المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌النية الصالحة أصل كل خير

‌النية الصالحة أصل كل خير

نشرت سنة 1959

يستطيع المسلم أن يتزوج ويشتغل ويخوض غمرات الحياة ويجاهد ويناضل، ويكون مع ذلك زاهداً ويكون متعبداً ويكون عمله كله لله، وذلك بتصحيح النية.

بالنية يقدر المسلم أن يكون مع الله من غير أن يهجر الزوجة أو يترك العمل أو يعيش في صومعة منفردة أو مغارة منقطعة، وبالنية يكون طعامه وشرابه واستمتاعه بملذات الجسد عبادة كالصلاة والصيام، ويكون إنفاقه على زوجته وأولاده صدقة كالتصدق على الفقراء والمساكين.

فإذا نويت بالطعام التقوّي على طاعة الله، ونويت بالنكاح الاستعفاف عن الزنا، ونويت بالعمل الاستغناء عن الحرام، ونويت الصبر على كل مزعج في الحياة امتثالاً لأمر الله ورضا بقضائه، كان لك بكل ذلك حسنة.

النية روح العمل، والعمل بلا نية جسم بلا روح.

ولقد هاجر المسلمون الأولون من مكة فتكبدوا مشاقّ الرحلة

ص: 207

وفراق الوطن والبعد عن الأهل، وكانوا سواء في ذلك، ولكن لم يكونوا سواء في المثوبة والأجر؛ لأن من هاجر هرباً بدينه ونصرة لنبيه وابتغاء لرضا الله فهو المهاجر، أما من هاجر ليتزوج امرأة في المدينة أو ينال ربحاً أو يصيب مالاً فهجرته للمرأة وللربح.

قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (1).

وكذلك الحج؛ يحج كل سنة مئات ومئات من ألوف الناس، فمَن حج امتثالاً لأمر الله ورغبة في ثوابه فهذا هو الحاج، ومن أراد التجارة وحمل معه البضائع أو قصد التفرّج برؤية البلدان فإنه لم يحج، ولكن تاجر وساح.

* * *

ومن نعم الله ومظاهر رحمته أنه جعل نية الخير حَسَنة، ونية الشر إن لم يحققها العبد بالفعل حسنة أيضاً؛ قال صلى الله عليه وسلم:«إن الله كتب الحسنات والسيئات، فمن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، وإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمئة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ومن همَّ بسيّئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، وإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة» (2). فإن نويت أن تتصدق بليرة ولم تفعل

(1) أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه (مجاهد).

(2)

أخرجه الشيخان (مجاهد).

ص: 208

سُجّل لك في دفتر المَلَكين ليرةٌ لحسابك تلقاها يوم القيامة، فإن تصدقت بها كُتِبت في حسابك عشرَ ليرات أو سبعمئة ليرة أو أكثر من ذلك، وليس على عطاء الله حساب.

حتى الأعمال العادية تكون بالنية قربات وطاعات؛ روى سعد بن أبي وقّاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرتَ عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك» (1)؛ أي حتى ما تطعمه امرأتك وأولادك إن قصدت به وجه الله كان لك به أجر.

وفي الحديث: «يا رسول الله، أيأتي أحدنا أهله (أي يقارب زوجته) ويكون له ثواب؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام؟» (2)؛ أي كما أن الاجتماع الجنسي المحرم عليه العقاب فالاجتماع المشروع -إن كان بنيّة- كان معه الثواب.

والنية ليست تظاهراً وقولاً باللسان، كمَن يرفع صوته في

(1) أخرجه البخاري ومالك في الموطأ (مجاهد).

(2)

في حديث أبي ذرّ أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلّون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. قال:«أوَليس قد جعل الله لكم ما تَصَدّقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضْع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً» أخرجه مسلم (مجاهد).

ص: 209

المسجد ليقول للناس: تعالوا انظروا إلى صلاحي وتقواي، يصيح: نويت أن أصلي لله تعالى أربع ركعات فرض صلاة الظهر، مستقبلاً الكعبة الشريفة، مخلصاً وجهي لله، الله أكبر!

كلا، بل النية هي العزم القلبي. هل يقول أحد منكم:"نويت أن أنهض عن فراشي فألبس ثيابي وآكل فطوري وأذهب إلى عملي"؟ وإن رأى صديقاً فأسرع للسلام عليه هل يقول: "نويت أن أبشّ وجهي وأمدّ يدي وأقول: السلام عليك يا صديقي"؟ لا، وليس للظواهر في الإسلام قيمة، إن القيمة للقلب؛ جاء في الحديث:«التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا» ، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى قلبه (1).

الدين المعاملة، والتقوى بإتيان الطاعات واجتناب المحرمات ومراقبة الله دائماً وإخلاص النية لله في كل عمل، ولقد قال عليّ رضي الله عنه: إن أصدق الزهد إخفاء الزهد.

ولا يقبل الله من الأعمال إلا ما خلص له. روى أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ قال:«مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (2).

وروى مسلم عن أبي هريرة أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يُقضَى يوم القيامة عليه رجل استُشهد فأتُي به فعرّفه نِعَمه عليه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت

(1) من حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم والترمذي (مجاهد).

(2)

أخرجه الشيخان وأصحاب السنن وأحمد (مجاهد).

ص: 210

فيك حتى استُشهدتُ. قال: كذبت، ولكن قاتلت ليقال جريء، فقد قيل. ثم أمر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقِيَ في النار. ورجل تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرّفه نِعَمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرّفه نِعَمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال ما تركت من سبيل تحب أن يُنفَق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جَواد، فقد قيل. ثم أمر به فسُحِب على وجهه ثم ألقي في النار» (1).

فيا أيها الإخوان، الخطوة الثانية بعد التوبة هي تصحيح النية، وإخلاص العمل لله، وأن تذكروا دائماً أن النية تجعل أعمالكم كلها عبادة تثابون عليها.

* * *

(1) أخرجه مسلم والنسائي وأحمد (مجاهد).

ص: 211