المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌جواب على سؤال

‌جواب على سؤال

حديث أذيع سنة 1972

[ورد عليّ سؤال طويل من رجل يقول إنه متدين لكنه قليل العلم، وهو يخالط مسلمين غير ملتزمين وأشخاصاً غير مسلمين فيطرحون عليه من الأسئلة ما يجعله في حيرة، ويقول إنه يخشى أن لا يقف الأمر عند عجزه عن الجواب بل أن يهتز إيمانه، ويسأل: لماذا وضع الله الغريزة في الإنسان ثم يحاسبه على الاستجابة لبواعثها؟ ويريد جواباً عقلياً يقنع من لا يؤمن بالدين لا جواباً من القرآن.]

لو أن لهذا السائل سيّارة وسمع بسباق عالمي للسيارات للمُجلّي فيه (أي الفائز) جائزة كبيرة، هل يُقْدِم على دخوله رأساً أم ينظر أولاً في سيارته: ما هي أقصى سرعة لها؟ وينظر إلى نفسه: ما مدى خبرته بسَوْق السيارات؟ فإن وجد أن غاية سرعة سيارته مئتا كيل في الساعة وأن سيارات السباق تصل سرعتها إلى ثلاثمئة أو أكثر، أو وجد أن مهارته في السَّوْق لا تصل إلى ما يستلزمه السباق من مهارة، فإنه يمتنع حتماً عن دخوله.

ص: 181

فلنطبق هذا المبدأ الصحيح على سؤاله الذي يطلب مني جواباً عقلياً عليه ليقنع به مناظريه الذين لا يؤمنون بالقرآن إذا ناظرهم به، ولننظر ما مدى طاقة العقل الذي نصل به إلى الجواب كما نصل بالسيارة إلى نهاية السباق. هل طاقته مطلقة أم هي محدودة؟ وإن كانت محدودة فما حدّها؟

ثم لننظر إلى ثقافة مناظريه هؤلاء، هل لهم دراسات ومعارف فلسفية تؤهّلهم لخوض هذا البحر أم هم يناظرون من غير هذه المعارف؟ فإن كانوا مطّلعين على مذاهب الفلاسفة أو قرؤوا على الأقل كتابَي أكبر فيلسوف عقلاني (راسْيونالِسْت) في العصر الحديث، عمانويل كانط، وهما «نقد العقل المجرد» و «نقد العقل العلمي» ، أو لو نظروا إلى مباحث علماء الكلام وفلاسفة الإسلام، لا سيما كتاب «شرح المواقف» للسيد (أو لو رجعوا على أدنى الدرجات إلى كتابي «تعريف عام بدين الإسلام») إذن لرأوا أن من المقرَّر الذي لم يبقَ فيه شك أن حكم العقل قاصر على عالم المادة (أي الفيزيك)، فإن وصل إلى حدود ما وراء المادة (الميتافيزيك) ضلّ وعجز ولم يبقَ له عمل أصلاً. لذلك كان العلم (أقصد ما يقال له «سيانْس») مشاهَدة، ثم فَرَضية أو نظرية، فتجرِبة، فالوصول إلى الحقيقة العلمية، أي القانون الطبيعي. فإن جاوز ذلك وقف وصار العمل من هنا للفلسفة، ومعروف أن بحوث الفلسفة فيما وراء المادة -من عهد أفلاطون إلى عهد هنري برجسون- لم تَنْجَلِ يوماً عن حقيقة علمية، أي قانون كقوانين الكيمياء أو الفيزياء، وإنما هي افتراضات واحتمالات.

فالجواب العقلي إذن على سؤال من عالم الميتافيزيك، فضلاً

ص: 182

عن سؤال يتعلق بالله جل جلاله، مستحيل. مستحيل مثل استحالة دخول سباق ثلاثمئة كيل في الساعة بسيارة جعل المصنعُ الذي صنعها سرعتَها القصوى مئتَي كيل فقط.

* * *

والمعارف البشرية لها منبعان: منبع كَسْبيّ، وهو قاصر على عالم المادة. ومنبع عَينيّ، أي أنه آتٍ من خارج النفس وخارج العقل، من الوحي، وهو المنبع الوحيد لمعارفنا عن عالم الغيب (الميتافيزيك).

وفي القرآن، وهو المنبع العيني، جواب سؤال الأخ السائل. ولكنه يقول إن الذين يناظرونه لا يؤمنون به، وأنا أقول: لماذا لا نقنعهم أولاً بأن يؤمنوا به؟ كيف؟ أرجو أن يتكرم بقراءة كتابي «تعريف عام بدين الإسلام» ، ثم يسألني بعد قراءته «كيف؟» إذا وجد بعد قراءته ما يدعو لهذا السؤال.

إن كل ما في الكون من كواكب ونجوم وحيوان ونبات يمشي على الطريق الذي رسمه الله، فلا الشمس تستطيع أن تقترب إصبعاً من الأرض أو تبتعد عنها، ولا الأرض تقدر أن تزيد سرعتها أو تنقص منها، ولا تملك ذرة الأكسجين أن تتحد مع أكثر من ذرتين من الهيدروجين، ولا يستطيع معدن أن يبدّل وزنه النوعي

كل ما في الكون مسيَّر مجبَر، حتى الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمَرون.

المخلوق الوحيد الذي أُعطي «اختياراً» ، فهو يستطيع أن يطيع أو يعصي ويصلح أو يفسد، وكانت حياته هذه اختياراً بين

ص: 183

اتّباع شهوته أو امتثال أمر ربه، لذلك كان مستحقاً للمثوبة إن أصلح والعقوبة إن أفسد، هذا المخلوق هو الإنسان (1).

لماذا انفرد وحده بهذا؟ لأنه هو الذي اختار ذلك. مَن قال إن الإنسان خُيِّر فاختار؟ الله هو الذي قال، قال:{إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ (وهذه هي الأمانة) على السّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ فأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنها وَحَمَلها الإنسانُ} .

قد يقول الأخ السائل: إني لا أعرف متى كان ذلك ولا أذكره. صحيح، ولا أنا؛ أنا أيضاً لا أذكره. وأزيدك شيئاً قد لا تصدقه وقد تعجب منه: أنا أجهل أكبر حادث في حياتي ولا أذكر والله شيئاً عنه، هو ولادتي! صدِّق أنّي لا أذكر يومَ ولادتي ولا وجه القابلة التي أخرجتني إلى الدنيا! بل إن مرحلة مهمة من حياتي نسيتها كلها، هي المرحلة التي كنت فيها جَنيناً في بطن أمي. أقسم لك أني لا أتذكر عنها شيئاً!

والسؤال هو: هل يحق لي أن أنكرها لأني لا أذكرها؟ لقد صدّقتُ بها لأن الذين خبّروني خبَرَها كانوا صادقين. أفلا نصدّق بما أخبر به رب العالمين؟

وما دامت الحياة اختباراً، ابتلاءً، امتحاناً كامتحان المدرسة،

(1) والجن أيضاً مكلَّفون كالإنس، لكنه قصد هنا المخلوقات المألوفة التي نراها ونعيش معها. انظر فصل «الإيمان بالملائكة والجن» في كتاب «تعريف عام بدين الإسلام» ، وفيه:"والجن مكلَّفون مثلنا، يحاسَبون على أعمالهم كما نحاسَب ويثابون ويعاقَبون كما نُثاب نحن ونعاقَب"(مجاهد).

ص: 184

أفلا ترى -يا أخي السائل- أن سؤالك كسؤال الطالب: لماذا لا يعطوننا أسئلة الامتحان من أول يوم في السنة؟ لو أعطوك أسئلة الامتحان من أول السنة لما عاد امتحاناً! (1)

ولو سألتك: لماذا وُجدنا في هذا العصر ولم نوجَد في عصر النبوة؟ لماذا لم أكن أنا ابن شيخ الإسلام أو ابن مليونير؟ لماذا كنت متوسط القامة ولم أكن طويلاً؟ وألف سؤال مثل هذه الأسئلة، لا تستطيع جواباً على واحد منها.

إذن في الوجود أمورٌ صُنعت رغماً عنّا ولم نعرف سببها ولا علّتها، وموضوع سؤالك واحد منها. فإذا عرفتَ تعليل كل موجود مشاهَد ولم يبقَ إلا هذا فسوف نستأنف الحديث.

قد تقولون لي: إنك ما أجبت. نعم؛ ما أجبت لأن الجواب غير ممكن، مستحيل. مستحيل لأن العقل لا عمل له في عالم ما وراء المادة، ولأن الوحي لم ينزل بجواب السؤال، فكيف أجيب على سؤالٍ العقلُ لا يدرك جوابَه والوحيُ ما وضّحه؟ هل أقدر على تحقيق المستحيل؟

* * *

(1) انظر في كتاب «تعريف عام بدين الإسلام» موضوع «شبهة وردّها» ، وهو في فصل «الإيمان بالملائكة والجن» (مجاهد).

ص: 185