتقبيح العقليين؟ وما حاجاتنا إلى هذا الدفاع الطويل عنهما؟
ولأجل الجواب على هذا التساؤل، أضع الفقرة التالية:
مجالات العقل في تقدير المصالح
التفسير المصلحي للنصوص
…
مجالات العقل في تقدير المصالح
وقبل ذكر هذه المجالات، يجدر التنبيه على أن المقصود عندي بالفعل هو مجموع الطاقات الإدراكية لدى الإنسان، مما قد يسمى فطرة، أو خبرة، أو فكرًا مع ما توفره هذه الطاقات من حصيلة معرفية، في أي مجال وفي أي تخصص.
وفيما يلي أبرز مجالات العقل في إدراك وتقدير المصالح والمفاسد:
1-
التفسير المصلحي للنصوص:
وقد ينفر بعض الناس من هذه العبارة، وقد يتوجسون منها خيفة. ولهذا أبادر فأقول: إنني لا أفعل أكثر من تقرير أمر واقع مستقر في عمل الفقهاء جميعًا، باستثناء الظاهرية، وأعني بذلك أن تفسير الفقهاء للنصوص، واستنباطهم منها، تستحضر فيه وتستصحب المعاني والحكم والمصالح التي يعمل الشرع على تحقيقها ورعايتها. وهو ما يكون له أثره في فهم النص وتوجيهه والاستنباط منه، فقد يصرف النص عن ظاهره، وقد يقيد أو يخصص، وقد يعمم وظاهره الخصوصية.
ودور العقل هنا يتمثل في تقدير المصلحة التي يستهدف النص تحقيقها، إذا لم يكن مصرحًا بها طبعًا، ثم تفسير النص بما يحققها، مع عدم الغفلة عن مختلف المصالح والمفاسد التي لها صلة بموضوع ذلك النص. ومعلوم أن أحد مسالك
التعليل هو مسلك المناسبة. وهو مسلك عقلي إلى حد كبير. ولعل أكثر التعليلات الدائرة في الفقه تقوم على هذا المسلك. بحيث تنبني عليه اجتهادات وقياسات واستنباطات لا تحصى، وكلها عبارة عن تفسير مصلحي للنصوص. وفي هذا يقول الدكتور حسين حامد حسان، وهو يشير إلى آفاق "نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي":"وقد ينص الشارع على حكم واقعة، دون أن يدل النص على المصلحة التي قصد بالنص تحقيقها. ويجد الفقيه أن فهم النص. وتحديد مضمونه، ونطاق تطبيقه، يتوقف على معرفة هذه المصلحة فعند ذلك يجتهد الفقيه في التعرف على هذه المصلحة، أو الحكمة أو العلة، أو الوصف المناسب، مسترشدًا بما عرف من عادة الشرع وتصرفه في الأحكام، مستعينًا بروح الشريعة وعللها المنصوصة، وقواعدها أو مصالحها المستنبطة. فإذا ما توصل إلى هذه الحكمة، وتعرف على تلك المصلحة، فسر النص في ضوئها، وحدد نطاق تطبيقه على أساسها"1.
وهذا المسلك يستمد شرعيته مما تقرر -إجماعًا- من كون الشريعة وضعت لمصالح العباد، وأن الأصل في أحكامها هو التعليل المصلحي، كما تقدم.
والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصى. فحيثما تنقلنا في كتب الفقه، سنجد التفسير المصلحي، والتوجيه المصلحي لنصوص القرآن والسنة.
من ذلك حديث التسعير، الذي رواه أنس رضي الله عنه، قال:"غلا السعر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله: "سعر لنا، فقال:"إن الله هو القابض الرازق الباسط المسعر. وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطالبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال"2.
فمقتضى الحديث أن التسعير ظلم، وأنه ليس للحاكم أن يسعر على الناس، وأن الأمر بيد الله، ليس لأحد أن يتدخل فيه. وليس فيه تفريق بين تسعير
1 نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، صفحة م.
2 رواه أبو داود والترمذي وصححه.
وآخر. ومع هذا رأي عدد من الفقهاء -وخاصة من المالكية والحنابلة- أن هناك حالات يجوز فيها التسعير أو يجب! وليس هذا إلا تفسيرًا مصلحيا للحديث، عن طريق النظر العقلي. فقد رأوا أن الحديث يعتبر التسعير ظلمًا ثم وجدوا حالات يكون عدم التسعير فيها هو الظلم، ويكون التسعير فيها عدلًا ومصلحة عامة. ففسروا الحديث على أساس أنه إنما قيل في شأن حالات معينة من التسعير. وأن الحالات التي يناسبها التسعير، ليست بداخلة في مقتضى الحديث. بل هي داخلة في مقتضى أدلة أخرى تمنع الظلم والتعسف في استعمال الحق، وتأمر بإقامة القسط والتوازن بين المصالح.
قال الإمام أبو بكر بن العربي: "والحق التسعير وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد. وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وما فعله حكم، ولكن على قوم صح ثباتهم، واستسلموا إلى ربهم. وأما قوم قصدوا أكل الناس والتضييق عليهم، فباب الله أوسع وحكمه أمضى"1.
وقال ابن القيم: "وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز. فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم، فهو حرام وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعارضة بثمن المثل ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب. مثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها -مع ضرورة الناس إليها- إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، والتسعير ههنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به"2.
ومن هذا القبيل أيضًا ما صح في عدة أحاديث من النهي عن بيوع الغرر. من ذلك: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وعن بيع الحصاة3.
1 عارضة الأحوذي، 6/ 54.
2 الطريقة الحكمية في السياسة الشرعية، 240.
3 أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن "دراز"، وبيع الحصاة هو بيع واحد من عدة أشياء تقع عليه الحصاة التي يرمي بها.
قال الشاطبي: "وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر وذكر منه أشياء كبيع الثمرة قبل أن تزهي، وبيع حبل الحبلة، والحصاة، وغيرها. وإذا أخذنا بمقتضى مجرد الصيغة، امتنع علينا بيع كثير مما هو جائز بيعه وشراؤه، كبيع الجوز، واللوز والقسطل، في قشرها، وبيع الخشبة والمغيبات في الأرض، والمقاثي كلها1 ومثل هذا لا يصح فيه القول بالمنع أصلًا، لأن الغرر المنهي عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غررا مترددًا بين السلامة والعطب. فهو مما خص بالمعنى المصلحي، ولا يتبع فيه اللفظ بمجرده"2.
ومن أكثر النصوص حاجة إلى النظر المصلحي والتفسير المصلحي:
النصوص العامة والمطلقة كالأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والنهي عن الإضرار والبغي. فرغم أن هناك نصوصًا تفصيلية لها، إلا أن ما يدخل تحتها لا يمكن أن يأتي عليه حصر، ولا أن تستغرقه الحالات المنصوصة. فيبقى للنظر والاجتهاد مجال واسع للعمل بمقتضى هذه النصوص العامة. وفي هذا يقول الشاطبي:"كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقًا غير مقيد، ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص، فهو راجع إلى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف. وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى: كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر -في المأمورات- والظلم والفحشاء والمنكر والبغي ونقض العهد، في المنهيات"3.
ففي تطبيق مثل هذه النصوص، وتعيين ما يدخل فيها وما لا يدخل والمقادير المطلوبة في المأمورات، وكيفياتها. مجال متسع للاعتماد على العقل ومراعاة المصلحة.
وفي نص آخر، يوضح الشاطبي جانبًا من هذه النقطة فيقول: "فالأوامر والنواهي من جهة اللفظ، على تساو في دلالة الاقتضاء. والتفرقة بين ما هو منها
1 هي الخضر والفواكه التي تثمر في باطن الأرض.
2 الموافقات، 3/ 151-152.
3 الموافقات، 3/ 46.
أمر وجوب أو ندب، وما هو نهي تحريم أو كراهة، لا تعلم من النصوص، وإن علم منها بعض، فالأكثر منها غير معلوم. وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعاني، والنظر في المصالح، وفي أي مرتبة تقع"1.
ويمكن أن أمثل لهذا بنشر العلم وبثه وتعليمه للناس؛ فقد تواترت النصوص الكثيرة على طلب ذلك والحث عليه، ترغيبًا وترهيبًا. فيؤخذ من مجموعها- -وبصفة عامة- أن من واجب أهل العلم أن يبثوا علمهم ويعلموه للمحتاجين إليه. ولكن النظر المصلحي اقتضى أن تعليم الناس قد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية. وكما يكون واجبًا، قد يكون مندوبًا. وذلك حسب نوع العلم ودرجته، وحسب المتعلم ومدى حاجته. بل ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحاشى الإكثار بالتعليم على أصحابه. ففي صحيح البخاري أن عبد الله بن مسعود كان يذكر الناس في كل خميس. فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم. قال أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها في الأيام مخافة السآمة علينا.
وأكثر من هذا، فقد تكون هناك أمور من العلم تقتضي المصلحة عدم بثها بين جميع الناس في ظرف ما. وقد امتنع عدد من الصحابة -بإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم عن التحديث بما سمعوه منه، من أن من مات لا يشرك بالله شيئًا حرم الله عليه النار، وذلك حتى لا يتخلى الناس عن العمل. ولم يحدثوا بذلك إلا عند احتضارهم، خشية ضياع الحديث نهائيا. وهذا مروي في صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت، وعن معاذ بن جبل، وعن أبي هريرة أن عمر هو الذي منعه من إخبار الناس، وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال النووي:"وفيه -أي في الحديث- جواز إمساك بعض العلوم التي لا حاجة إليها، للمصلحة أو خوف المفسدة"2.
ويروى عن الإمام مالك بن أنس أنه كان يكره الكلام في المسائل التي لا ينبني عليها عمل، ويحكي كراهية ذلك عمن تقدم3.
1 الموافقات، 3/ 153.
2 شرح صحيح مسلم، 1/ 240.
3 الموافقات، 1/ 50 و 4/ 191، انظر نهاية الجزء الأول من ترتيب المدارك للقاضي عياض.