المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌هل تهدي الفطرة إلى الدين

‌هل تهدي الفطرة إلى الدين

؟

نشرت سنة 1967

خطرت على بالي فكرة غريبة، هي أن أتصور في مكاني رجلاً لم يُنعم عليه الله فيُنسِله من أب مسلم وينشئه في أسرة مسلمة، وأن أتأمل وأفكر وأنظر: هل أستطيع بالحدس والعقل الاهتداء إلى الدين؟

وجربت الفكرة، فوجدت أني سأنظر إلى نفسي فأرى أني درت مع الأرض نحو ستين دورة، شهدت فيها تعاقب الصيف والشتاء وتتابع النعيم والشقاء، ورأيت فيها خيراً ورأيت شراً وذقت حلواً وذقت مراً. فما وجدت حلاوة تبقى ولا مرارة تدوم، ووجدت اللّذاذَات كلها محدودة، إذا بلغتَ غايتها ووصلت إلى حدها لم تعد اللذة لذة، ولكن صارت عادة فذهب طعمها وبطل سحرها، وصارت كالنكتة المحفوظة والحديث المعاد.

أي أنها كالسراب، تراه من بعيد ماء فإن جئته لم تجد إلا التراب. يبصر الفقير سيارة الغني تمرّ به وعمارة الغني يمر بها، فيحسب أنه يحوز الدنيا إن حاز مثلها، فإن صارت له لم يعد يشعر بالمتعة بها. ويسهر المحب يحلم بوصل الحبيب، يظن أن متع

ص: 193

الدنيا كله بحبه والأماني كلها في قربه، فإذا تزوج التي يحب ومر على الزواج سنتان اضمحلّت تلك الأماني وماتت تلك المُتَع، ولم يبقَ له منها إلا ذكراها. ويمرض المريض ويتألم، فيتصور اللذة كلها في ذهاب الألم والشفاء من المرض، فإذا عاودته الصحة ونسي أيام المرض لم يعد يرى في الصحة شيئاً من تلك اللذاذات. ويتمنى الشاب الشهرة ويفرح إن أذاعت الإذاعةُ اسمَه ونشرت الصحفُ رسمَه، فإذا هو اشتهر وصار اسمه ملء السمع وشخصه ملء البصر صارت الشهرة أمراً معتاداً.

فأيقنت أن اللذاذات المادية ضيقة المدى قريبة الحدود.

ووجدت أني سأرجع النظر إلى نفسي، فأراها تسمع الأغنية الحالمة في الليلة الساجية، قد خرجت من قلب مغن عاشق، فهزت منها حبة القلب وأطلت بها على عالم الروح. وتقرأ القصة العبقرية للأديب البارع، فتحس كأنه يمشي بها في مسارب عالم مسحور فيه مع السحر شعر وعطر، فإذا انتهت القصة رأت كأنها كانت في حلم لذيذ فتّان وصحت منه، فهي تحاول عَبَثاً أن تعود إلى لذته وفتونه.

وتعيش في لحظات التجلي، حين تصفو النفوس بالتأمل فتتخفف من أثقال المادة، فتعلو بجناحين من الصفاء والتجرد، حتى تصل إلى حيث ترى الأرض وما عليها أصغرَ من أن يُنظَر إليها لما تجد من لذة الروح التي لا تعدلها لذة الطعام للجائع، ولا لذة الوصال للمحروم، ولا لذائذ الجاه والمال للمغمور الفقير.

وإذا بالنفس تتشوق أبداً إلى هذا العالَم الروحي العلوي،

ص: 194

العالم المجهول الذي لا تعرف منه إلا هذه اللمحات التي لا تكاد تبدو لها حتى تختفي، وهذه النفحات التي لا تهبّ حتى تسكن.

وإذا أنا حين رأيت ما رأيت من أن اللذات المادية محدودة، وأن اللذات الروحية أكبر منها كبراً وأعمق في النفس أثراً، قد أيقنت -بالحدس النفسي لا بالدليل العقلي- أن هذه الحياة المادية ليست كل شيء، وأن العالم المجهول المختبئ وراء عالم المادة حقيقة قائمة، تحن إليها الأرواح وتحاول أن تطير إليها، ولكن هذا الجسد الكثيف يحجبها عنها ويمسكها عن أن تنطلق وراءها.

وهذا اليقين أولُ الطريق إلى الدين.

* * *

وأستمرُّ في هذه التجربة الفكرية.

فأجد أني قد داخلت الرجال واستكشفت الطوايا واستطلعت الأفكار، أفكار الأحياء من الناس والأموات من المؤلفين، فوجدت أن الناس جميعاً، المؤمن منهم والكافر، والناشئ في صوامع العبادة والمتربي في مخادع الفسوق، إذا ألمّت بهم مُلِمّة ضاقوا بها ذرعاً ولم يجدوا لها دفعاً لم يعوذوا منها بشيء من هذه الكائنات، وإنما يعوذون بقوة وراء هذه الكائنات: قوة عظيمة لا يرونها ولكنهم يشعرون بوجودها بأرواحهم وقلوبهم وكل عصب من أعصابهم.

كلهم ينادي في هذه الحال: «يا رب» وإن لم يكن يدري ما الربّ!

ص: 195

فأدركتُ بالحدس أن التصديق بوجود الرب المعبود عقيدة فطرية في نفس كل بشر، ولكن الأمن والصحة والمطامع والشهوات قد تلقي ستاراً عليها يخفيها ويغطيها. وهذا هو «الكفر» ، وهو في اللغة «الستر» ، ومعنى الكافر الساتر.

وجاء العقل فأيّد هذا الحدس حين رأى في كل شيء دليلاً عليه؛ في هذا العالَم وإتقانه، وهذا الجسد وعجائبه، وفي سنن الكون وأسراره التي أودعها فيه خالق الكون وأعطانا العقول وقال لنا: اكشفوا بعقولكم هذه السنن والأسرار، فسعينا حتى عرفنا بعضاً منها في عالم الكيمياء والفيزياء والطب والفلك، وفي الأرض وفي الفضاء القريب الذي يحيط بالأرض، ولم نعرف إلى اليوم إلا الأقل الأقل منها.

فآمن العقل بأن هذه الصنعة العجيبة لا تكون من غير صانع، وهذه الطبيعة لا بدّ لها من طابع، وهذا الخلق لا يكون بغير خالق.

وأن هذا الخالق لا يمكن أن يشبه المخلوقات، وإلا كان منها واحتاج -مثلها- إلى الخالق، وأنه لا يكون إلا قديماً باقياً لا أوّلَ له ولا آخر، ولا يكون إلا مفرداً واحداً لا شريكَ له ولا مثيل، ولا يكون إلا قادراً قدرة لا يُعجِزها شيء، ثم لا يكون إلا عادلاً.

* * *

ونظر العقل في هذه الدنيا فرأى بأن فيها مَن يعيش ظالماً ويموت ظالماً، وأن فيها من يعيش مظلوماً ويموت مظلوماً. والربّ العادل لا يقر الظلم ولا يدع صاحبه بغير عقاب ولا يترك من يقع

ص: 196

عليه من غير إنصاف، فأيقن العقلُ أنه لا بد من حياة أخرى يُنصَف فيها المظلوم ويُعاقَب فيها الظالم، ويكافَأ فيها المحسن ويُجازى فيها المسيء. وأن الرواية لا تنتهي بانتهاء هذه الدنيا.

ولو أنه عُرض فِلم في الرائي (التلفزيون) فقُطع من وسطه وقيل: انتهى، لما صدق أحدٌ من المشاهدين أنه انتهى ولنادَوا: ماذا جرى للبطل؟ وأين تتمة القصة؟

ذلك لأنهم ينتظرون من المؤلف أن يُتِمّ القصة ويسدّد حساب أبطالها. هذا والمؤلف بشر، فكيف يصدّق عاقل أن قصة الحياة تنتهي بالموت؟ كيف ولم يُسدَّد -بعدُ- الحساب ولا اكتملت الرواية؟

فأيقن العقل -من هنا- أن لهذا الكون رباً وأن بعد الدنيا آخرة، وأن ذاك العالَم المجهول الذي لمحت الروح ومضة من نوره في الأغنية الحالمة والقصة البارعة، واستروحت نفحة من عطره في ساعة التجلي، ليس عالَم «المُثُل» الذي كان خيالاً صاغه أفلاطون، ولكنه عالم الآخرة الذي هو «حقيقة» أبدعها خالق أفلاطون.

ورأيت أني وصلت -بعد هذا- بالحدس النفسي، ثم بالفكر العقلي، إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.

* * *

ص: 197