الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيمان يصنع النصر
حديث أذيع سنة 1967
كنت رائحاً عشية الأمس إلى منزلي، فوجدت في جانب الطريق كلباً أسود ضخماً مخيفاً قد استعد للقتال، وأمامه قطة صغيرة قد تجمدت وتسمرت في مكانها ووجهت إليه من عينها نظرات يكاد يتطاير منها الشرر. فوقفت أنظر، فإذا هما يلبثان على ذلك دقائق، ثم تحرك الكلب وخطا إليها خطوة، فكشرت عن أنيابها ووثبت إلى وجهه بسرعة القنبلة المنطلقة من المدفع، ونفخت نفخة جعلته على كبره وضخامته يرتدّ عنها فزعاً.
فجعلت أفكر في عجيب صنع الله؛ إن قوة هذا الكلب وضخامة جسده وحدّة نابه لم تصنع كلها شيئاً أمام حماسة هذه القطة الصغيرة وشجاعتها وقوة نفسها، وهي لمّا تضايقت استعملت قوّتها المدَّخَرة فأفزعت الكلب. ورأيت في ذلك شاهداً على أن القوة النفسية تغلب القوة المادية.
لو جئتَ دارك العشيّة وأنت تعبان نعسان جوعان، فوجدت ثلاثة رجال مسلحين يريدون أن يعتدوا على عرض امرأتك أو ابنتك، ولم تجد أمامك إلا عصا، ألا تهزم بعصاك هذه بنادقهم
أو رشّاشاتهم؟
ليست العصا في ذاتها أقوى من الرشاش، ولكن لما صار الرشاش في يد من يعلم أنه ظالم، والعصا في يد من يؤمن بأنه محق ومن يدافع عن عرضه أو دينه، صارت العصا في هذا المقام أقوى من الرشاش. ولذلك غلبت القطة الصغيرة الكلبَ الكبير؛ إنها تعلم أنها إن غُلبت ماتت وافترسها الكلب، فهي تدافع عن قضيتها الكبرى، إنها تخوض معركة حياة أو موت، أما الكلب فيحارب لمجرد الغلبة أو الظفر أو للتسلّي.
ولذلك غلَبَنا اليهودُ لمّا حاربنا لغير القضية الكبرى. كان الجندي منا يمشي إلى الحرب ولكنه لا يدري لماذا يحارب، ولا يعرف إلاّ أن حكام بلده أخذوه من بيته وألبسوه هذه البزّة وحمّلوه هذه البندقية وقالوا له: امشِ. لا يدري لماذا مشى، ولا يعترف لهؤلاء الحكام في أعماق نفسه بحق الطاعة، لأنه يعتقد أنهم يعادون دينه ويوالون عدوّه ويريدون له ولأمته غيرَ ما تريد الأمة لنفسها ويريد الله لها.
ولو أن الحاكمين كانوا مسلمين حقاً، ولو أنهم حاربوا لإعلاء كلمة الله حقاً، ولو أنهم أفهموا الجنود أنهم يمشون إلى الجهاد الذي أمر به الشرع وأنهم بين الحسنيين، إما أن يظفروا فينالوا شرف الظفر وإما أن يموتوا فيحظوا بثواب الشهادة ويكونوا أحياء عند الله
…
لو قالوا لهم ذلك لَما انهزموا ولَما غُلبوا، ولَثَبتوا مثلما ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أُحُد لمّا انهزم الناس، وفي حُنين، وفي غيرهما من المشاهد التي شهدها المسلمون الفاتحون.
الذي يقاتل دفاعاً عن قضية مقدسة عنده لا ينهزم. هل تتصورون أن الرجل الذي يحارب بالعصا دفاعاً عن عرض بنته أو زوجته ينهزم خوفاً على نفسه ويتركهما؟ لا والله؛ إنه يموت دونهما ولا يدعهما. وكذلك الذي يقاتل دفاعاً عن دينه، يستحيل أن ينهزم. وإذا فوجئ فانهزم أولاً فإنه لا يلبث أن يرجع إليه عقله فيعود، وإذا لم يستطع العودة وخسر الجولة فإنه يستعد لجولة أخرى.
ورأس الأمر ومِلاكه أن نثير في نفس الجندي القوة الكامنة فيها، وهذا ما يفعله الإيمان.
وصفت لكم في حديث مضى ما هي هذه القوة الكامنة، قلت لكم: إن الواحد منكم لا يستطيع أن يركض مسافة مئة متر، ولكن إذا كان في البرّية ولحقه وحش وما معه سلاح يركض ألف متر ولا يقف. هذه هي القوة الكامنة.
لما كانت موقعة ميسلون في الشام من سبع وأربعين سنة ودخل الفرنسيون دمشق ظافرين، شهدتُ مشهداً لا يزال منقوشاً في ذاكرتي. كنت ذاهباً إلى المدرسة، وكنا في أوائل المرحلة الإعدادية، فوجدت ثلاثة من الجنود الفرنسيين المسلحين يلحقون امرأة مسلمة محجبة، يتحرشون بها ويمدون أيديهم إليها، وهي تصرخ مذعورة وهم يتضاحكون، والناس خائفون منهم وقلوبهم تتقطع ألماً. وإذا بسَمّان (بقّال) كهل يصرخ صرخة هائلة تخرج من أعماق قلبه كأنها ليست من أصوات البشر: ولك شو بَكُمْ؟ ما عاد في دين؟ ما عاد في نخوة؟ عليهم!
ويثب إليهم بأربع خطوات فيصير بينهم، يهجم عليهم بيديه
بلا سلاح، وتسري عدوى الحماسة فيلحقه الناس. وأذكر وأنا ولد أني رميت حقيبة الكتب وهجمت معهم. ولم يكن مع أحد من المهاجمين قطعة حديد، ومع الجنود البنادق المحشوة بالرصاص، ومع ذلك غُلبوا وسقطوا على الأرض ونزل عليهم الناس ضرباً وركلاً، فلم يخرجوا إلا بثياب ممزقة وأعضاء محطمة.
هذه القوة الكامنة هي مصدر العزة التي وصف الله بها المؤمنين. إنها موجودة في نفوسنا لا تزال، رغم الضعف والتفرق والانقسام، ولكنها تحتاج إلى مَن يوقظها. وهذه القوة لا يوقظها إلا الإيمان.
* * *
هذه الأمة المسلمة دُعيت إلى الجهاد والتضحية والبذل عشرة آلاف مرة، ولا تزال مستعدة للإجابة إن دُعيت من جديد، ولكنها تحتاج إلى من يدعوها باسم الدين، باسم العِرض. إذا تيقّن هذا الشعب أن عِرضه في خطر وأن دينه في خطر تظهر هذه القوة الكامنة ويصنع العجائب.
لهذا قاتل في الماضي في بدر واليرموك وحطين، وقاتل بالأمس في غوطة دمشق ورُمَيثة العراق وجبال الجزائر، ولهذا يقاتل في المستقبل. أما القتال للقومية وللاشتراكية وللثأر، وللكلام الفارغ والملآن، فإنه يشترك فيه هو والعدو. اليهودي أيضاً يقاتل لقوميته ويقاتل لبلده ويقاتل للاشتراكية، لأن الاشتراكية بضاعة يهودية. ماركس الذي ابتدعها يهودي، ولينين يهودي، وستالين أصله يهودي، وتروتسكي يهودي، فما الفرق إذن بيننا وبينهم؟
إن اليهود (ومن ورائهم دول الشرق والغرب معاً) لا يريدون إلا أن يصرفونا عن إسلامنا ليسلبونا أمضى سلاح في أيدينا، فهل تبلغ الغفلة بنا أن نعاونهم على أنفسنا؟
كل مَن يدعو إلى مذهب يخالف الإسلام يعين العدوَّ علينا، وكل من يدعو إلى التحلل والفساد يعين العدوّ علينا، وكل رواية داعرة وكل صورة مكشوفة وكل أغنية بذيئة، وكل ما تأتي به المناهج الخبيثة في المدارس والقوانين الأجنبية في المحاكم، وما يأتي به السفور والحسور والتكشف والموضات، وكشف النساء العورات وسلوك الشبان سبيل الفساد، كل ذلك قنابل للعدو تتساقط علينا وتهدم كياننا وتصدع بنياننا وتُذهب قوانا. فهل نكون من غفلتنا عوناً للعدو على أنفسنا؟
يا أيها المسلمون، إنكم نائمون فاستيقظوا! استيقظوا، فقد طلع النهار وانقضى وقت المنام.
* * *