الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحرب والإيمان
محاضرة أُلقيت ارتجالاً سنة 1969، سُجِّلت وكُتبت نقلاً عن شريط تسجيل (1)
أنا أرتاد هذه المنابر من أربع وأربعين سنة حتى زعمتُ أنّي صرت من فرسانها ولم أعد أتهيبها، لكني أقف اليوم بينكم متهيباً!
قلت في محاضرة ماضية إنني وقعت في ورطة، أما الورطة الحقيقية فهي التي وقعت فيها اليوم؛ إذ فوجئت بحضور هذا الحشد من القادة الكبار والسادة الكرام، ووقفت هنا موقف الامتحان، وجاء هذا الأخ الكريم فمدحني قبل أن تسمعوا مني، فصرت كالتلميذ الذي مدحه أستاذه فقال: هاكم التلميذ النابه. ثم كان غير ذلك فكانت سقطته أشدّ، لأن مَن يسقط عن الكرسي ليس كمَن يسقط عن المنارة!
(1) ألقى علي الطنطاوي هذه المحاضرة أمام عدد كبير من ضباط الجيش الأردني، ثم نُشرت بعد نقلها من شريط تسجيل في عدد أيار 1971 من «المجلة العسكرية» التي تُصدرها مديرية التوجيه المعنوي في الجيش، وقد صدّرتها المجلة بكلمة قالت فيها: "كان فضيلة=
إنني والله في خجل أن أقدم لكم كلاماً وأنتم تقدمون دماء وأرواحاً؛ تجودون بالنفوس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود. فما الذي أجود به عليكم؟ أدعوكم إلى البذل؟ لقد بذلتم وتبذلون. أعلّمكم فنون القتال؟ أنتم الذين تعلّمون الناسَ القتال.
لذلك أعترف بأني ما جئت لأقويّكم بل لأستمدّ القوة منكم، ما جئت لأعطيكم بل لآخذ منكم، ما جئت لأعلمكم ما تجهلون بل لأذكّركم بما تعلمون، ما جئت لأضع في نفوسكم بطولات ليست فيها، بل جئت لأثير البطولة التي وضعها الله في نفوسكم.
* * *
= الأستاذ علي الطنطاوي في زيارة عائلية إلى عمان قبل سنتين، فطلب إليه مدير التوجيه المعنوي أن يلقي محاضرة عن الإيمان والجيوش الإسلامية، فتكرم فضيلته بالحضور إلى نادي الضباط في الزرقاء، وقد غصّت قاعته الخارجية بأكثر من ألف ضابط من كبار ضباط الجيش العربي (الأردني). وكانت هذه المحاضرة التي ننشرها اليوم لما لها من أهمية. وقد نال إعجاب جميع الضباط وتقديرهم فناشدوه الاستمرار في الحديث، لكن عريف الندوة اعتذر عن فضيلة الأستاذ لأنه كان على سفر".
وقد أعاد جدي رحمه الله نشر جزء من هذه المحاضرة في مقدمته التي كتبها لكتاب «عبقرية خالد بن الوليد العسكرية» ، الذي ألفه أحمد بك اللحّام وأعادت نشرَه من قريب «دار المنارة» التي نشرت كتب الشيخ كلها والتي تنشر اليوم هذا الكتاب (مجاهد).
أيها السادة:
إن الأمم التي لا ماضي لها تخترع لها ماضياً، لأن حاضر الأمة وليدُ ماضيها وهو الذي يلد مستقبلها. فهل نهمل نحن ماضينا العظيم؟ إن أعداءنا يتعمدون إهمال ماضينا، أفنعين أعداءنا على أنفسنا؟ أعداؤنا اصطلحوا على أن يطمسوا صفحة تاريخنا من تاريخ الحضارة الإنسانية، فتراهم في كلياتهم يُقرؤون الطلابَ تاريخ العلوم من أيام اليونان والرومان، ثم يتخطّون ما فعلنا نحن فينتقلون إلى عهد النهضة رأساً. وفي الكليات العسكرية يتخطون عمداً صفحة أمجادنا مع أنها أروع صفحة في تاريخ الأمجاد العسكرية.
اعذروني أن أتكلم في الفن العسكري أمام كبار القادة العسكريين، فأنا مولع بكتب التاريخ من صغري أقرأ كل ما يقع تحت يدي منها، وأستطيع أن أقول إن المعجزة الكبرى في التاريخ العسكري للأمم كلها هي الفتح الإسلامي.
قد يقول قائل: إن الإسكندر فتح بلاداً ربما بلغت ما فتحه المسلمون، وكذلك جنكيز خان وتيمور لنك ونابليون وهتلر، ولكن الفرق بين هؤلاء جميعاً وبين الفتح الإسلامي أن فتح هؤلاء القادة كان فتحاً عسكرياً قام على القهر وبقي فيه غالبٌ ومغلوب، بقي الغالب يقظاً محترساً وبقي المغلوب متربصاً متحفزاً للأخذ بالثأر. أما الفتح الإسلامي فهو عجيب في طبيعته.
انظروا إلى البلدان التي فتحناها. لقد فتحنا بلاد الشام، فأين في بلاد الشام الآن الغالبون وأين المغلوبون؟ فتحنا هذه البلاد
كلها فما دخل الفتح الإسلامي بلداً إلا استقرّ فيه وبقي. هذه أندونيسيا دخلها الإسلام منذ أكثر من ثلاثمئة سنة، وقريباً منه دخل الاستعمار إلى تلك البلاد، وها هو ذا الاستعمار قد ذهب وبقي الإسلام إلى يوم القيامة إن شاء الله؛ ذلك أن الفتح الإسلامي ليس فتحاً عسكرياً، وما فتح المسلمون البلاد ليأخذوا منها الغنائم ولا ليظلموا أهلها، بل ليشركوا أهلها في الخير الذي جاؤوا به (1).
* * *
إن العالم اليوم تقوده قوتان كبيرتان: أميركا من هنا وروسيا من هناك. فلو جاء شخص أمّي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يدخل في حياته مدرسة ولا زار مدينة من المدن الكبرى؛ شخص نشأ في قرية ضائعة متوارية خلف رمال الصحراء، لو قال هذا الرجل: إن عندي دستوراً للبشرية، فتعالي يا روسيا وتعالي يا أميركا وتعالي يا أمم الأرض أجمع، اتبعوا هذا المنهج أضمن لكم السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة.
ماذا تقولون عنه؟ تقولون إنه مجنون! فما رأيكم إذا لم تمضِ على هذا الشخص وعلى دعوته ثلاثون سنة حتى حكم ثلث المسكون من الكرة الأرضية، وحتى أزاح إحدى الدولتين الكبيرتين وأزالها من الوجود وأخضع الأخرى لهذا المنهج؟
(1) اقرأ مقالة «الفتح الإسلامي» في كتاب «فِكَر ومباحث» . وفي كتاب «أخبار عمر» مقالةٌ أخرى غيرها تحمل العنوان ذاته، وفي كليهما تفصيل وتحليل لهذه المعجزة التاريخية الكبرى، معجزة الفتح الإسلامي (مجاهد).
هذا الذي صنعه محمد صلى الله عليه وسلم وخلفاء محمد، وهذه هي قصة الفتح الإسلامي، الفتح العجيب؛ هذه المعجزة تحققت على يد الجندي العربي المسلم والقائد العربي المسلم.
الجندي العربي المسلم الذي مشى من جزيرة العرب شرقاً إلى العراق وفارس وأفغانستان وإلى الهند وأوغل فيها إلى بلاد الصين، ومشى غرباً إلى مصر وإلى آخر إفريقيا حتى وصل البحر، فوقف عليه عقبة بن نافع بفرسه وقال: اللهمّ لولا هذا البحر لمضيت مجاهداً في سبيلك.
ثم تخطَّوا البحر إلى إسبانيا حتى بلغوا قلب فرنسا، حتى جاء يوم كان البحر الأبيض المتوسط فيه بحيرة إسلامية.
تقولون: إن الجنود قد يصلون اليوم إلى أبعد من ذلك، فهذا الجندي الأميركي يأتي من أميركا إلى كوريا. إنهم -يا سادة- يأتون بالطيارات ويتنقلون بالسيارات، الجندي الأمريكي يأتيه غداؤه ساخناً ويأكله بالشوكة والسكين. أما الجندي العربي فكان يمشي على رجليه، وإن وجد دابة تعاقب عليها عدد من الجنود. في بدر تعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليٌّ ورجل ثالث على ناقة واحدة، يركب أحدهم ويمشي الآخران.
واليوم تمشي مع الجيوش تشكيلات التموين والتزويد والنقل، ولم يكن مع الجيوش العربية الإسلامية شيء من ذلك كله، بل كانوا يُعدّون زادهم بأنفسهم. وما زادهم؟ تمرات يأكلها الجندي في اليوم، ويعيش كذلك أياماً طوالاً.
كان الجندي المسلم عجيباً في صبره وكان عجيباً في
طاعته، وكان في إيثاره أعجبَ منه في صبره وفي طاعته. ألّفَ بين الجنود الترابطُ والمحبة والإيثار، ولا ينفع اجتماع الأجسام -أيها السادة- إذا لم تجتمع القلوب والنفوس. أذكر لكم حادثة واحدة من معركة اليرموك: ذهبوا بعد المعركة يفتّشون عن الجرحى، فوجدوا جريحاً يُحتضَر يطلب جرعة ماء، هي أثمن عنده من خزائن الأرض للإنسان الصحيح. فجاؤوه بها، فرأى زميلاً له جريحاً مثله يريد أن يشرب، فأبعدها عن فمه وقدّمها إليه، ورأى الثاني ثالثاً يطلب الماء فآثره على نفسه، فذهبوا إليه بالماء فمات قبل أن يصل إليه الماء، فعادوا إلى الثاني ثم إلى الأول فوجدوهما قد ماتا عَطِشين.
هذا الإيثار العجيب لا تلقونه إلا في جيوش أسلافكم. والأمانة؟ تعلمون أن العرب كانوا يعيشون في فقر وفاقة، وعندما غنموا جواهر تاج كسرى (التي كانت أغنى وأثمن من التاج البريطاني) لم يمدَّ جندي واحد يدَه إلى جوهرة فيها قد تغنيه إلى أحفاد أحفاده، وعندما جاءت الكنوز إلى عمر بن الخطاب ونظر إليها قال: إن قوماً أدّوا هذا لأمناء.
وكان عند قتيبة بن مسلم رجل أمين يجمع الغنائم ويقسمها اسمه ابن وَال، قال له أحد القادة: سأرسل إليك رسولاً ليأخذ حصة جندي من الغنائم لأوزعها عليهم. وانتظره ابن وأل فتأخر، ثم مرّ جندي فظنه هو الرسول، فدفعها إليه وقال له: خذها. فأخذها ومضى.
وفي اليوم الثاني جاء القائد يطلبها، فقال له ابن وأل: سلمتها
لرسولك البارحة. قال: لم أرسل أحداً! فاختلفا، وسمع الجندي بذلك فجاء بها برباطها لم يفكّها، وكان فيها خمسمئة ألف.
خمسمئة ألف! الجندي محتاج إلى خمسمئة منها، بل ربما كان محتاجاً إلى خمسين، فما مدّ يده إليها ولا حلّ رباطها وأدّاها على حالها، ذلك لأن الجنود كانوا يعملون لله لا يبتغون جزاء ولا وساماً.
وكان القائد الأموي مَسْلَمة بن عبد الملك يحاصر حصناً. وأعياهم حصاره فاختار فرقة فدائية لاقتحامه، وتقدّم رجل من تلك الفرقة تحت السهام معرّضاً نفسه للخطر حتى نقَبَ نَقْباً (أي صنع ثغرة) دخل منه الجند، وفُتح الحصن وكان النصر. ثم اختفى ذلك الرجل، وسأل عنه مسلمة فلم يعرفه، فجمع الجند وقال: أقسمت على صاحب النَّقْب أن يخرج. فتقدم رجل مقنَّع لا تظهر منه إلا عيناه وقال: أنا صاحب النَّقْب، وما جئت إلا لأنك استحلفتني، وأسألك الله أن لا تسألني عن اسمي وإذا عرفته فلا تخبر به أحداً، لأني عملت ذلك لمن يعطيني أكثر مما تعطيني، فإن كان عندك مال أو جائزة فقد عملته لله الذي يعطي أكثر مما عندك.
وأنتم تسمعون بالثغور. كانت على حدود البلاد يذهب إليها المتطوعون، وفي أحد هذه الثغور كان قتال بين جيش من المسلمين وآخر من الروم، ودار القتال على طريقة البِراز: خرج أحد أبطال الروم وطلب المبارزة، فخرج إليه أحد المسلمين، فقتله الرومي، ثم برز له ثان وثالث فقتلهم، ومرّ النهار على ذلك. فلما كان اليوم الثاني برز له من المسلمين فارس ملثَّم، وما زال به حتى قتله، فهلّل المسلمون وكبّروا. وبدلاً من أن يتجه الفارس إلى
الصف ليستقبله الناس هرب من خلفهم وتوارى عن الأنظار، فتبعه أحد الجند وما زال به حتى عرفه. أفتدرون من كان ذلك الرجل؟ إنه الإمام العالم المحدّث صاحب أبي حنيفة، عبد الله بن المبارك، الذي كان يحجّ سنة ويغزو سنة؛ ذلك أن علماء المسلمين كانوا يتطوعون ويسابقون الجنود إلى الجهاد في سبيل الله.
* * *
كذلك كان جنود الفتح الإسلامي، فكيف كان قادته؟
كانت القيادة العليا غالباً في يد الخليفة. وهذا عمر بن الخطاب كان يدير ثلاثَ جبهات، واحدة في الشام والثانية في العراق والثالثة في مصر، يديرها وهو في قلب المدينة، ليس أمامه هاتف (تلفون) ولا أي وسيلة من وسائل الاتصال التي نعرفها اليوم لتوصل الأخبار، وكان يقف على تفاصيل المعارك وأماكنها، فيكتب إلى قائده: اصعد إلى الجبل الفلاني، أو يقول له: استدر من هنا وهاجم من هناك! (1)
وكان الحَجّاج يقول لقوّاده: صِفوا لي مكان المعركة، فيرسلون إليه وصف المكان تفصيلاً، فكان يضع الخطة ويترك للقائد أن يتصرف بها. ويوم القادسية كان قائد جيش الفرس رستم، وكان عسكرياً مثقفاً درس الفن العسكري في زمانه ودخل معارك كثيرة، وأراد عمر قائداً من العرب يقف في وجهه، فنادى سعد بن أبي وقّاص وقال له: اذهب لمواجهة رستم!
(1) وفي كتابي «أخبار عمر» تفصيل واسع لهذا الإجمال.
فأين تخرّج أولئك القادة؟ لقد تخرجوا في جامعة مؤلَّفة من غرفة ونصف غرفة مظلمة لا نافذة لها، تحت جبل الصفا في مكة، هي دار الأرقم بن أبي الأرقم. تخرّجوا في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأضرب المثل بواحد من قُوّاد المسلمين، لو أنصفه التاريخ العسكري لاعتبره أعظم قادة التاريخ، أعظم من هانيبعل ومن الإسكندر، هو خالد بن الوليد الذي تجلّت عبقريته في الدفاع وفي الهجوم كما تجلّت في الانسحاب، يوم انسحب من معركة مؤتة بثلاثة آلاف كانوا وسط مئة ألف أو مئتَي ألف من الأعداء لو أطبقوا عليهم لسحقوهم سحقاً، ولكن هذا القائد العبقري استطاع أن يَسُلّهم من وسط المعركة سَلاً.
وأنتم تعرفون خطورة عمليات الانسحاب في الحرب الحديثة، وإذا كان الحلفاء يفخرون بالانسحاب من دَنْكرك الذي طبّلوا له وزمّروا واعتبروه حدثاً عظيماً، فإن انسحاب خالد من مؤتة أعظم منه؛ لقد كان الانسحاب من مؤتة أعظم لأن جيش المسلمين لم يخرج للقتال، بل كان سرية استطلاع ما فيها إلا ثلاثة آلاف رجل. وهل يُعقَل أن يرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف يحارب بهم دولة الروم الشرقية (بيزنطة) ومعها عرب الغساسنة وغيرهم؟ وفوجئت هذه السرية بجيش عظيم من الروم، وكان عدد الجيش -كما يذكر المُقِلّون المعتدلون من المؤرخين- مئة ألف جندي، ويقول آخرون إنه كان يقدَّر بأكثر من مئتَي ألف. وتعاقب القادة المسلمون فاستُشهدوا كما تعلمون، ثم استلم خالد بن الوليد القيادة فاستطاع أن ينجّي أولئك الثلاثة الآلاف من وسط مئة ألف!
ومن عبقريات خالد هذه الرحلة التي انتقل فيها من العراق إلى الشام لنجدة الجيوش المحاربة التي وجّهها عمر لفتح الشام. لقد تقدم خالد بحركة أجرؤ أن أقول -رغم جهلي بالعسكرية- أنها أعظم حركة في التاريخ العسكري. كان من الطبيعي أن يأتي من شمال العراق عن طريق الموصل إلى الجزيرة إلى حلب وينزل جنوباً، وكان هذا هو الطريق المأمون المعروف وفيه الماء والزاد، إلا أنه طريق يمتلئ بالمخافر الرومانية التي يمكن أن يشتبك معها بمعارك جانبية تصرفه عن المهمة الكبرى التي جاء من أجلها. فأقدم على عمل في غاية الجرأة: اخترق بادية الشام وعبَرَ الصحراء، أرضاً قَفْراً لا نبتَ فيها ولا ماء، بعد أن عطّش الإبل فشربت أضعاف ما كانت تشرب، فكانوا إذا احتاجوا الماء نحروها فاستخرجوه من أجوافها.
مثل هذه الحركة قرأتها في حرب قرطاجنّة مع الروم بقيادة هانيبعل، إذ جاء الرومان من فوق جبال الألب، وهو طريق لم يتوقعوا أن يأتيهم منه فجاءهم من خلفهم، وأعاد القصة نفسها نابليون بعد ألفَي سنة.
وعندما وصل خالد بن الوليد إلى الشام وجد جيشين للروم، أحدهما يتجمع جنوباً في فلسطين والآخر في الشمال، ففكر: هل يضرب الجيش الجنوبي أم يبدأ بالجيش الرئيسي في الشمال؟ خشي إن بدأ بالجيش الشمالي وانهزم أن يقطع عليه الجيش الجنوبي طريق الرجعة فيتمزق الجيش، وخشي إن هاجم الجيش الجنوبي أن ينشغل به أو يُهزَم فيخسر المعركة الأساسية. ثم اختار
الحل الثاني ففاجأ الجيش الجنوبي فضربه وهزمه، ولم يتعقّبه بل انصرف عنه إلى الجيش الشمالي، جيش اليرموك.
وأعاد نابليون في معركة واترلو العملية نفسها؛ فقد كان أمامه جيشان، جيش بلوخر وجيش ولنغتون، فضرب الأول ولم يتعقّبه. وبين المؤرخين الذين كتبوا عن نابليون مَن قالوا إنه اقتدى بخالد بن الوليد، إلا أن نابليون لم يستطع أن يحقق الظفر على الجيش الثاني، فقد عاقته الأمطار فعاد جيش بلوخر وكان القضاء على نابليون.
لقد وصل خالد فوجد الروم يقاتلون على نظام التعبئة، وكان المسلمون يقاتلون فُرادى على طريقة الكَرّ والفر، فراقب الروم واستوعب تعبئتهم، ثم صنع مثلها وعبأ الجيش الإسلامي تعبئة كانت هي الفاتحة لكل التعبئات التي جاءت بعدها.
وكان القائد المسلم لا تفاجئه مشكلة إلا أسعفته عبقريته وأمدّه إيمانه بحلّ لهذه المشكلة، فلا يفزع ولا يرتبك. فمن جملة المواقف التي فاجأت المسلمين يوم القادسية هجوم الفِيَلة التي لم يعرفها العرب من قبل، حتى فزعت منها خيولهم في اليوم الأول وهربت واضطرب الجيش الإسلامي، لكنهم لم يفقدوا أعصابهم بل أسعفتهم عبقريتهم بخطة معاكسة، فجاؤوا بالجمال وبَرْقَعوها ببراقع ذات ألوان مختلفة وجعلوا فيها الأجراس، ثم فاجؤوا بها خيل الفرس وأفيالها ففزعت منها كما فزعت بالأمس خيول المسلمين من أفيال الفرس.
* * *
ومن أعظم الأسلحة التي اعتمد عليها القادة المسلمون في كافة العهود سلاح الكتمان؛ سَنّ لهم ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة. كانوا في صحراء لا حدود لها، ومع ذلك فقد اتخذ من الاحتياطات ما منع وصول أي خبر إلى قريش، حتى فوجئوا بنيران الجيش الإسلامي على جبال مكة من جهاتها كلها، وكان الفتح.
وقد تقولون إن هذا من البديهيات، ولكنه عند كثير من الناس ليس كذلك، بل هو ممّا ينبغي أن يتعلموه. ولا أريد أن أعرّض بأحد، ولكنّ مَن سمع منكم ما كنّا نصنعه أيام حرب حَزيران، حين كانت الإذاعات تعلن عن تحركات الجيوش ومواقعها وكأنها تقول لليهود: تفضلوا فاضربوها! من سمع ذلك أدرك أننا نخطئ حتى في البديهيات!
* * *
أيها السادة، هل تظنون أن معارك المسلمين كانت كلها بالسيف والرمح فقط؟ لقد كانوا يستعملون أنواع الأسلحة عمَلاً بقوله تعالى:{وَأعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوّة} . وهل تعرفون أنها كانت عندهم أسلحة للحصار، منها ما كان يسمى «الدبّابة» ، ومنها «الكَبْش» لنَقْب الأسوار؟
وفي حصار عكا كان الصليبيون يحاصرونها فجاء المسلمون وضربوا حصاراً حول المحاصِرين، وتجلت في تلك الحرب فنون من المهارة ومن الحيل الحربية. جاء الصليبيون ببرج من ثلاث طبقات كأنه عمارة عالية تمشي على دواليب فوضعوه عند السور لاقتحامه، وحاول المسلمون إحراقه فلم ينجحوا لأنه كان مغطى
بجلود مدهونة بمادة لا تؤثّر فيها النار، فجاء جندي إلى رئيس مهندسي صلاح الدين (القائد الأمين والمهندس العظيم الذي افترت عليه كتب الأدب فظلمته، وهو قراقوش) وقال له: أنا أستطيع أن أصنع لكم ناراً تحرق هذا البرج. وطلب مواد ركّب بعضها مع بعض وصبّها في قُدور وأحكم إغلاقها، فصارت مثل القنابل في هذه الأيام، ثم ألقوها على ذلك البرج فانفجرت بدويّ كالرعد واحترق البرج.
هل تظنون أن المسلمين تركوه وقعدوا ينظرون إليه ويهتفون الهتافات الحماسية وينشدون الأناشيد العسكرية؟ لا، بل سحبوه بالحبال وبالكلاليب واستفادوا مما كان فيه من قناطر الحديد.
ولا تعجبوا أن يستفيد القوّاد الكبار من عبقريات العامة ومن كفاءاتهم، فهذا صلاح الدين انتبه هو وغيره من القادة إلى أن الجندي ليس الذي يقاتل في الميدان فقط، بل إن كل جندي في الميدان وراءه عشرة ينبغي أن يعملوا ليستطيع هو القتال، فحشد صلاح الدين (ومن قبله نور الدين) جميع الطاقات، بل لقد استفاد حتى من اللصوص، إذ أحضرهم وقال لهم: ألا تريدون أن تسرقوا؟ اسرقوا لي وأنا أدفع لكم!
فهل تعرفون ما الذي كانوا يسرقونه؟ كانوا يسرقون قادة الصليبين! ومِن الذين سرقوهم جوسلان، أحد أبطالهم الكبار الذين دوّخوا المسلمين؛ تسلل إليه اللصوص وكمّموه بملاءة فيها مخدّر فلم يُفِق إلا وهو بين يدي صلاح الدين!
* * *
إن أجدادنا لم ينتصروا ولم يفتحوا البلاد بكثرة عددهم أو عُدّتهم وسلاحهم، وأستطيع أن أقول إن المسلمين لم ينتصروا في معركة قط إلا كانوا أقلّ من عدوهم عدداً وأضعف منه عدّة. كانوا يقاتلون بسيوف ملفوفة بالخِرَق، فانتصروا بالإيمان الذي يحرك في الإنسان القوى المُدَّخَرة التي لا تُظهرها إلا الحاجة.
إنني الآن رجل كبير، لو أردت الجري لما استطعت أكثر من خمس دقائق، لكني لو لحقني عدو مُؤذٍ مسلح أو وحش كاسر لا أستطيع أن أقاومه لجريت نصف ساعة؛ هذه القوة المدخرة تظهر عند الهزّات، والإيمان هو الذي يُظهرها.
انظروا أولئك الذين يقاتلون في فيتنام، عندما آمنوا بما آمنوا به دفعهم إيمانهم لفعل الأعاجيب، فكيف بمَن يؤمن بأن الذي يُقتَل يُنقَل إلى حياة أسمى وأكمل، وأن ثوابه عند ربه أعظم من الدنيا كلها؟
وليس معنى هذا أن نهمل السلاح، بل السلاح لا بد منه، وقد أمرنا الله بإعداده فقال:{وَأعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة} . لكن هل هذا الإعداد لتحقيق النصر؟ لا؛ اقرؤوا آخر الآية: {تُرهِبونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُم} . أما النصر: {وَمَا النَّصْرُ إلاّ مِن عِنْدِ الله} . حتى الملائكة الذين أرسلهم الله يوم بدر، هل أرسلهم من أجل النصر؟ لا، {وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إلاّ بُشْرَى لَكُم، وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلوبُكم، وَمَا النَّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ الله} .
إنه لا بد من السلاح كما قدّمت، ولكنه لا يكفي. لو أعطينا رجلاً جباناً رعديداً مخلوع القلب أحسن السلاح وأحدثه، ثم جاءه
رجل شجاع قوي بعصا، فإنه يرمي سلاحه ويهرب أو يقتل نفسه بسلاحه! لقد دعوت من أكثر من عشرين عاماً إلى التسلّح وكتبت مقالات في مجلة «الرسالة» بعنوان «إلى السلاح يا عرب» (1)، ولكن ناشدتكم الله: هل مَلَك العرب وهل مَلَك المسلمون من السلاح في عهودهم كلها ما ملكه العرب في حرب حزيران؟ فلماذا غُلبوا؟
إننا ما هُزمنا في حَزيران، بل هُزمت فينا المبادئ المخالفة للإسلام، هُزمت فينا الخلائق التي أخذناها من عدونا، هُزم فينا خلق الانقسام وخلق التردد والانحراف.
على أن الهزائم لا تقتل الأمم، فكل أمة تصيبها الهزائم، بولندا مُسِحت من خريطة أوربا عدة مرات وأُعيدت! وكل واحد في الدنيا وكل جيش يَغلِب ويُغلَب، ولكن العاقبة لمَن يثبت على حقه ويستأنف المعركة من جديد. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم انهزم جيشه مرتين، ولكنه سرعان ما ردّ الهزيمة وحولها إلى نصر.
فإذا كانت هذه النكبة قد حاقت بنا اليومَ في فلسطين واحتلّ اليهود القدس فإني أذكّركم بواقع تاريخي: لقد جاء علينا وقت رأينا فيه غزواً أعظم وأقوى وأكبر؛ جاءتنا أوربا بأسرها، حملات كان في بعضها مليون جندي، ومليون جندي في تلك الأيام تعدل عشرة ملايين في أيامنا. كان جيش إحدى هذه الحملات أوله في عكا وآخره عند أسوار القسطنطينية! وملكت هذه الجيوش الغازية المستعمِرة هذه البلادَ وحكمت القدس نحواً من مئة سنة،
(1) منشورة في كتاب «هتاف المجد» (مجاهد).
فأين هذه الجيوش اليوم؟ لقد ذهبت، قضى عليها أبطال ثلاثة: نور الدين وصلاح الدين والملك الظاهر لما نشروا راية الإسلام وضربوا بسيف محمد الذي لا يُثلَم، فاصنعوا مثل الذي صنعوا تنتصروا كما انتصروا.
لقد جربنا تجربة صلاح الدين فأنقذنا بها بلادنا من أيدي عدونا، وجربنا تجارب أخرى فأضعنا فيها ما كان بأيدينا من بلادنا. والعاقل يعتبر بتجارب الماضي، ولا أريد أن ألقي عليكم مفاخر الماضي لتناموا عليها، فإنه لا يُشبع الجائعَ أن يكون أبوه صاحبَ موائد ولا يكسو العاري أن يكون أبوه تاجرَ ثياب، ولكن سردتُ ذلك لكي تصمّموا على أن تعيدوا هذا الماضي، وأنتم أهل لإعادته لأن هذه الأمجاد ما انقطعت فينا؛ فأنتم بنو الحرب، بنو الضرب، بنو المعارك الحمر والتضحيات والبطولات. إن في دماء كل واحد منكم ذكرى عشرة آلاف معركة خاضها الجدود، في عروق كل واحد دماء مئة مليون شهيد نثرناهم بين مشارق الأرض ومغاربها.
فإذا انهزمنا في معركة فإن أمامنا معارك. إن لهم وعد بلفور، وإن لنا وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا سنقاتل اليهود ونغلبهم، حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله (1).
(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله» أخرجه البخاري (واللفظ له) ومسلم والترمذي وأحمد، وفي لفظ لمسلم: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود=
وقد يقول قائل: يبشّرنا بقتل اليهود ودولة إسرائيل قائمة؟ إن قيام دولة إسرائيل دليل على تلك البشرى، فكيف نقاتل اليهود وهم متفرقون؟ وهل يكون القتال إلا بين دولة ودولة وبين جيش وجيش؟ فلو لم يتجمعوا في فلسطين فكيف نقاتلهم وهم بضع مئات هنا وبضعة آلاف هناك، متفرقون تحت كل كوكب؟
لا تشكّوا بأنفسكم ولا ينقص يقينكم بوعد ربّكم، فالمستقبل لكم والنصر ينتظركم، ولكن لا بد من الأخذ بالأسباب، فالله هو الذي يشفي المريض، ولكن إذا لم يأخذ المريض الدواء فلا يشفى المريض. لكل شيء سبب، فما هو سبب النصر؟ قلنا إن النصر ليس بالسلاح وليس بالملائكة، وإنما النصر كما قال الله عز وجل:{إنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أقْدَامَكُم} ؛ فالنصر من عند الله.
وانظروا إلى هذه البطولات في حروب الاستقلال، فهذا عبد?الكريم الخطابي الذي خرج على الإسبان والفرنسيين في المغرب، جاء وقت وقف فيه في وجه جيشين عظيمين، الجيش الفرنسي وعدده مئة وخمسون ألفاً والجيش الإسباني وعدده مئة ألف.
وهذه حوادث قريبة ليست مخترَعة ولا مرتجلة. في سوريا بعد أن دخل الفرنسيون كانت البرقيات والصحف تتحدث عن
= فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغَرْقَد فإنه من شجر اليهود» (مجاهد).
معركة جسر تورا بين الفرنسيين والثوّار، فما هو جسر تورا هذا؟ إن من يقرأ صحف تلك الأيام يظن أنه مثل جسر سان فرانسيسكو. إنه جسر من خشب وخلفه استحكامات من الطين، على مسافة عرضها أربعة أمتار! وقفت أمامه جيوش فرنسا (التي خرجت من الحرب العالمية الأولى أقوى دولة برية في العالم) ثمانية عشر شهراً، لأنه كان جسراً يحميه الثوار بقيادة حسن الخراط الذي لم يتخرج من مدرسة عسكرية ولا غير عسكرية؛ لقد كان خفيراً ليلياً، رجلاً أمّياً ثارت في نفسه النخوة العربية والكرامة الإسلامية، واستطاع أن يحتل دمشق ويستخلصها من أيدي الفرنسيين ثلاثة أيام!
واذكروا ما صنع العراقيون في الرُّمَيثة بعد الحرب العالمية الأولى في معارك الاستقلال، وما صنع الجزائريون بالأمس القريب. هذه البطولات ما تزال فيكم؛ إن هذا الشعب أطيب شعوب الدنيا وأشجع شعوب الدنيا، لقد دُعي للتضحية أكثر من عشرة آلاف مرة ولبى، ولو دُعي عشرة آلاف مرة أخرى فإنه يلبي.
* * *
وشيء أخير أقوله لكم، نصيحة من أخ لكم: أنتم نذرتم أنفسكم للجهاد، وقد تتعرضون لمخاطر لا بدّ للجندي منها، فإذا انسدّت يوماً في وجوهكم السُّبُل، إذا رأيتم أنفسكم في ضَنْك، إذا لم تجدوا ملجأ أو مخرجاً على الأرض، فاذكروا أن هناك باباً لا يُسَدّ أبداً، هو باب الله، هو باب السماء. فمُدّوا أيديكم وقولوا «يا الله» قبل أن تمضوا.
أيها الإخوة، قبل أن تمضوا إلى المعركة ليَقُل العاصي: يا ربّ، إني أتيت إليك، إني أترك أهلي وأمضي مجاهداً في سبيلك ولإعلاء كلمتك، فاكتبها لي شهادة، ولا تحرمني الحياة الدنيا بالموت والحياة الأخرى بخسران الجنة.
توجّهوا إلى الله، واجعلوا شعاركم الذي تهتفون به أمام كل قلعة وفي كل واد وعلى كل رابية هتافَ آبائكم الذي كان يأتيهم به النصر، ذلك النشيد الذي لم تسمع أذن الزمان أعظم منه روعة ولا أعلى منه رفعة، نشيد «الله أكبر» . ومهما كبر العدو فاعلموا أن الله أكبر منه، وثقوا أنكم إن كنتم جنداً لله فإن جند الله منصورون دائماً، وإذا كنتم مع الله بقلوبكم فلن يغلبكم أحد، لا إسرائيل ولا من هم وراء إسرائيل:{وإنّ جُنْدَنا لَهُمُ الغَالِبونَ} .
والسلام عليكم ورحمة الله.
* * *