الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رحلة الحج
نشرت سنة 1966
يا عازمين على الحج، يا من يَشُدّ الرحال ويُعِدُّ الأحمال، ليصل إلى فناء الحرم ويقوم عند المُلتزَم ويشرب من ماء زمزم.
قفوا قليلاً فاستمعوا مني كلمة، ثم امضوا على بركة الله. إنكم ما حملتم مشاق السفر ولا رضيتم بفراق الأهل ولا أنفقتم هذا المال، إلا ابتغاء ثواب الله وادّخاراً من الحسنات ليوم الحساب. فهل علمتم قبل أن تمشوا أن الحج حَجّان: حج مبرور وردت الأحاديث الصحاح بأنه ليس له ثواب إلا الجنة وأن صاحبه يرجع منه كيوم ولدته أمه، وحج ما فيه إلا إنفاق المال وإرهاق الجسد وفراق العيال؟
فماذا تعملون ليرفع الله حجكم إليه ولا يرده عليكم فيضرب به وجوهكم؟ أنا أقول لكم. هل ترتفع الطيارة إذا أثقلتها بالحديد وحمّلتها أضعاف ما تطيق ثم ربطتها بحبال الفولاذ إلى صخور الجبل؟ إنها لا ترتفع إلا إذا خففت أحمالها وقطعت عنها حبالها؛ وكذلك الأعمال.
فإذا أردتم أن يصعد حجّكم فخفّفوا عن عواتقكم أثقال
الذنوب، واقطعوا الحبال التي توثقكم بأرض الشهوات أو حلّوها. فاقعد يا أخي الحاج وحدك، واحصر فكرك قبل أن تخطو أول خطوة في طريق الحج، وحاسب نفسك، وانظر في حياتك في بيتك، وصلاتك بأهلك، وروابطك بأصحابك، وسلوكك في وظيفتك أو تجارتك، وفي مصادر ثروتك وطرق إنفاقك؛ فكر فيها كلها وقِسْها بمقياس الشرع، فما وجدتَه منها محرَّماً فتُبْ منه واستسمح أصحابَه قبل أن تمضي إلى الحج.
انظر: هل أنت تاركٌ لفريضة من الفرائض؟ هل أنت مرتكبٌ لمحرّم من المحرمات؟ هل أسأت رعاية من استرعاك الله أمره من أهلك وولدك؟ هل أنت ظالم لزوجتك قد كرَّهت إليها بسوء معاملتك عيشها، أو أنت منقاد إليها تتبع رغباتها التي تغضب ربها؟ هل رضيت بترك أولادك الصلاة؟ هل وضعتهم في مدارس غير المسلمين؟ هل أكلت مال أحد أو تعديت عليه؟ هل لأحد في ذمتك دَين لم تقضِه أو حق لم تسدّده؟ هل تقصر في عمل الوظيفة إن كنت موظفاً؟ هل تأخذ الرشوة؟ هل تعامل الناس بالربا إن كنت تاجراً؟ هل تعقد عقوداً مخالفة للشرع؟
انظر في هذا كله وأمثاله فتُبْ منه. وليس يكفي أن تعزم على ترك الذنب بقلبك أو أن تعلنه بلسانك، بل أن تتخذ الأسباب لذلك. فإن كنت تتعامل بالربا وأردت أن تتوب منه وألاّ تعود إليه، فصَفِّ حساب عملائه واقطع صِلاتك بهم، وخذ رأس مالك ودع موارد الربا. ولا يغرُرْك أن الربا سُمّي بالفائدة، فلقد ورد أن الناس في آخر الزمان يسمون المحرمات بغير أسمائها ليستحلّوها.
وإن كنت تتكسب من عمل محرَّم، كأن تكون عاملاً في ناد يسقي الخمر ويجمع الجنسين، أو في مصرف يرابي وأنت تشتغل فيه كاتباً للربا، أو كنت في مؤسسة أو مصلحة تنشر الإلحاد أو تؤذي المسلمين، وأردت أن تتوب، ففتش لنفسك عن عمل آخر، وإلاّ لم تنفعك توبتك عنه وأنت ملازم له. واعلم أن الله هو الرزاق، وأن من يتّقِ الله (لا مَن يعصِ الله) يجعَلْ له مخرجاً ويرزُقْهُ من حيث لا يحتسب.
وكذلك الحال في كل محرَّم.
ثم تدبّر أمورك وأمور عيالك في غيبتك، لتريحَ بالك منها فلا تفكرَ فيها وأنت في الحج. فتعطي أهلك من النفقة ما يكفيهم في غيابك، وتوكل بهم من يقوم بأمرهم إلى حين عودتك، وتعهد بعملك إلى من تثق به وتعتمد بعد الله عليه.
واعلم يا أخي الحاج أن الحج غسل للقلب من أوضار الذنوب، فهل يغسل أحدٌ جسده من الأوساخ بالماء الوسخ؟ فكيف إذن تبغي أن تتخلص بالحج من تبعات الحرام إذا كان حجك بمال حرام؟ إن الله طيّب لا يقبل إلا طيباً؛ فليكن أول ما تصنعه أن تعدّ لنفقات حجك مالاً حلالاً.
لا أريد بالمال الحلال أن يكون خالياً من كل شبهة، فلقد ذكر العلماء من قرون طِوال أن ذلك كان كالمتعذر في أزمانهم، فكيف بزماننا؟ ولكن أريد ألاّ يكون المال الذي أعددته للحج مالاً ظاهر الحرمة، كأن يكون مغصوباً أو متحصَّلاً من الربا أو من مهنة يحرمها الشرع كالاتّجار بالخمر أو زراعة الحشيش أو نشر
الكتب والمجلات المفسدة للدين وللأخلاق. المال الحرام ردّوه إلى أصحابه الذين أخذ منهم ظلماً، فهذا أفضل من الحج، ثم إن وجدتم بعد ذلك ما تحجون به من المال الحلال، وإلا فانتظروا حتى يبعثه الله إليكم فتحجوا.
ومن كان منكم موسِراً فليحمل معه ما يزيد عن نفقات حجه ونفقات أهله في غيابه، ولْيَنْوِ بذلك مساعدة المحتاج وإسعاف المنقطع، لا يوزعه على الشحّادين الذين اتخذوا السؤال حرفة ولعل فيهم من هو غني، بل يعطي من يثق بحاجته، ومن يكون عفيفاً فيظنه الناس من عفته وإبائه غنياً وهو في أشد الفقر. أمثال هؤلاء فأعطوهم، وإذا لم تعرفوهم فاسألوا عنهم من تثقون به من أفاضل أهل الحرمين.
* * *
واعلموا أن على ألسنة الناس أقوالاً سائرة يلقونها لا يفكرون بمعناها، وكأنها من كثرة الترداد قد صارت ألفاظاً بلا معان، وهي ثمرة تجارب بشرية طويلة. منها قولهم:«الرفيق قبل الطريق» . وأَولى سفرة باختيار الرفيق الصالح سفرة الحج، ورُبّ رفيق حججتَ معه فاستفدت من علمه واسترحت إلى حِلمه واطمأننت إلى أمانته، ورب رفيق نغّص عليك حجتك وأضاع عليك ثوابك.
رفيق يجعل الحج مردوداً مرفوضاً، ورفيق يجعله مبروراً مقبولاً. فاختر لك رفيقاً عالماً بالمناسك، فإن لم تجد فخذ كتاباً من كتب المناسك لعالم موثوق به، ولا تركن إلى هذه الكتب التي يؤلفها من ليسوا بعلماء ولو رأيت الإعلان عنها والدعوة إليها،
فإن فيها خطأ كثيراً. ولا تأخذ كلام المطوِّفين قضيةً مسلَّمة، فإن أكثرهم من غير العلماء. ولا تقبل من كل من يتكلم في العلم، فربما تكلم في العلم في زماننا وتصدّر للإفتاء من ليس بعالم ولا بطالب علم.
فإذا أعددتم المال الحلال وانتقيتم الرفيق الصالح، وتبتم من ذنوبكم وأدّيتم الحقوق التي عليكم، فأخْلُوا أذهانَكم من هموم العيش وخلّفوها وراءكم، وفرّغوا قلوبكم ما استطعتم لربكم، فإنكم تفكرون في الدنيا العمرَ كله ففكروا في الآخرة هذه الأيام فقط، وتعملون طولَ حياتكم لما لا ينفعكم بعد موتكم، فاعملوا هذه الأيام فقط لما يبقى لكم ويفيدكم يوم العرض على ربكم.
* * *
يا إخوتي الحجاج، إنكم تقومون للصلاة، تنظرون إلى مسير الشمس في النهار وتبحثون عن نجم القطب في الليل، وتضعون البوصلة أمامكم وتستحضرون موقع البلد في أذهانكم، لتعرفوا أين الكعبة فتجعلوها قبلتكم في صلاتكم، وبينكم وبينها الأبعاد والآماد وبينكم وبينها الصحارى والبحار والجبال والأنهار، لا يمنعكم بعدها ولا تصدّكم العوائق دونها عن أن تتوجهوا إليها بأجسادكم وقلوبكم، وأن تتصوروها على الغيبة وتحنّوا إليها على البعد، فها أنتم هؤلاء تمشون إليها كما يمشي المحبّ إلى لقاء المحبوب ودونه الحجب والأستار، فكلما جُزتم إليها بادية أو ركبتم بحراً رُفع لكم من دونها حجاب، وكلما دنوتم منها شبراً رُفع لكم ستر، حتى وصلتم إلى «المواقيت» .
هذه مواقيت الحرم يا حُجّاج فقفوا؛ هذه أعتاب ديار المحبوب، هذه مشارف بيت المَليك. إن من يدخل حضرة ملك من ملوك الدنيا يلبس للمقابلة لباسها الرسمي، وهذه أبواب حضرة ملك الملوك، رب العالمين، فاخلعوا عن أجسادكم ثياب الدنيا والبسوا للنسك لباسه الرسمي.
البسوا ثياب الإحرام التي لا يمتاز فيها غني عن فقير ولا أمير من أجير، وانزعوا معها حب الدنيا، وانزعوا مشاغلها ومشكلاتها عن قلوبكم، واغسلوا بالماء أجسادكم، واغسلوا بتجديد التوبة نفوسكم، وانووا إمّا الحجَّ وحده. وإما العمرةَ والحجّ مقرونَين؛ فتدخلون بالعمرة فتطوفون وتسعَون وتبقون محرمين إلى انتهاء أعمال الحج. وإما العمرة وحدها، فإذا أكملتم مناسكها (أي طفتم وسعيتم) حلقتم ولبستم ثيابكم وحَلَلْتُم، ثم أحرمتم بالحج يوم الحج. الأول هو «الإفراد» ، والثاني «القِران» ، والثالث «التَمَتُّع» ، وكل ما تنوون حسن، وكلٌّ من الثلاثة هو الأفضل في أحد المذاهب، وإن كان التمتّع هو آخر ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل به أولى.
* * *
ثم أصغوا تسمعوا صوت الشرع في قلوبكم يأمركم بالتوحيد وإخلاص العبادة لله، واتّباع سبل الخير والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. اسمعوا أوامر الله في آيات كتابه وأقوال نبيه، فإذا تمثّلت لأذهانكم فأجيبوا بألسنتكم وبقلوبكم: لَبّيْكَ اللهُمَّ لبّيكَ، لبّيكَ لا شريك لك لبيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلْكَ، لا شريك لك.
لبيك؛ أمرتنا فأطعنا، ونهيتنا فاجتنبنا، فأعِنّا اللهمّ على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، فإنا لا نستطيع أن نقوم بها بغير معونتك. لا شريك لك فنطلب منه، ولا إله سواك فنفرّ إليه. لقد فررنا إليك وجئنا قاصدين بيتك، فهل تردّنا عن بابك خائبين وأنت أكرم الأكرمين؟
هذه -يا حجّاج- مواقيت الحرم، «آبار عليّ» على أبواب المدينة، و «الجَحْفَة» عند رابِغ، و «قَرْن» عند السَّيل الكبير، و «وادي مُحرم» قرب الطائف، و «يَلَمْلَم» في الجنوب الشرقي من مكة. هذه حدود منزل الوحي. لقد جزتموها الآن مُحرِمين، فجدّوا السير واحْدُوا المَطِيّ (أو استحثّوا سائق السيارة).
* * *
لقد دنوتم الآن من الحرم. أتعرفون يا إخوان ما الحرم؟ هنا دار السلام إن عمّت الأرضَ الحروبُ، هنا دار الأمن إن شمل الناسَ الخوفُ. كل حي ها هنا آمن، الناس والحيوان والنبات، ليس ها هنا حرب ولا قتال، الحيوان ها هنا لا يُصاد والأشجار لا تُقطع. لا عدوانَ على أحد ولا تجاوزَ على شيء. هذه حدود الحرم، ألا ترون أعلامها؟ لقد أقام هذه العلامات أبو الأنبياء إبراهيم، وبقيت حيث أقامها.
لقد دخلتم الآن الحرم، فجدّدوا التلبية واجهروا بها، وقولوا بقلوبكم مع ألسنتكم: لبيك اللهمّ، قد دعوتَنا فأجبنا، سمعنا المؤذن يؤذن بالحج فجئنا رجالاً وعلى كل ضامِر، أتينا من مكان بعيد، نجزع الأرض، نطوي البيد، نركب الريح ونمتطي اللُّجَج،
امتثالاً لأمرك وابتغاءَ رضاك.
لبّوا يا حجاج واجهروا بالتلبية، لبّوا عند كل رابية وجبل تُلَبِّ معكم الروابي والجبال، لبّوا كلما صعدتم نَشْزاً (1)، لبوا كلما هبطتم وادياً، لبّوا فهذه جبال مكة بَدَت لكم. لقد وصلتم، لم يبقَ إلا قليل فجِدّوا المسير.
هذه مكة فادخلوها من أعلاها، من جهة ذي طوى (2) ثم اهبطوا من الحُجُون، من عند المقبرة، فمِن هناك دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم امشوا من عند المسعى حتى تدخلوا من باب السلام، باب بني شَيبة.
لقد زالت الحُجُب حجاباً بعد حجاب، وتقاربت الأبعاد ساعة بعد ساعة، حتى بلغتم الأرَب فنسيتم التعب، فهنيئاً لكم نلتم المرام؛ هذا باب السلام وهذه زمزم وهذا المَقام، وهذه الكعبة البيت الحرام.
فلبّوا وهلّلوا وادعوا، فإن دعاء المسلم أولَ ما يرى الكعبة مستجاب. هذا هو المشهد الذي قطعتم من أجل رؤيته الآفاق وحملتم المشاق. إني لن أنسى يوم وقفت هذا الموقف أول مرة من إحدى وثلاثين سنة؛ لقد سلكنا الصحارى من دمشق، فكنا
(1) النشز كل ما ارتفع من الأرض (مجاهد).
(2)
كان ذو طوى وادياً بظاهر مكة، وهو حي الزّاهِر اليوم. وكلمة «طوى» مثلثة الطاء، أي أنها تلفظ بضم الطاء أو بفتحها أو بكسرها، كل ذلك صحيح (مجاهد).
كلما دنونا يوماً زاد الشوق بنا شهراً، حتى تمنيت أن تطوى لي الأرض وأن ينصرم الزمن. حتى إذا وقفتُ على باب السلام صفّق من الفرحة القلبُ وبكت من السرور العينُ، فما رأيت الكعبة إلا من خلال الدموع:
هذه دارُهُم وأنت مُحِبُّ
…
ما بقاءُ الدّموعِ في الآماقِ؟
إني لا أتمنى إلا أمنيّة واحدة، هي أن أنسى هذا المشهد لأستمتع برؤيته من جديد. هذه مكافأة الحاجّ؛ إنها لذة من لذائذ الروح لا مثيل لها، لذة لا يدرك مداها إلا من ذاقها، لذة لا توصف ولا تعرف.
أسأل الله أن يَمُنّ بالحج على كل راغب فيه مشتاق إليه.
* * *