الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التوبة
حديث أذيع من دمشق سنة 1958
إذا قصرت في دفع الضرائب وتراكمت عليك حقوق للخزانة حُجز من أجلها على مالك ونودي عليها بالمزاد، ثم صدر قانون بأن من طلب الإعفاء من حقوق الخزانة كلها أُعفي منها وسقطت عنه، بشرط أن يقدم اعتذاراً عن التقصير فيها في الماضي وتعهداً بأدائها في وقتها في المستقبل، فهل تتردد في تقديم الاعتذار والتعهد؟
وإذا أغراك الشيطان فأجرمت جريمة الشرطةُ تلاحقك من أجلها وأنت تفرّ وتختفي من جرّائها، لا يَقِرّ لك قرار ولا يستريح لك بال، ثم صدر قانون بالعفو عنك عفواً كاملاً إذا قدمت الاعتذار عنها والتعهد بألاّ تعود إلى مثلها، هل تتردد في تقديم التعهد والاعتذار؟
وإذا قيل للمسجونين في سجن القلعة: من قدّم منكم اعتذاراً عما كان منه وتعهداً ألا يعود إلى مثله أطلقناه فوراً وأسقطنا عنه بقية العقوبة ومَحَونا من سجلّه أثر الذنوب، هل يتردد أحد في تقديم التعهد والاعتذار؟
وإذا تردد أو أجّل أو أبى، فهل يكون عاقلاً أم يكون مجنوناً حقّه سكنى المارستان؟
لا، لا تقولوا «مجنون» لئلا نكون جميعاً مجانين؛ ذلك أن علينا من حقوق الله التي قصّرنا فيها أكثر مما على المقصّر في أداء الضرائب من حقوق الخزانة، وإن كانت عاقبةُ ذاك خسارةَ ماله فعاقبةُ المقصّر في حق الله خسارة نفسه وخسارة سعادته الدائمة في آخرته.
وإن أجرم المجرم في الدنيا فلاحقته الشرطة فهرب أو اختفى أو قُبض عليه فأودع السجن، فإننا قد اجترمنا مع الله جرائم لا نستطيع أن نهرب بها منه. وأين المهرب والكون كله ملكه والسماوات والأرض له؟ هل من إله غيره نلجأ إليه كما يهرب اللاجئ السياسي من دولة إلى دولة؟ لا إله إلا هو. ولا نستطيع أن نختفي منه. وأين نختفي وهو معنا أينما كنا يسمعنا ويرانا؟
وليست عقوبة الله سجناً نأكل فيه ونشرب وننام، وإن اشتد علينا الأمر نشتغل ونتعب. لا؛ بل إن للمجرمين ناراً وَقودها الناس والحجارة:{إذَا أُلْقُوا فيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهيقاً وَهِيَ تَفورُ} ، {وَإذا أُلْقُوا مِنْهَا مَكاناً ضَيِّقَاً مُقَرَّنينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبوراً} ، {لا يُقضَى عَلَيْهِم فَيَموتوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِنْ عَذَابِها} ، {لَهُمْ مِن فَوْقِهِم ظُلَلٌ مِنَ النّارِ وَمِن تَحْتِهِم ظُلَل} ، {هذِه جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِها المُجْرِمون} ، {إنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصَاداً، لِلطّاغينَ مَآباً، لابِثينَ فيها أحْقَاباً، لا يَذوقونَ فيها بَرْداً ولا شَراباً، إلاّ حَميماً وَغَسّاقاً} .
فإذا صدر قانون بأن هذا المؤمن المقصّر في حقوق الله،
وهذا المؤمن الذي أجرم هذه الجرائم وأذنب هذه الذنوب مع الله، ستُسقَط عنه هذه الحقوق وتمحى هذه الجرائم إذا قدّم اعتذاراً صادقاً وتعهّد تعهداً مخلصاً بألاّ يعود إلى مثله. ولكن لم يرضَ أن يقدّم الاعتذار والتعهد، أو أجّل تقديمه وماطل به، أو تردّد وفكر وتحيّر هل يقدمه أو لا يقدمه، ألا يكون مجنوناً؟
إذن فنحن جميعاً مجانين، لأننا قصرنا وأذنبنا فقال لنا الله: أنا أسامحكم بحقوقي وأمحو من سجلاتكم المحفوظة عندي ذكر جرائمكم إذا تبتم. فقلنا: لا، لا نتوب! أو أجّلنا التوبة يوماً بعد يوم.
يقول الفاسق الذي يتبع شهوته: كيف أدع هذه المتع وهذه اللذائذ وأنصرف عنها؟ لا، ولكن أنغمس فيها ما دمت شاباً، فإذا صرت كهلاً تبت عنها. ويقول الذي يأكل المال الحرام من الربا أو من الظلم: إني الآن في سن الشباب وهو سن العمل والكدح وجمع المال، فإذا صرت كهلاً تبت. والفتاة التي تخرج كاشفة الشعر بادية النحر ظاهرة الساق والزند، تقول: أنا الآن صغيرة، فكيف ألبس لباس العجائز وماذا تقول عني رفيقاتي؟ ولكن إذا كبرت تبت واستترت واتخذت الحجاب الذي أمر الله به. والذي يظلم الناس ويتعدى عليهم بقوة ساعده أو بقوة جاهه أو بقوة ماله، يقول: سأتوب إذا صرت كهلاً.
وما أدراك أن العمر سيمتد بك حتى تصير كهلاً؟ وإذا صرت كهلاً فمن أدراك أنك ستتوب؟ ها أنا ذا صرت كهلاً ولا أزال منغمساً بالذنوب، اسألوا الله التوبة لي ولكم.
يقول الفاسق: إذا تزوجت أتوب. فيتزوج ولا يتوب. ويقول: إذا جاء رمضان تبت. فيجيء رمضان فلا يتوب. ويقول: سأحجّ وأتوب. فيحج ولا يتوب.
يؤجّل التوبة يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، حتى يأتي يومٌ لا يومَ له بعده في هذه الدنيا ويرى الموت الذي كان يتناساه ويبعده عن ذهنه ويكره الحديث عنه قد نزل به، فيتوب في تلك الساعة فلا تنفعه التوبة. قال الله عز وجل:{إنّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ للّذينَ يَعْمَلونَ السّوءَ بِجَهَالةٍ ثُمّ يَتوبونَ مِنْ قَريبٍ، فَأولئِكَ يَتوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَكانَ اللهُ عَليماً حَكيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ للذينَ يَعْمَلونَ السيِّئاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ إنّي تُبْتُ الآنَ، وَلا الذينَ يَموتونَ وَهُمْ كُفّارٌ، أولئكَ أعْتَدْنا لَهُم عَذَاباً أليماً} .
أي أن الله يتوب على من يعمل الذنب فيرجع إلى الله ويندم ويتركه، أو يسمع الموعظة فيتبعها ويدع الذنب {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} ، أما الذي يصرّ ويبقى مُصِرّاً على الذنب، والذي يؤجّل التوبة حتى ينزل به الموت وتصل روحه إلى الحلقوم، والذي يموت وهو كافر، فلا تُقبَل له توبة وليس أمامه إلا النار.
* * *
ولا يقل أحدٌ: إن ذنوبي كثيرة وإني منغمس في المعاصي، فليس في الذنوب ما لا يُغفَر إلا الشرك والكفر:{إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبّر عن رجل من
الأمم الماضية كان مجرماً سفّاكاً قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم ندم وفكر في التوبة، وخاف ألاّ تقبل توبته، فسأل عن أعلم أهل الأرض ليستفتيه، فدلوه على راهب ليس بعالم، فسأله فقال له إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فقال: لا. فقتله فكمّل المئة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُلّ على رجل عالم، فأتاه فقال له إنه قتل مئة نفس فهل له توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها ناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.
فانطلق إليها، حتى إذا انتصف الطريق أتاه ملَك الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: إنه جاء تائباً ومقبلاً بقلبه إلى الله تعالى. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط. فأتاهم مَلَك في صورة آدمي فجعلوه حكماً بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كان أدنى فهو له. فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي قصدها تائباً، فقبضته ملائكة الرحمة (1).
فيا أيها السامعون، إن باب التوبة مفتوح، والله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
وشرط التوبة ترك الذنب، والندم على الماضي، وعقد العزم على عدم العودة إليه. هذه حقوق الله، أما حقوق الناس فلا تصحّ التوبة منها إلا بأداء الحق لصاحبه أو أن يسامحك به؛ فإن أكلت
(1) الحديث أخرجه الشيخان وابن ماجه وأحمد (مجاهد).
مال أحد فردّه إليه، وإن ظلمته فعوّضه عن مَظلَمته، وإن اغتبته في مجلس فاذكره بالخير في مجلس مثله واستغفر له.
ومَن عفا عن أخيه المسلم أو سامحه عوّضه الله أكثر مما كان يطلب منه؛ ورد أنه يختصم اثنان عند الله يوم القيامة، فيقول أحدهما: يا ربّ هذا ظلمني، فيقول الله للظالم: أعطِه من حسناتك. فيعطيه حتى لا يبقى عنده شيء. فيقول: يا ربّ لم يبق عندي شيء. فيقول الله للظالم: احمل من سيئاته. فيحمل من سيئات المظلوم حتى لا يبقى عليه من السيئات شيء، ويبقى له عنده حق، فيقول: يا ربّ حقي. فيقول الله عز وجل: ارفع رأسك، فيرفع رأسه فيرى قصراً في الجنة يأخذ العقول. فيقول: يا ربّ لمن هذا؟ فيقول: لمن يسامح أخاه ويعفو عنه. فيقول: يا رب قد سامحته وعفوت عنه. فيقول الله أكرم الأكرمين: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة.
يا أيها الناس، توبوا إلى الله توبة نصوحاً.
* * *