المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ابن حزم والتعليل: - نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي

[أحمد الريسوني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد: في معنى المقاصد ونظرية المقاصد

- ‌الباب الأول: المقاصد قبل الشاطبي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: فكرة المقاصد عند الأصوليين

- ‌مدخل

- ‌حلقات سابقة:

- ‌ الحلقات الشهيرة:

- ‌الفصل الثاني: فكرة المقاصد في المذهب المالكي

- ‌مدخل

- ‌ماذا أعني بالمذهب المالكي:

- ‌أصول المذهب المالكي والمقاصد

- ‌المصلحة المرسلة

- ‌ سد الذرائع:

- ‌ مراعاة مقاصد المكلفين:

- ‌الباب الثاني: الشاطبي ونظريته

- ‌الفصل الأول: تعريف بالشاطبي

- ‌مدخل

- ‌ خلاصة ترجمة الشاطبي:

- ‌ الشاطبي يتحدث عن نفسه:

- ‌ مراسلات الشاطبي:

- ‌الفصل الثاني: عرض النظرية

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول: مقاصد الشارع

- ‌النوع الأول: قصد الشارع في وضع الشريعة

- ‌النوع الثاني: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام

- ‌النوع الثالث: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها

- ‌النوع الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة

- ‌القسم الثاني: مقاصد المكلف في التكليف

- ‌خاتمة الكتاب: بماذا يعرف مقصود الشارع

- ‌الفصل الثالث: أبعاد النظرية

- ‌مدخل

- ‌ الضروريات الخمس:

- ‌ مسائل المباح:

- ‌ الأسباب والمسببات:

- ‌الباب الثالث: القضايا الأساسية لنظرية الشاطبي عرض ومناقشة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مسألة التعليل

- ‌أحكام الشريعة بين التعليل والتعبد

- ‌الرافضون للتعليل:

- ‌موقف الرازي من التعليل:

- ‌ابن حزم والتعليل:

- ‌الفصل الثاني: المصالح والمفاسد

- ‌مفهوم المصلحة والمفسدة

- ‌إدراك المصالح بالعقل:

- ‌مجالات العقل في تقدير المصالح

- ‌التفسير المصلحي للنصوص

- ‌ تقدير المصالح المتغيرة والمتعارضة:

- ‌ تقدير المصالح المرسلة:

- ‌الفصل الثالث: بماذا تعرف مقاصد الشارع

- ‌فهم المقاصد وفق مقتضيات اللسان العربي

- ‌ الأوامر والنواهي الشرعية بين التعليل والظاهرية:

- ‌ المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية:

- ‌ سكوت الشارع:

- ‌ الاستقراء:

- ‌الباب الرابع: تقييم عام لنظرية الشاطبي

- ‌الفصل الأول: نظرية الشاطبي بين التقليد والتجديد

- ‌جوانب التقليد

- ‌مدخل

- ‌استفادته من الأصوليين:

- ‌استفادته من المذهب المالكي:

- ‌جوانب التجديد

- ‌مدخل

- ‌ التوسع الكبير:

- ‌ مقاصد المكلف:

- ‌ بماذا تعرف مقاصد الشارع

- ‌ تقديم ثروة من القواعد:

- ‌قواعد المقاصد:

- ‌الفصل الثاني: المقاصد والاجتهاد

- ‌مدخل

- ‌المقاصد وشروط المجتهد:

- ‌مسالك الاجتهاد المقاصدي

- ‌النصوص والأحكام بمقاصدها

- ‌ الجمع بين الكليات العامة والأدلة الخاصة:

- ‌ جلب المصالح ودرء المفاسد مطلقًا:

- ‌ اعتبار المآلات:

- ‌خاتمة: آفاق البحث في المقاصد

- ‌الفهارس:

- ‌فهرس الأعلام:

- ‌المصادر والمراجع: مرتبة ترتيبًا ألفبائيا على الأسماء المشهورة لمؤلفيها:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ابن حزم والتعليل:

الحقيقة أنه لم يبق أمامي -بعد طول بحث ونظر- إإلا الظاهرية. فالظاهرية هم المنكرون للتعليل نظريا وتطبيقيا. وهم المنكرون للتعليل جملة وتفصيلًا. وهم أقوى وأوضح من أنكر واستنكر التعليل، وهم أقوى من دافع عن التعبد المحض والتام للشريعة.

وعندما أذكر الظاهرية، فالمقصود -بصفة خاصة- أبو محمد بن حزم الأندلسي؛ فهو الوريث الكامل للنزعة الظاهرية. وهو الذي بقي لنا من مؤلفاته وآرائه، ما يجسد تجسيدًا كاملًا، مذهب الظاهرية أصولًا وفروعًا.

ص: 216

‌ابن حزم والتعليل:

من غرائب الأمور أن الشاطبي الذي أنكر على الرازي ورد عليه -والأمر على ما رأينا- لم يتعرض لموقف ابن حزم، ولم يتصد لمناقشة حججه وآرائه، مع أن كل الأسباب تدعو لذلك:

1-

فابن حزم هو الذي يستحق تمامًا أن تقال عنه العبارة التي قالها الشاطبي عن الرازي وهي: "وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك". فابن حزم هو الذي خصص بابا كاملًا من كتابه "الإحكام" لهدم فكرة التعليل. وقال في عنوانه: "الباب التاسع والثلاثون في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين" وهو ينسب هذا الإنكار التام إلى جميع الظاهرية قبله: "وقال أبو سليمان1 وجميع أصحابه رضي الله عنهم: لا يفعل الله شيئًا من الأحكام وغيرها، لعلة أصلًا بوجه من الوجوه.

قال أبو محمد: وهذا هو ديننا الذي ندين الله تعالى به، وندعو عباد الله تعالى إليه، ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى"2.

1 هو أبو سليمان البغدادي الأصبهاني، داود بن علي الظاهري، الإمام الأول للظاهرية "220-270".

2 الإحكام في أصول الأحكام، 8/ 77.

ص: 216

2-

وابن حزم بالغ في حشر "الحجيج" ضد خصومه، وبالغ في مهاجمتهم واستفزازهم، مما يصعب معه جدا تجاهل موقفه، وشبهه، ونتائجه. خصوصًا وأنه يقدم ذلك كله على أنه اليقين الذي لا يقبل المناقشة والمراجعة. ولا أرى إلا أن كلامه هو الذي استفز ابن القيم، حتى قال -وهو يتهيأ للرد المفصل على منكري القياس- "الآن حمي الوطيس، وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله. وآن لحزب الله أن لا تأخذهم في الله لومة لائم"1.

فقد بلغت حملة ابن حزم على التعليل وأهله إلى حد اعتبار "أن القياس وتعليل الأحكام دين إبليس، وأنه مخالف لدين الله تعالى، نعم، ولرضاه. ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القياس في الدين، ومن إثبات علة لشيء من الشريعة"2.

3-

وابن حزم هو الذي شغل، أو فتن، مالكية المغرب والأندلس، وهدد استتباب مذهبهم، تهديدًا حقيقيا، غير ما مرة، فكيف لم يتصد الشاطبي المالكي للرد عليه؟!

هل يكون موقف الشاطبي هذا، إمعانًا في إهمال الظاهرية وإماتة مقولاتهم؟

أستبعد هذا، لأن الشاطبي يذكر الظاهرية وابن حزم مناسبات عديدة ويذكرهم بكثير من الإنصاف والرفق3.

وعلى كل حال، فالذي يهمني الآن، هو أن أسجل إحساسي بأن عدم التعرض لموقف ابن حزم ولتفنيد آرائه وكشف شبهة، يشكل نقصًا في كتاب كامل عن المقاصد. بل هو كتاب يؤسس نظرية المقاصد. وأساس نظية المقاصد هو التعليل.

1 أعلام الموقعين، 2/ 74.

2 الإحكام، 8/ 113.

3 انظر -على سبيل المثال- المسألة السابعة في الأوامر والنواهي، ج3 من الموافقات، وأيضًا: 4/ 229-230.

ص: 217

فالشاطبي كان ملهمًا وموفقًا حين افتتح كتاب المقاصد بمسألة التعليل، وحين اعتبرها مسألة "مسلمة"، ولكن لكي تكون المسألة مسلمة فعلا، كان ينبغي الاهتمام بموقف ابن حزم، ذلك الخصم العنيد، الذي يشوش -بحدة وعنف- على القول بأن الشريعة جاءت لرعاية المصالح، وأن أحكامها معللة بهذا. ومن ثم، فهو يشوش على كل كلام في مقاصد الشريعة.

فلا بد من سد هذه الثغرة، بإزاحة شبه ابن حزم، حتى تكون المسألة مسلمة حقا، وحتى تكون حكاية الإجماع فيها أيضًا مسلمة، لا يعكرها موقف ابن حزم ولا غيره1.

لأجل هذا رأيت أن أقف هذه الوقفة القصيرة2 مع أهم آراء ابن حزم واستدلالاته، عرضًا ومناقشة:

وأبدأ أولًا بالإشارة إلى أن هناك قدرًا من الخلاف مع ابن حزم، يمكن أن يؤول إلى الوفاق، انطلاقًا مما يسميه الأصوليون "تحرير محل النزاع". ذلك أن كثيرًا من الخلافات، قد تكون راجعة إلى اختلاف لفظي واصطلاحي. وقد نبه ابن حزم نفسه على هذا فقال:"والأصل في كل بلاء وعماء وتخليط وفساد3: اختلاط الأسماء، ووقوع اسم واحد على معاني كثيرة، فيخبر المخبر بذلك الاسم، وهو يريد أحد المعاني التي تحته، فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبر، فيقع البلاء والإشكال"4.

1 وإن كان إمام الحرمين الجويني يقول: "الذي ذهب إليه ذوو التحقيق أنا لا نعد منكري القياس من علماء الأمة، وحملة الشريعة، فإنهم مباهتون أولًا على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواتر. ومن لم يزعه التواتر، ولم يحتفل بمخالفته، لم يوثق بقوله ومذهبه. فهؤلاء ملتحقون بالعوام. وكيف يدعون مجتهدين ولا اجتهاد عندهم؟ وإنما غاية التصرف التردد على ظواهر الألفاظ"، البرهان، 2/ 819.

2 ذلك أن العرض الكامل، والمناقشة التفصيلية، يحتاجان إلى أضعاف ما كتبه ابن حزم. فلا يصلح لذلك إلا بحث خاص.

3 مبالغات معهودة من ابن حزم، ولكن يهمنا ما بعد.

4 الإحكام، 8/ 101.

ص: 218

فمن جوانب الموضوع التي يمكن إخراجها من دائرة الخلاف مع ابن حزم أنه ينكر مرارًا على أصحاب التعليل -وخاصة من أهل السنة- ما لا يقولون به، وهو التعليل بمعناه الفلسفي الذي رأينا من قبل أن عامة المتكلمين الأشاعرة ينكرونه. فهو يقول:"إن العلة اسم لكل صفة توجب أمرًا ما، إيجابا ضروريا1 والقول بهذا النوع من العلل في شرع الأحكام معناه "أن الشرائع شرعها الله تعالى لعلل أوجبت عليه أن يشرعها"2.

وهذا لا يقول به أحد من أهل السنة. بل دأب علماء السنة إنكار هذا على الفلاسفة والمعتزلة.

فعلماء السنة يقولون -كما مر- بعلل جعلية، جعلها الله بمشيئته، لا يلزمه منها شيء. ومن هنا فهم يقولون برعاية المصالح من الله، تفضلا وإحسانًا، لا وجوبًا وضرورة. فمعركة ابن حزم ضد هذا النوع من التعليل، هي معركة ضائعة. فلو أنه أخذ اصطلاح القوم بعين الاعتبار -ولا يمكن أن يكون خافيًا عليه- لضاقت هوة الخلاف، ولخفت حدة المعركة التي حمي وطيسها، كما قال ابن القيم.

وأيضًا، إذا أخذنا اصطلاحه هو بعين الاعتبار، فإن الخلاف سينقص درجة أخرى.

فأما مفهوم العلة عنده، فالجميع متفق معه على إنكاره، أعني أهل السنة. وأما التعليل كما يقصده أهل السنة، فإن ابن حزم يعترف أيضًا بقدر منه. ولكنه لا يسمي ذلك علة ولا تعليلًا. وإنما يسميه "السبب".

والسبب عنده: "هو كل أمر فعل المختار فعلا من أجله، لو شاء لم يفعله، كغضب أدى إلى انتصار، فالغضب سبب الانتصار. ولو شاء المنتصر أن لا ينتصر لم ينتصر. وليس السبب موجبًا للشيء المسبب منه ضرورة"3.

1 الإحكام، 8/ 99.

2 الإحكام، 8/ 102.

3 الإحكام، 8/ 100.

ص: 219

فالفرق الجوهري عنده بين العلة والسبب، وهو أن العلة موجبة ضرورة لمعلولها. بينما السبب لا إيجاب فيه ولا اضطرار. فيبقى فاعل المسبب مختارًا، إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله، وإن وجد السبب.

وبهذا المعنى، فهو يقر -كسلفه أبي سليمان- أن الشارع ربط بعض الأحكام بأسباب، وقد مثل لذلك: بقوله صلى الله عليه وسلم: "أعظم الناس جرمًا في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" ويجعل الموت على الكفر سببًا للخلود في النار، والموت على الإيمان سببًا لدخول الجنة، ويجعل السرقة بصفة معينة سببًا للطقع1.

على أنه يحيط اعترافه بهذا النوع من السببية بين الأحكام وأسبابها، بحملة شروط، تجعل الفرق بينه وبين جمهور العلماء كبيرًا، وهي:

1-

هذه الأسباب لا يجوز أن يقال بشيء منها إلا إذا جاء منصوصًا صراحة فلا اجتهاد ولا استنباط في ذلك.

2-

هذه الأسباب المنصوصة، لا يجوز تعديتها إلى غير محل النص، أي لا يجوز القياس عليها.

3-

هذا الربط المنصوص بين بعض الأحكام وبعض الأسباب، ليس وراءه حكمة أو غرض، أي ليس فيه قصد إلى جلب مصلحة أو درء مفسدة. وإنما هي مشيئة الله وكفى.

ولابن حزم مصطلح ثالث، إذا أخذنا مضمونه بعين الاعتبار، نقص الخلاف درجة أخرى، وإن كانت قليلة جدا. وهو مصطلح "الغرض" الذي يعرفه بقوله:"وأما الغرض فهو الأمر الذي يجري إليه الفاعل ويقصده بفعله فالغرض من الانتصار إطفاء الغضب وإزالته. فالغضب هو السبب في الانتصار. وإزالة الغضب هو الغرض في الانتصار"2.د

1 الإحكام، 8/ 102.

2 الإحكام، 8/ 100.

ص: 220

وابن حزم بهذا المثال -يريد أن يقول: إذا كانت بعض الأحكام الشريعة لها أسباب، والأحكام مسببات لها. فإن بعض هذه المسببات قد يكون للشارع فيها أغراض، يرمي إلى تحقيقها من خلال المسببات، أي أن لها أهدافًا ومقاصد وكأن ابن حزم بهذا يقترب من الجمهور، ولكنه سرعان ما يعمد إلى تضييق هذه المبادئ، على ما فيها من التواء!

والقيد الأول هو المتمثل في النزعة الظاهرية كلها. وقد عبر عنه بقوله: "وأما الغرض في أفعاله تعالى وشرائعه، فليس هو شيئا غير ما ظهر منها فقط1 أي ليست هناك أغراض -أو مقاصد- يتوصل إليها عن طريق التدبر والاستنباط، أو عن طريق الاستقراء، أو انطلاقًا من التعليل العام.

والقيد الثاني: هو حصر هذه الأغراض في الآخرة، فالغرض في بعض الأحكام الشرعية هو "أن يعتبر بها المعتبرون، وفي بعضها أن يدخل الجنة من شاء إدخاله فيها، وأن يدخل النار من شاء إدخاله فيها2، ثم يضيف مستدركًا وموضحًا:

"وكل ما ذكرنا من غرضه تعالى في الاعتبار، ومن إدخاله الجنة من شاء، ومن إدخاله النار من شاء، وتسبيبه ما شاء لما شاء، فكل ذلك أفعال من أفعاله، وأحكام من أحكامه، لا سبب لها اصلًا، ولا غرض له فيها البتة غير ظهورها وتكوينها فقط {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} ، ولولا أنه تعالى نص على أنه أراد منه الاعتبار وأراد إدخال الجنة من شاء، ما قلنا به3.

ولعل أهم "دليل" يقيم عليه ابن حزم مذهبه في إنكار التعليل والتشنيع على المعللين، هو هذه الآية التي أشار إليها، وهي قوله عز وجل:{لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 4.

1 الإحكام، 8/ 103.

2 الإحكام، 8/ 104.

3 الإحكام، 8/ 104.

4 سورة الأنبياء، 23.

ص: 221

وأرى من الضروري أن أدع ابن حزم يوضح استدلاله بالآية، ولو كان في ذلك شيء من التطويل.

يقول: "وقد قال تعالى واصفًا لنفسه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} فأخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه، وأن أفعاله لا يجري فيها "لم". وإذا لم يحل لنا أن نسأله عن شيء من أحكامه تعالى وأفعاله: "لم كان هذا؟ "، فقد بطلت الأسباب جملة، وسقطت العلل البتة، إلا ما نص الله تعالى عليه أنه فعل أمر كذا لأجل كذا. وهذا أيضًا مما لا يسأل عنه، فلا يحل لأحد أن يقول: لم كان هذا السبب لهذا الحكم ولم يكن لغيره؟ ولا أن يقول: لم جعل هذا الشيء سببًا دون أن يكون غيره سببًا أيضًا؟ لأن من فعل هذا السؤال فقد عصى الله عز وجل وألحد في الدين، وخالف قوله تعالى:{لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} فمن سأل الله عما يفعل فهو فاسق1.

وفي موضع آخر ينتقد موقف القياسيين الباحثين عن علل الأحكام بقوله: "وهم دائمًا يسألون ربهم: لم فعلت كذا؟ كأنهم لم يقرءوا هذه الآية! نعوذ بالله من الخذلان2.

وبهذا الفهم، وبهذا الاستدلال، يتخذ ابن حزم من الآية سيفًا بتارًا يلوح به، بل يضرب به كل باحث عن حكم الشريعة وعلل أحكامها، ويغلق بذلك ما يسميه الأصوليون "مسالك التعليل" -باستثناء مسالك النص "في ظاهره"- ويحرم ويفسق كل تساؤل عن مقاصد الشارع وأسرار الشريعة!!

ولم أر من رد على ابن حزم -بالاسم- في استدلاله الخطير بهذه الآية، غير الشيخ محمد أبي زهرة. وأهم ما رد به عليه، هو أنه "أي ابن حزم" خلط بين أفعال الله وأحكامه، ونقل منع السؤال من الأولى إلى الثانية يقول الشيخ أبو زهرة: "ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لا يسأل عن أفعاله ولا يسأل عن أقواله، لأنه ليس

1 الإحكام، 8/ 102-103.

2 الإحكام، 8/ 125.

ص: 222

لأحد سلطان بجوار سلطانه. إنه مالك الملك ذو الجلال الإكرام، فليس لأحد أن يستطيل فيسأل عن علة أفعاله تعالى، لأنه الحكيم العليم الخبير، ولكن هل يقتضي هذا، النهي عن أن يبحث عن علة النصوص في الشريعة؟ إني أرى أن الفارق كبير بين علة النصوص الشرعية وعلة أفعال الله تعالى. لأن البحث عن علة النصوص في الشريعة، تعرف للمراد منها والمطلوب فيها"1.

وهذا الرد من الشيخ أبي زهرة، لا يستطيع الصمود أمام منطق ابن حزم واستدلالاته المسهبة في الموضوع، فضلًا عن أن يكفي لنقضها وإقصائها لأن أحكامه من أفعاله، ولأن أفعاله فيها نوع من أحكامه. وابن حزم يستدل -أيضًا- على منع التعليل بقوله سبحانه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 2 أي أنه يفعل ما يريد ويحكم بما يريد، {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} ، و {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} ، سواء في الخلق وتدبيره، أو في التشريع وإبرامه، وفي كل ذلك "يفعل" ما يريد. فقول القائل لله تعالى "لم حكمت بكذا؟ " كقوله له:"لم فعلت كذا؟ ".

ثم إن الشيخ أبا زهرة صرح أن الله تعالى لا يسأل عن أفعاله وأقواله، ثم سوع السؤال عن علل النصوص الشرعية. والنصوص الشرعية من أقوال الله. كما ذكر رحمه الله أن البحث عن علة النصوص، إنما هو تعرف للمراد منها والمطلوب فيها. والحقيقة أن بين الأمرين فرقًا ودرجة. فتعرف المراد والمطلوب من النص درجة، وتعليله درجة أخرى. فقوله تعالى -مثلًا- {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} 3، المراد منه أن الجمع بين المرأتين الأختين في عصمة زوج واحد، في وقت واحد، حرام، والمطلوب اجتنابه. فهذا هو الحكم على المكلف معرفته والتزامه. أما تعليله فشيء آخر. فهذه درجة، وتلك درجة. وابن حزم -كما

1 ابن حزم ص437 وما بعدها. وانظر في ذلك تاريخ المذاهب الفقهية، له أيضًا، ص430-431.

2 سورة هود، 107، وسورة البروج، 16.

3 سورة النساء، 23.

ص: 223

سيأتي - لا يمانع في الدرجة الأولى. بل يعتبرها -كسائر المسلمين- فرضًا. ولكنه يمنع الدرجة الثانية، وهي التي تبدأ عندما نقول:"لماذا حرم الله الجمع بين الأختين؟ فهذا هو السؤال الذي ينكره ابن حزم، بل يحرمه ويفسق قائله. ومن ثم، لا يجوز أن يقول القائل -عن هذا التحريم- مثلًا: "حكمته: دفع الغيرة عمن يريد الشرع بقاء تمام المودة بينهما1 أو ما شابه هذا مما هو حكمة مقصودة ظاهرة.

وقبل أن أدخل في مناقشة وإبطال فهم ابن حزم واستدلاله بآية {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} أضيف أنه يدعم موقفه بآية آخرى، يفهمها ويوجه معناها في نفس الاتجاه: قال أبو محمد: قال الله تعالى: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} 2 فأخبر تعالى أن البحث عن علة مراده تعالى ضلال. لأنه لا بد من هذا3، أو من أن تكون الآية نهيًا عن البحث عن المعنى المراد، وهذا خطأ لا يقوله مسلم، بل البحث عن المعنى الذي أراده الله تعالى فرض على كل طالب علم، وعلى كل مسلم فيما يخصه، فصح القول الثاني4 ضرورة ولا بد.

وقال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} .

قال أبو محمد: وهذه كافية في النهي عن التعليل جملة. فالمعلل بعد هذا عاص لله، وبالله نعوذ من الخذلان5.

1 هذا التعليل للشيخ ابن عاشور عند تفسره للآية المذكورة، انظر التحرير والتنوير، 4/ 300.

2 سورة المدثر، 31.

3 أي لا بد أن الآية واردة في ذم البحث عن العلل، وإلا

4 الظاهر أن الصواب هو: "فصح القول الأول".

5 الإحكام، 8/ 112.

ص: 224

هذا هو حجر الأساس لموقف الظاهرية عمومًا، وموقف ابن حزم خصوصًا، من مسألة التعليل، والتي سماها صاحبنا:"القضية الملعونة"1.

ومذهب ابن حزم هذا، وخاصة استدلاله بالآيتين المذكورتين، ينطوي على مغالطة فادحة، لم ينتبه إليها العلامة أبو زهرة، في رده المذكور سابقًا. ولهذا لم يصب مذهب ابن حزم في مقتله.

فقوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} معناه أن الله سبحانه لا يحاسبه أحد على أفعاله، ولا يعترض على فعله وحكمه أحد والله يحكم، لا معقب لحكمه2، بخلاف العباد، فإنهم يسألون، ويحاسبون، ويلامون، ويخطئون. وذلك أن الله تعالى -من جهة- هو خالق كل شيء، ومالك كل شيء، له ما في السموات وما في الأرض، له الأولى والآخرة. ولأنه -ومن جهة أخرى-هو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأصدق القائلين، وهو العليم الخبير. فعلى هذا الأساس -أو هذه الأسس- تأتي أفعاله وأحكامه. فلا مجال فيها للاستدراك أو الاعتراض.

لهذا وذاك فإن الرب سبحانه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} أي لا يسأل سؤال محاسبة، أو اعتراض.

فهذا هو معنى السؤال في الآية. ولا شك أن توجيه مثل هذا السؤال لله تعالى، كفر.

وهنا يكمن غلط -أو مغالطة- ابن حزم، في منع التعليل بمقتضى هذه الآية وما شابهها من الآيات. فالسؤال من علل الأحكام الشرعية، ومثله السؤال عن أسرار وحكم أفعال الله، هو سؤال تفهم وتعلم، فهو على أصل "الاستفهام" أي طلب الفهم. وهذا النوع من الأسئلة والتساؤلات صدر عن الأنبياء والصالحين،

1 ويقصد بها بالضبط: القول بأن أفعال الله وأحكامه كلها معللة بجلب المصالح. انظر الإحكام، 8/ 120-122، وما بعدها.

2 سورة الرعد، 41.

ص: 225

وورد ذكره وإقراره في القرآن الكريم، مما يضع حدا لهذا الفهم السقيم الذي تبناه ابن حزم، وسفه به جماهير العلماء، سلفًا وخلفًا.

وقبل أن أورد الأمثلة لذلك، أستمر قليلًا في توضيح الآية وسياقها.

والآية واردة في سياق إثبات التوحيد، وتفنيد الشرك وذلك في قوله تعالى:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ، أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ، وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 1.

فالسياق هو سياق إثبات الوحدانية للواحد سبحانه، وإثبات صفاته التي لا يشترك معه فيها أحد، بالمقارنة مع صفات الشركاء المزعومين. ومن ذلك أن الواحد لا يحاسب ولا يتعقب ولا يعترض عليه. أما الآلهة المزعومة، من ملائكة وبشر، فإنهم مسئولون، ومحاسبون، ومحكومون. ومن كان هذا شأنه لا يمكن أن يكون إلهًا.

فهذا هو سياق "السؤال" المنفي في حق الله، والمثبت في حق العباد.

وفي توضيح هذا، يقول العلامة ابن عاشور:"والسؤال هنا بمعنى المحاسبة وطلب بيان سبب الفعل، وإبداء المعذرة عن فعل بعض ما يفعل، وتخلص من ملام أو عتاب على ما يفعل. وهو مثل السؤال في الحديث: "كلكم راع، وكلكم

1 سورة الأنبياء، 19-29.

ص: 226

مسئول عن رعيته" فكونهم يسألون، كناية عن العبودية، لأن العبد بمظنة المؤاخذة على ما يفعل وما لا يفعل، وبمظنة التعرض للخطأ في بعض ما يفعل.

وليس المقصود هنا نفي سؤال الاستشارة، أو تطلب العلم. ولا سؤال الدعاء، ولا سؤال الاستفادة والاستنباط، مثل أسئلة المتفقهين أو المتكلمين عن الحكم المبثوثة في الأحكام الشرعية، أو في النظم الكونية. لأن ذلك استنباط وتتبع، وليس مباشرة بسؤال الله تعالى، ولا لتطلب مخلص من ملام. وفي هذا إبطال لألهية المقربين التي زعمها المشركون الذين عبدوا الملائكة وزعموهم بنات الله تعالى، بطريقة انتفاء خاصية الإله الحق عنهم، إذ هم يسألون عما يفعلون وشأن الإله أن لا يسأل. وتستخرج من جملة {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} كناية عن جريان أفعال الله تعالى على مقتضى الحكمة، بحيث إنها لا مجال فيها لانتقاد منتقد إذا أتقن الناظر التدبر فيها، أو كشف له عما خفي منها"1.

فسر المسألة، والفيصل فيها بين سؤال وسؤال، بين سؤال يفسق صاحبه كما ذهب إلى ذلك ابن حزم، وبين سؤال يرجو به صاحبه الأجر والتقرب إلى الله. الفرق هو أن السؤال الموجه إلى الله، أو إلى أي فعل من أفعاله، أو أي قول من أقواله، أو أي حكم من أحكامه، إذا كان الغرض منه: الاعتراض، أو الإنكار، أو الاستهزاء، أو المحاسبة، فهو ضلال وكفر. ومن هذا الباب السؤال الوارد في الآية التي استدل بها ابن حزم على تحريم البحث عن علل الأحكام، وهي قوله تعالى:{وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} 2.

فالسؤال في الآية صادر عن الكافرين والذين في قلوبهم مرض، وفيه معنى الاستهزاء والاتحقار، كما هو موضح في سبب نزولها.

1 التحرير والتنوير، 17/ 46.

2 سورة المدثر، 31.

ص: 227

وشبيه بهذه الآية، آية البقرة:{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} 1 قال القرطبي: "ومعنى كلامهم هذا: الإنكار بلفظ الاستفهام2.

ومن هذا الباب أيضًا، ما جاء في الحديث من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بأداء دية الجنين الذي قتل هو وأمه، فقام حمل بن النابغة -من عاقلة المرأة القاتلة، المحكوم عليهم بأداء الديتين- فقال: يا رسول الله: كيف أغرم ما لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل هذا يطل3. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما هذا من إخوان الكهان"4.

فقول هذا القائل، هو من قبيل الاستفهام الإنكاري الذي إذا وجه للشارع كان كفرًا أو يكاد. ولهذا غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعته بما نعته به. وقد جاء في شرح النووي على صحيح مسلم: "قال العلماء: إنما ذم سجعه لوجهين: أحدهما أنه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله5.

والحقيقة أن الذم ليس موجهًا للسجع، وإنما هو موجه لمضمونه المعارض والمنكر لحكم الله ورسوله.

ففي مثل هذه المواقف يصح الاستدلال بتلك الآيات.

وأما إذا كان السؤال صادرًا عن إيمان تام بالله وصفاته الكمالية، وبعدله وحكمته على الخصوص، تحدوه الرغبة في الفهم والتعلم، ويدفعه التطلع والتشوف إلى مزيد من الاطلاع على حكم الله في تشريعه وتدبيره، فهذا سؤال مشروع لا غبار عليه، بل سؤال محمود غير مذموم، وذلك في حدود الممكن، وفي حدود الأدب اللازم.

1 سورة البقرة، 26.

2 الجامع لأحكام القرآن، 1/ 244، وانظر أيضًا: التحرير والتنوير، لابن عاشور، 1/ 264-265.

3 أي يهدر ولا دية له.

4 من صحيح مسلم، ورواه البخاري أيضًا.

5 صحيح مسلم بشرح النووي، 11/ 178.

ص: 228

والسؤالات من هذا القبيل صدرت عن المصطفين الأخيار، المقتدى بهم وبنهجهم:

فقد سألت الملائكة ربها سبحانه: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} 1.

وسأل الخليل إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، الله تعالى فقال:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} 2 قال القرطبي "إنما طلب المعاينة. وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.

أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانًا، والمعلوم عيانًا3.

ومن هذا القبيل أيضًا، سؤال كل من زكريا ومريم عليهما الصلاة والسلام، لما جاءت كلا منهما البشرى بالولد:

فزكريا: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} 4.

ومريم: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} 5.

فكل منهما اندهش وتحير أمام أمر الله وقدرته، فانطلق لسانه بالاستفهام لصاحب الأمر، سبحانه، إنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم.

وكل هذه الأمثلة تتعلق بأفعال الله، أي ليست في مجال التشريع، ومع ذلك صدرت من هؤلاء المقتدى بهم.

وأما في مجال التشريع فأذكر هذا المثال، وهو الوارد في سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ

1 سورة البقرة، 30.

2 سورة البقرة، 260.

3 الجامع لأحكام القرآن، 3/ 297-300.

4 سورة آل عمران، 40.

5 سورة آل عمران، 47.

ص: 229

وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} .

فقد روى النسائي وأحمد في سبب نزول الآية، أن أم سلمة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ فأنزل الله هذه الآية.

فسؤال أم المؤمنين، أم سلمة رضي الله عنها -أو سؤال غيرها من الصحابيات، كما في الروايات الأخرى- وإن كان قد وجه مباشرة إلى رسول الله لا إلى الله، فهو في الحقيقة موجه إلى الله جل جلاله، ولهذا تولى الله تعالى بنفسه الجواب عنه. ولم يكن هذا السؤال، أو التساؤل، محل إنكار ولا لوم. وهذا يؤكد أن السؤال كان بريئا من كل شبهة، صادقًا في تطلب العلم والفهم، مع الرضى والتسليم في جميع الحالات.

وبعد هذه الوقفة مع أهم مستندات ابن حزم وألصقها بموضوعنا، لا أرى ضرورة لعرض بقية استدلالاته في إنكار التعليل. فبعضها منقوض بما قدمته من أدلة التعليل منذ بداية هذا الفصل، فلا داعي للتكرار. وبعضها ظاهر البطلان، وخصوصًا بعد المناقشة السابقة، وبعضها يتوغل في مباحث كلامية فلسفية لا أريد السقوط فيها. وأما الأمثلة الفقهية التي ساقها ابن حزم لإبطال القياس والتعليل، فجوابها الشافي، هو ما كتبه الإمام ابن القيم في الرد على منكري القياس، وإن لم يسم منهم أحدا.

ص: 230

ومرة أخرى أأكد أن تعليل الأحكام له مسالكه وحدوده وضوابطه. وكل ذلك مبين في مظانه من كتب الأصول، ومطبق في كتب الفقه، والتفسير، وفقه الحديث.

والذي أستطيع أن أقرره باطمئنان: أنه ليس هناك حكم شرعي، إلا ويجوز التساؤل عن حكمته، كما يجوز البحث عنها -بعد ذلك- بكل ما هيأه الله لنا من وسائل البحث والعلم. فإذا وصلنا إلى شيء مما تشهد له الأدلة المعتبرة قلنا به، وإن لم تصل، سلمنا بحكمة الله أيا كانت، والبحث مستمر، والعلم لا حد له. وقد أمرنا الله بالتدبر والتعقل، وأمرنا بالنظر والتفكر، سواء في دينه وشريعته، أو في خلقه وملكوته. فقد قال سبحانه:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} 1 مثلما قال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 2.

وفي هذا وذاك، لا بد من التساؤل عن العلل والقوانين، والبحث عن الأسرار والحكم، في حدود الممكن، أو ما يبدو ممكنًا، ورحم الله من عرف قدره فوقف عنده.

وفي مجالنا الآن، مجال الشريعة وأحكامها، لا بد لكي يتقدم فقهنا للشريعة ومقاصدها، من أن ننطلق ونحن على يقين واطمئنان بأن هذه الشريعة -كما عبر ابن القيم- "عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها"3. وكما قال العلامة القرطبي - بلدي ابن حزم- "لا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية4.

1 سورة النساء، 82.

2 سورة الغاشية، 17-20.

3 أعلام الموقعين، 3/3.

4 الجامع لأحكام القرآن، 2/ 64.

ص: 231

فلابد من التساؤل والبحث ما أمكن عن هذه المصالح الدينية والدنيوية التي تنطوي عليها الأحكام الشرعية. لنفهمها ونطبقها في ضوء مصالحها ومقاصدها ولنهتدي بمعرفة تلك المصالح والمقاصد فيما لم ينص عليه. يقول العلامة ابن عاشور: "وجملة القول: أن لنا اليقين بأن أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد؛ وهي حكم ومصالح ومنافع، ولذلك كان الواجب على علمائنا تعرف علل التشريع ومقاصده، ظاهرها وخفيها"1.

وكما أن من لا يؤمن بقوانين الكون واطرادها واستقرارها وكمالها ودقتها لا يمكن أن يتقدم في أي علم من العلوم المادية. فكذلك من لا يؤمن بحكمة التشريع الشاملة. وبقوانينه المطردة، وبقواعده المضبوطة، لا يمكن أن يتقدم في علوم الشريعة أبدًا.

1 مقاصد الشريعة الإسلامية، ص48.

ص: 232