الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أين التائبون
؟
حديث أذيع من دمشق سنة 1959
حديث اليوم -يا أيها السادة- موعظة من شيخ وليس طرفة من أديب، فلا تنتظروا منه تسلية ومتعة بل فائدة ومنفعة، واستحضروا قلوبكم، فإن مثل هذا الحديث يُسمَع بالقلوب لا بالآذان.
إنها موعظة أخذتها من فِلم، فلا تعجبوا من موعظة تكون في الأفلام، فإن القلب قد يصحو صحوة فيرى الموعظة في لوحة الرائي ونكتة المهرج، وقد يغفل فلا يراها في حلقة الواعظ أو مسجده. وقديماً رووا أن رجلاً صالحاً كان يفكر في الله دائماً، فسمع بياع الصّعتر ينادي:«يا سعتر برّي» ، فسمعها «اسعَ تَرَ برّي» فأغمي عليه.
كانوا يعرضون جريدة الأخبار المصوَّرة وفيها مشاهد من الامتحان، حيث التلاميذ الصغار يقعدون مفكّرين أقلامُهم في أيديهم وعيونهم في أوراقهم، فمَن كان عارفاً الجوابَ أسرع في الكتابة باسماً، ومن كان ناسياً نظر عابساً، ومن كان جاهلاً أطرق حزيناً أو بكى يائساً. وظهر في الصورة ولدٌ ألقى نظرة من عينيه يسرق بهما من ورقة جاره فجاء المدرس فأمسكه.
وضحك بعض الحاضرين من هذا المشهد، ولكني لم أضحك. رأوه بعين اللاهي ورأيته بنظر الجادّ، لأني كنت في لحظة من هذه اللحظات المفاجئة التي يتفطّر فيها القلب وتتفتح النفس. ولست أدّعي الصلاح، وما وجدت في عمري كله إلا قليلاً من هذه اللحظات كانت هذه واحدة منها.
تصورتُ هذا التلميذ المسكين وقد ألقى نظرة ظنّ أنه لا يراها أحدٌ وإنما تمرّ وتُنسَى، فجاءت الآلة فسجّلتها وأعلنتها وعرضتها على الناس، فافتُضح بها ولم يعد يستطيع إنكارها. وقلت في نفسي: إذا كان هذا كله من عمل آلة بشرية سجّلت هذه الخطيئة وأبقتها دائماً، فكيف الحال والمَلَكان يسجّلان عليّ كل صغيرة وكبيرة أعملها؟ أحسب أني قد نجوت ولم يرَني أحدٌ كما حسب هذا التلميذ المسكين أن نظرته مرّت لم يَرَها المراقب، لا أدري أن كل صغيرة وكبيرة عملتها قد سُجِّلت في الشريط الخالد، شريط المَلَكين!
كل كلمةٍ بشرٍّ زلَّ بها لساني، وكل نظرة إلى عورة نظرَتها عيني، وكل خطوة إلى حرام خطَتها رجلي، وكل حركة بظلم تحركتها يدي، كله قد سُجِّل وحُفظ في هذا الشريط، وكل لقمة حرام أكلتها وكل قرش حرام أخذته. وسيعرض هذا الشريط لا في فِلم يراه ألوفٌ من الناس ثم ينسونه، بل هو سيعرض على الخلائق كلهم، من كان منهم في أيامنا ومن كان قبلُ أو يكون بعدُ، من عهد آدم إلى آخر الزمان يجمعهم الله جميعاً، وهنالك الفضيحة الكبرى لا فضيحة التلميذ سرق بنظره كلمة من ورقة جاره. الفضيحة على رؤوس الأشهاد جميعاً، وإذا أنا أنكرت (وأنّى لي الإنكار؟)
أُجبرتُ على تمثيل خطيئتي من جديد كما يمثّل المتهم جرمه أمام المحقق، فتحكي يدي ما كان من ذنب أنكرتُه بلساني، وتنطق رجلي ويشهد عليّ جلدي!
* * *
إن التلاميذ اليوم يخشون هذا الامتحان، مع أن الراسب فيه يعيد الدورة أو يُرَدّ إلى صفه فيخسر سنة من عمره. فما بال ذلك الامتحان، الامتحان الأكبر يوم القيامة، وليس فيه دورة ثانية ولا يُرَدّ مَن يرسب فيه إلى الدنيا ليعيد التجربة، وليس فيه خسارة سنة ولا سنوات ولكن فيه ربح الأبد أو خسارة الأبد، فيه النعيم الخالد أو الشقاء الخالد، فيه الجنة أو جهنم؟
إن نار الدنيا إذا قيست بنار جهنم كانت نعمة، ونحن مع ذلك لا نستطيع أن نتحمل عذابها. من يقدر أن يجلس ربع ساعة على الموقدة المشتعلة المحمرّة؟ فكيف نلقي بأنفسنا في نار جهنم؟!
إن أكثركم إذ يسمع ذكر الآخرة يُعرِض عنه أو يسخر بقائله، لأن أفكاركم مشغولة بحوادث يومكم وعمل ساعتكم. إن منكم من يسمع هذا الحديث وهو على موعد قد استعدّ للذهاب إليه أو شغل يهمّ بقضائه، ومن يضع الرادّ إلى جنب السرير يستجلب بسماعه النوم إلى أجفانه، هذا كل ما يريده منه، أما أمر الآخرة فلا يباليه ولا يفكر فيه، كأننا خالدون في الدنيا وكأن الموت ما نزل بأحد حتى ينزل بنا.
كنت مرة في زيارة صديق لي، وكان مريضاً مرضاً عارضاً
فهو قاعد في فراشه، وكان عنده ولده وهو يسأله شيئاً من المال فلا يعطيه مع أن عنده من الأموال ما لا تأكله النيران، وتطاول الولد عليه وهو يردّه ويأبى عليه القليل، وكان يتكلم فشَرِقَ بريقه فوقف في وسط الجملة، وانتظرنا أن يكملها فما أكملها، وطالت السكتة فمسَسْناه فإذا هو قد مات!
ونظرتُ مفكراً وسألت نفسي: ما الموت وما الحياة؟ إن الرجل لا يزال أمامنا كما كان، ما تبدل منه شيء ولا نقص منه شيء، ولكنه مات. كان المال له يمنعه الولد، فغدا في نصف ثانية من الزمان غريباً عنه لا يملك منه شيئاً وصار المال كله للولد، ما أخذ منه شيئاً ولا حمل معه منه قليلاً ولا كثيراً، فلماذا كان يحرص عليه ويبخل به؟
إنه ما أخذ معه إلا عمله، فلماذا نتمسك بما لا ينفع ونترك النافع؟
إذا كنتَ على سفر بالطيارة وكنت لا تستطيع أن تحمل معك إلا حقيبة واحدة، وكان عندك جواهر غالية أو أموال وعندك قناطير مقنطرة من الحطب، وكنت لا تدري متى تدعى للسفر، فهل تلبس وتُعِدّ حقيبتك وتلمؤها بالمال والجواهر، أم أنك تقعد من غير استعداد، لا تلبس ثيابك ولا تعد حقيبتك وإنما تحرس الحطب حتى لا تذهب منه حطبة؟
إن كل ما في الدنيا من متاع ولذة ومال كَوْمة حطب لا تقدر أن تحمل معك منه شيئاً، وعملك الصالح هو الجواهر التي تحملها أو تنتفع في سفرك إلى الآخرة بها.
وقلت لنفسي: يا رجل، مهما عشتَ فإنك ميت، وإنك واقف للحساب، وسيُعرَض الشريط الذي سَجّل عليك كلَّ حركة وكل لفظة وكل صغيرة وكل كبيرة، حتى ما نسيته أنت ولم تعد تذكره، وستكون فضيحتك على رؤوس الأشهاد كما افتُضح الصبي المسكين الذي سرق بعينه من ورقة جاره. فماذا أعددت لهذا اليوم؟
وامتلأت نفسي رهبة وخوفاً، وتصورت ذنوبي التي لا تُعَدّ ولا تُحصى: ما أصنع بها؟ ثم وجدت الخلاص؛ وجدت وسيلة إلى محو هذا الشريط بكل ما فيه. فهل تحبون أن أدلكم عليها؟
إنها طريقة سهلة تَضطرون بها الملكين إلى محو كل ما سجّلا عليكم من ذنوب؛ هي التوبة.
التوبة -يا أيها الناس- هي التي تمحو الذنوب حتى كأنها لم تكن، بل لقد تكون التوبة حسنة من الحسنات، فلا تتخلصون بها من الذنوب فقط بل يكون لكم منها مكانَ السيئات حسنات. وليس في الذنوب ما لا تمحوه التوبة:{قُلْ يَا عِبادِيَ الذينَ أسْرَفُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله، إنّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنوبَ جَميعاً} .
* * *
فيا أيها العصاة المذنبون (وأنا والله واحد منكم): هل يقدر أحدٌ أن يحارب الله؟ هل يقدر أحد أن يهرب من لقاء الله؟ هل يقدر أحد أن يخلد في الدنيا؟ مهما نال من القوة والسلطان لا بد أن ينزل في هذه الحفرة وحده، لا ينزل معه والد ولا ولد ولا زوجة
ولا إخوة، كلهم يتركهم ويعود فيبقى في القبر وحده، ويَقْدُم على الله وحده ويقوم في الحساب وحده.
فهل لكم طاقة بحساب الله؟ فلماذا إذن لا تستفيدون من هذا العفو العام؟
ولا يقل أحد: إن ذنوبي كثيرة. أما سمعتم في الحديث الصحيح قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين رجلاً ثم أراد أن يتوب، فسأل راهباً جاهلاً: هل لي من توبة؟ قال: لا. فقتله فكمل به المئة. ثم سأل عالماً: هل لي من توبة. قال: نعم. وتاب وذهب ليعبد الله في بلد آخر، فمات على الطريق، فاختلفت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب؛ هؤلاء يقولون: مات تائباً، وهؤلاء يقولون: ما عمل خيراً قط. فأرسل الله مَلَكاً على هيئة رجل فقال: قيسوا الأرضين فإلى أيهما كان أقرب كان لها. وأمر الله الأرض التي قَتَل فيها أن تبتعد والأرض التي يريدها أن تقترب، فقاسوا فوجدوه أقرب إلى أرض التوبة فغُفر له.
* * *
وهذا شهر رمضان أوشك أن يولي، فصفّوا حسابكم مع الله لتخرجوا من رمضان بصحف بيض ونفوس زكية، وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً.
وللتوبة شروط يا أيها الإخوة. أولها: أن تترك الذنب الذي تتوب منه، فمَن تاب من ذنب وهو لا يزال مقيماً عليه كان كالمستهزئ بربه والعياذ بالله. وثانيها: أن تندم على الماضي وتعزم عزماً أكيداً على أن لا تعود إليه أبداً. هذا في حقوق الله، أما في
حقوق الناس فلا بدّ من أن تُرجِع الحقوق لأصحابها أو يسامحوك بها، فلا يكفي أن تتوب منها وأنت لم ترجعها.
وقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: المفلس (أي المفلس الحقيقي) من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار (1).
وهذا سيد الاستغفار: جاء في الحديث الصحيح أن من وفّى حقوقَ الناس وقاله من نهاره موقناً به فمات في هذا النهار كان من أهل الجنة ومن قاله من ليلته موقناً به فمات في هذه الليلة دخل الجنة، وهو:«اللهمَّ أنت ربي لا إله إلا أنت، أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» (2).
* * *
يا أيها السامعون، لو أن الحكومة نشرت بياناً تقول فيه إنها تسامح كل مكلَّف بضريبة لم يؤدِّها بشرط أن يقدم طلباً بذلك،
(1) أخرجه مسلم والترمذي وأحمد (مجاهد).
(2)
سماه النبي صلى الله عليه وسلم «سيد الاستغفار» في حديث شدّاد بن أوس الذي أخرجه البخاري وأحمد وأصحاب السنن (مجاهد).
وكان عليك ضرائب كثيرة لم تدفعها، ألا تقدّم هذا الطلب لتتخلص منها؟
هذا بيان من رب الأرباب يقول: {يَا عِبادِيَ الذينَ أسْرَفُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله، إنّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنوبَ جَميعاً، إنّهُ هُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ. وأَنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِموا لَهُ مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَكُمُ العَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُون} . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يبسُط يدَه بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها» (1).
الله يدعوكم لتتوبوا إليه في كل يوم وليلة، فأين التائبون المستغفرون؟
* * *
(1) أخرجه مسلم وأحمد (مجاهد).