الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النفس الأمّارة بالسوء
والنفس اللوّامة
نشرت سنة 1962
سألني سائل عن الشيطان: هل هو النفس ذاتها أم أن الشيطان غير النفس؟ وإن كان الشيطان غير النفس فما هي النفس الأمّارة بالسوء؟
وأنا أعتذر إلى القراء من ذكر مثل سأسوقه كنت قد ذكرته من قبل، وعذري أن من المعاني ما لا بد من تكراره لتكرر مناسباته، وأنا أكتب من خمس وثلاثين سنة وأخوض في موضوعات كنت خضت فيها من قبل، فآتي بما كان القراء قرؤوا لي مثله. وإن كنت لا أعيد شيئاً بحروفه وكلماته ولكن أعرض المعنى كل مرة من جانب، وهذا شيء لا يقدح بالبلاغة لأن القرآن -وهو كلام الله الذي لا يتعلق بغباره أبلغ كاتب- أعاد قصة موسى مثلاً غير مرة يوجّهها كل مرة الوجهة التي تناسب المقام.
ومن يقرأ هذا الاستطراد الطويل يظن أني أعيد هنا مقالة كاملة منشورة، وما أعدت إلا المثل الآتي وحده، ولكن أطلت هذا الاستطراد ليكون معذرة لي في هذه وفي أمثالها حينما يجد القراء لها أمثالاً.
وبعد، فهذا هو المثال الذي مهدت له بهذا الاعتذار: إذا سمعت رنين الساعة المنبِّهة في فجر يوم من أيام الشتاء الباردة يدعوك إلى القيام إلى الصلاة، تتصور مشقة القيام وبرد الصباح وتجد لذة النوم ودفء الفراش، فتحسّ كأن صوتاً من داخلك يناديك أن: نَمْ فإنّ في الوقت فسحة. فتميل إلى مواصلة المنام، فتسمع صوتاً آخر يهتف بك أن: قُمْ فإن الوقت ضيق والصلاة خير من النوم. فيعود الصوت الأول يقول لك: استمتع بالدفء والراحة لحظات أخرى. فيرجع الأول يذكّرك بثواب الطاعة وعقاب المعصية. ولا تزال بين «قُم» ، «نَم» ، «قُم» ، «نَم» ، تتعاقبان مثل دقات الساعة، حتى تعزم فتَثب عند واحدة من دقّات «قُم» ، أو يغلبك الهوى ويطول بك التردد حتى تطلع الشمس وتفوتك الصلاة.
ولهذا المثال الذي كررتُه أمثلة لا تحصى تعرفها من نفسك؛ إذا كنت شاباً وعرضَت لك في الطريق فتاة فتّانة من هؤلاء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، وسمعت صوتاً من داخلك يقول لك: انظر إليها، ما أجملها! وصوتاً يقول لك: لا، دعها، فإن لك النظرة الأولى التي لا بدّ منها وعليك ما بعدها. وإذا عُرض عليك مال حرام تحسّ صوتاً يدعوك إلى أخذه ويحرك طمعك إليه، وصوتاً يمنعك منه ويذكّرك حكم الله فيه.
فالصوت الأول الداعي إلى المعصية التي فيها اللذة العاجلة هو صوت النفس الأمّارة بالسوء، والصوت الثاني الصارف عنها الداعي إلى الخير، هو صوت الضمير، صوت العقل.
وربما اشتد الأول وعَلا حتى ملأت أصداؤه كيانَك كله
ووجدتَه في كل شعبة من عصبك وفي كل قطرة من دمك، وخرج الثاني ضعيفاً خافتاً، وذلك إذا اشتدت الشهوة وتهيأت دواعي إشباعها بالزنا، أو إذا تمكن الغضب وأمكن التنفيس عنه بالبطش. واتّباع صوت الحق هنا أصعب، لا سيما للشاب الذي يعيش في بلاد الإفرنج حيث يسهل الزنا وتتيسر دواعيه وحيث يكثر الجمال المعروض والمتع المبذولة، ولذلك جعل الله ثواب من ينصرف عن المتعة المحرَّمة بعد التمكن منها أعظم. وقد ورد أن من يتمكن من الزنا بامرأة وتتهيأ له أسبابه كلها، ثم ينصرف عنه خوفاً من الله، يكون يوم القيامة أحدَ السبعة الأصناف الذين يظلّهم الله بظل عرش الرحمن يومَ لا ظلّ إلا ظله.
وعلى مقدار عظم الثواب تكون مشقة العمل. وهذا موقف لا يقدر عليه في الواقع إلا من أوتي إيماناً راسخاً وعزيمة قوية، والله المستعان. ومَن علم من الشبّان الذين يدرسون في أوربا أنه لا يستطيع أن يمتنع عن الزنا وأنه يغلب عن ظنه الوقوع فيه، حَرُم عليه حرمة تامة الإقامة في هذه الديار مهما كان له منها من منافع دنيوية، لأن الدنيا لا تغني عن الآخرة، ولو كان في هذه البلاد مرض من الأمراض السارية وغلب على ظن هذا الطالب أو ظن أهله أنه سيصاب في جسده لمنعوه من السفر وأرجعوه إلى بلده، ولم يعودوا يبالون بعلم يحصله أو شهادة ينالها إن كان في ذلك مرض جسده، فكيف لا يبالون بمرض قلبه وذهاب دينه؟
* * *
والله عز وجل وضع أمامنا طريقين: طريقاً ينتهي إلى الجنة
وإلى النعيم الدائم، وطريقاً ينتهي إلى جهنم وإلى العذاب الدائم. وأعطانا قوة نميز بها هذا من ذاك، قال تعالى:{وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْن} .
وهذه القوة موجودة عند كل إنسان، عالماً كان أم كان جاهلاً، كبيراً كان أم صغيراً.
كل إنسان يعرف أن الزنا مثلاً شر وأن الزواج خير، لذلك يختفي الزاني ويستتر بزناه من الناس، ويعلن المتزوج عن زواجه ويدعو له الناس. وكلنا يعرف أن السرقة شر وأن الإحسان خير، لذلك ينكر السارق ولا يحب أن يتحدث عنه الناس بأنه سرق، ويسر المحسن أن تحدثوا عنه بأنه أحسن. حتى السكّير الخِمّير لا يحب أن ينشأ ابنه على الخمر والسكر لأنه يعرف قبح ما هو فيه.
بل إن الحيوان يميز الخير من الشر، فإذا رميت إلى القط بقطعة لحم أكلها آمناً بين يديك، وإن خطفها خطفاً فرّ بها إلى الطريق. والكلب يعمل عملاً صالحاً فيقترب من صاحبه ويتحسس به كأنه يطلب منه المكافأة، وإذا أساء ابتعد ووقف كالنادم المعترف!
ثم إن الله عز وجل أقام على كل من الطريقين مَن يدعو إليه ويرغّب فيه. فالأنبياء يقومون على طريق الجنة يقولون للناس: تعالوا، امشوا من هنا، هذا طريق الجنة. والشياطين، شياطين الجن وأعوانهم من شياطين الإنس، يقومون على طريق النار يدعون إليه، يقولون: تعالوا، هذا الطريق أجمل وأسهل، ألا ترون البساتين على جانبيه والأنهار تجري من تحته، وفيه الطعام
والشراب واللهو والطرب، وذاك طريق متعب من حواليه الصحراء وقد حُفّ بالمتاعب؟
فيقول الأنبياء: لا تخافوا من مشقة طريقنا، فإن بعد هذه المشقة المقام الآمن والنعيم الدائم، ولا تغترّوا بجمال الطريق الآخر، فإن أوله سهل ممتع ولكن مصير سالكه الضياع والهلاك.
وجعل الله في الإنسان قوتين متقابلتين، واحدة تنصر الأنبياء وترغّب في الحق، وهي التي عرفتم أن اسمها العقل أو الضمير، وأخرى تنصر الشياطين وتزيّن لصاحبها باطلهم، وهي النفس الأمّارة بالسوء.
فالشيطان يوسوس لهذه النفس، وهي حليفته وناصرته، فتحاول أن تدفع بصاحبها إلى السير في طريق النار، ويقف الضمير يحذّر من اتّباعها وينبه إلى غشها ومكرها. فإذا ذكر العبد ربه وتعوّذ به من الشيطان خنس الشيطان وهدأت النفس، وإن أعرض عن صوت الضمير واتبع النفس وُضعت على قلبه نقطة سوداء، فإن عاد فتاب مُحِيَت، فإن عمل ذنباً آخر وُضعت نقطة أخرى، فإن تكررت الذنوب زادت النقط السود حتى يصير قلبه كله أسود، فلا تنفع معه حينئذ موعظة ولا يفيد نصح، ويصير من الذين قال الله عنهم:{كَلاّ، بَلْ رَانَ عَلى قُلوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبون} .
هذا هو الرَّان أو الرَّيْن، وهذه حال أكثر شبّان هذه الأيام من غير المتدينين الناشئين في طاعة الله، لا يسمعون موعظة ولا يرجون رحمة ربهم ولا يخافون عذابه.
* * *
هذه هي النفس الأمّارة بالسوء.
فإذا كان الإنسان في جهاد مع نفسه؛ تغلِبُ نفسُه ضميرَه ثم تندم على ما وقع منها وتحاول أن تسلك سبيل الهدى، فتنجح مرة وتخيب مرة، فهي تكرر الذنب ولكنها لا تنسى الله ولا تترك التوبة، فهذه هي النفس التي سماها الله «النفس اللوّامة» .
فإذا تغلبت على وسواس الشيطان ونقضت الحلف بينها وبينه وصارت متّبعة لصوت الضمير ماشية مع الشرع، كلما عرض لها الشيطان يزيّن لها المعصية استعاذت منه بالله واحتمت به، صارت نفساً مطمئنّة وقيل لها:{يَا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلي في عِبَادي وادْخُلي جَنَّتي} .
هذا، على أن يعلم كل قارئ لهذا الفصل أن الأصل في النفس أنها أمارة بالسوء، فلا يقل أحد: أنا واثق من نفسي، أخلو بالمرأة الأجنبية ولكني أملك أمري وأضبط غريزتي، لأن هذا هو قول الأحمق المغرور، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:«ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثَهما» . ما خلا رجل بامرأة، أي كل رجل بكل امرأة، على التعميم بلا استثناء (1).
وكيف تبرّئ نفسك وهناك من هو خير منك، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، النبي ابن النبي ابن النبي ابن
(1) من حديث ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما، وفيه:«ألا لا يَخْلُوَنّ رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» ، أخرجه الترمذي. وفي رواية لأحمد:«ألا لا يخلونّ رجل بامرأة لا تحلّ له فإن ثالثهما الشيطان» (مجاهد).
النبي، وليس في البشر كلهم أربعة أنبياء على نسق واحد إلا هؤلاء الأربعة، ويقول عن النساء:{إلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ} .
فالنفس إن تركتَها كانت سفيرة إبليس لديك وعونه عليك، وإن ألزمتها الموعظة الدائمة والندم على كل ذنب صارت نفساً لوّامة، وإن استمر ذلك منها حتى صار عادة لها، ابتعد الشيطان عنها فصارت نفساً مطمئنة.
* * *