الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موسم العبادة
حديث أذيع من دمشق سنة 1959
يا أيها السامعون، إن للزراعة مواسم، وإن للتجارة مواسم، وإن للمدارس مواسم. فإذا جاء موسم الزرع شمّر الزارع عن ساقه فحرث وبذر وجدّ ودأب، وإذا جاء موسم البيع عرض التاجر بضاعته وأقام عليها نهاره ووضع في ترويجها ذهنه ويده، وإذا جاء موسم الامتحان ترك التلميذ لهوه وسهر ليله وعكف على كتابه.
ورمضان هو موسم العبادة للمؤمنين.
وإذا كان الزارع يُتعب نفسه في الحرث والبَذر أملاً بيوم الحصاد، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، فازرعوا فيها من الصالحات لتحصدوا ثمرتها حسنات يوم يقوم الحساب.
وإذا كان التاجر يكدّ ويدأب ليربح المال وينجو من الضيق والخسار، فهذه هي التجارة المربحة: {يَا أيُّها الذينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجيكُم مِنْ عَذَابٍ أَليم؟ تُؤمِنونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ في سَبيلِ اللهِ بِأمْوالِكُمْ وَأنْفُسِكُم؛ ذلِكُمْ خَيرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمون. يَغْفِرْ لَكُم ذُنوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُم جَنّاتٍ تَجري مِن تَحْتِها الأنْهارُ وَمَساكِنَ طَيّبةً في جَنّاتِ عَدْنٍ، ذلِكَ الفَوْزُ العَظيمُ. وأُخْرى
تُحِبّونَها: نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَريبٌ، وَبَشِّرِ المُؤمِنين}.
وإذا كان التلميذ يدرس خوفاً من السقوط يوم الامتحان والفضيحة بين الرفاق، فإن الامتحان الأكبر أمامنا. هذا امتحانٌ غايةُ الخسارة فيه أن يضيع التلميذ سنة ثم يعود فيُصلح ما أفسد ويتدارك ما ضيّع، وذلك امتحان تُعلَن النتائج فيه على رؤوس الخلائق جميعاً فيسمعها الجن والإنس، ينادي المنادي أن لقد نجح فلان ابن فلان، فتتلقّاه ملائكة الرحمة بالرعاية والإكرام إلى دار النعيم المقيم، وقد سقط فلان ابن فلان، فتتسلمه زبانية النار بالشدة والهوان إلى دار العذاب الدائم.
هل تعرفون ما معنى «اتقوا» ؟ إنكم تقولونها دائماً وتسمعونها دائماً، وكثير منكم لا يعرف معناها. كلمة «اتّقوا» من «الوقاية»؛ يُقال: اتّقى فلانٌ البردَ بالمعطف، أي اتخذه وِقايةً منه، واتقى الفارسُ الطعنةَ بالتّرس، أي وَقَى به نفسَه. فاتقوا الله معناها: قُوا أنفسَكم من عقابه.
فبماذا نتقي عذاب الله؟
بالقرآن. ورمضان الذي أُنزل فيه القرآن أحق الشهور بتلاوته وتدبّره والإقبال عليه. وفي الحديث الصحيح المشهور: «ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتابَ الله ويَتَدارسونه بينهم إلاّ
نَزلت عليهم السَّكينةُ، وَغَشِيَتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» (1).
أفلا تحبّون أن تنزل السكينة على قلوبكم وأن تستشعروا الطمأنينة وأن تتخلصوا من الهمّ والقلق والاضطراب؟ إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه.
أوَلا تحبّون أن تغشاكم الرحمة من الله؟ ومَن غشيته رحمة الله فقد نال كل خير ونأى عنه كل ضرر وكل ألم. إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه.
أوَلا تحبّون أن يكون جلساؤكم الملائكة، هل أشرفُ من هؤلاء الجُلَساء؟ وأن يُطرَد من حولكم الشياطين: شياطين الإنس وشياطين الجن؟ إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه.
أوَلا ترون الناس يحرصون على الشهرة وعلى ذيوع الاسم؟ إن غاية ما يتمنّونه أن يعرفهم أهل الأرض. وما هذه الأرض بالنسبة إلى هذا الكون الواسع؟ والذين يتلون القرآن ويتدارسونه يعرفهم أهل الملأ الأعلى وتصل أخبارهم إلى مَن في السماوات ويذكرهم الله فيمَن عنده. أفلا تريدون أن تنالوا هذا الشرف الذي لا شرف بعده؟ إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه.
* * *
إن ليالي رمضان -يا سادة- هي مواسم الزَّرْع لِمَن أراد أن يزرع للآخرة، وهي مواسم التجارة لمن أراد الربح الباقي في الآخرة، وهي مواسم الاستعداد للامتحان لمن أراد أن ينجح في
(1) أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد (مجاهد).
الامتحان الأعظم في الآخرة.
ولكن الغافلين المساكين الذين أُصيبوا بقِصَر النّظر فلا يرون إلا ما بين أيديهم، يحسبون أن حياة الإنسان هي هذه الأيام التي يقضيها في الدنيا، ولو وضع على عينيه نظارات الشرع -لمداواة ما به من قِصَر النظر- لرأى أن الطريق أمامه طويل، وأن السفر بعيد، وأن هذه الحياة الدنيا مرحلةٌ من مراحل العمر ليست هي العمر.
إننا كركب مسافرين يقطعون ما بين المشرق والمغرب نزلوا ساعة يستريحون، فالأحمق يحسب أن الطريق انتهى، فيأكل زاده ويسّيب دابته ولا يعد العدّة للمسير، فإذا قامت القافلة ومشت تخلّف عنها أو ضلّ في البادية أو مات من الجوع. والعاقل من يعلم أن عليه أن يُريح راحلتَه ويَعْلِفها ليقطع الطريق عليها، ويوفّر زادَه ليكفيه أيام الرحلة.
وما هذه الحياة؟ ما مدتها؟ سبعون سنة، مئة سنة، مئة وخمسون؟ هل يعيش أحدٌ أكثرَ من مئة وخمسين سنة؟ وما مئة وخمسون بالنسبة إلى الآخرة؟ بل هَبوه عاش عمر نوح، قريباً من ألف سنة، فما ألف سنة؟ إنها كيوم واحد من أيام الآخرة، بل إن في الآخرة يوماً مقداره خمسون ألف سنة!
فأين نحن من ذكر الآخرة؟ لقد نسيناها وشغلتنا عنها تُرّهات الدنيا وهموم العيش والتقاتل على حطام فانٍ لا يبقى منه بعد الموت شيء. إننا نرى الأموات تمرّ بنا مواكبهُم كلَّ يوم، ولكنّا نظن أن الموت كُتِب على الناس كلهم إلا علينا، ونبصر القبور تملأ الأرض ولا نفكر أننا سننزل يوماً إلى القبر.
ولو أنّا إذا مِتْنا تُرِكنا
…
لَكانَ الموتُ راحةَ كلّ حَيِّ
ولكنّا إذا مِتنا بُعثنا
…
ونُسأَل بعدَها عن كلّ شيِّ
نتجاهل الموت وهو نازل بنا يوماً، وبعد الموت الحساب الدقيق عن كل عمل عملناه، أحصاه الله ونسوه، في كتاب لا يَدَع صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، يفاجَأ به العبد يوم القيامة، يوضع تحت عينيه يقال له:{اقْرَا كِتابَكَ، كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسيباً} .
وإذا أنكر أسكت الله لسانَه وأشهد عليه جوارحه، فشهدت اليد بما بطشت أو سرقت، والرِّجْل بما مشت إلى الحرام، والعين بما رأت من حرام، والفرج بما باشر من حرام، يرى ذلك بعينيه ويسمعه بأذنيه.
لا تعجبوا، فأنتم ترون الشريط المسجّل في الرائي (التلفزيون) وتسمعونه ينطق، يشهد بأفعالكم وأقوالكم فلا تستطيعون أن تنكروها. هذا في الدنيا ومن عمل البشر بتوفيق الله وهدايته، أفتنكرون أن تشهد عليكم الأعضاء في الآخرة وأن يُنطقها الله الذي أنطق كل شيء؟
فتعالوا نتّخذ من رمضان موسماً للرجوع إلى الله، وتعالوا نَتْلُ القرآن ونتدارسه، لعلنا نكون مع هؤلاء الذين تنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة وتحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيمَن عنده.
وإلى اللقاء كل عشية في رمضان، والسلام عليكم ورحمة الله.
* * *