الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله أكبر
نشرت سنة 1971
لا يَحْزُنْكم أنّ أعداء الإسلام لا يزالون أشدَّ قوةً وأكثرَ عدداً وأجمعَ لوسائل النصر، فلقد قلت من قديم إنهم في مثل ضياء الأصيل، يملأ الدنيا ولكنه إلى الزوال، وما هو إلا أن يأتي الليل فيسدل على دنياهم ثوبه الأسود. ونحن في غَبَش الفجر، لا نزال نعالج بقايا الليل ولكنّ النهار أمامنا، ستطلع الشمس فتطرد فلول الظلام.
ألا ترون إلى صفوف المصلين كيف يقوم فيها الكبير والأمير إلى جنب الصعلوك والفقير، يضعون جميعاً جباههم على الأرض؟ إن المسلمين الأوّلين لمّا أهووا بجباههم إلى الأرض حيث تطأ النعال، خضوعاً لله وحده، جعل الله رؤوس الملوك تنحني خضوعاً لهم وتيجانَهم تتهاوى على نعالهم. فما في الدنيا جبين أعز من جبين المسلم ولا جبهة أكرم؛ إنها لا تذلّ إلا لله، لا تذلّ لأحد سواه، والذُّل لله عز. هذه الجباه التي جعل الإسلام أصحابَها سادة الدنيا وقادتها.
* * *
والصلاة في نظر المسلم ليست تكليفاً شاقاً يقوم به، ولكنها متعة من أعظم المُتَع يحظى بها.
يروي الناس الحديث فيجعلونه «حُبّب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجُعلت قرة عيني في الصلاة» . وليس في نص الحديث كلمة «ثلاث» ؛ الحديث: «حُبِّب إليّ من دنياكم الطيب والنساء، وجُعلت قُرّة عيني في الصلاة» (1). ذلك لأن متعة الصلاة ليست من جنس مُتَع الدنيا. مُتَع الدنيا لا تدوم؛ إما أن تزول أنت عنها أو تزول هي عنك، إما أن تتركها أنت أو تتركك هي، ولو بقيَت عليك لما بقيت لها متعتها. ألا ترون الفقير حين تمرّ به سيارة الغني، فيتوهّم أنه إنْ مَلَكها ملك الدنيا وجُمعت له لذاذاتها ونعمها وإن ركب فيها يوماً فقد نال ما هو من الأحلام؟ ولكن سلوا صاحبها الغني: هل يجد فيها هذه المتعة؟ ويمرّ الفقير بقصر الغني فيحسب أنه إن كان له مثله فقد نال الأماني كلها، فسلوا صاحب القصر: هل يجد فيه هذه المتعة التي يتوهمها الفقير؟
إن لذائذ الدنيا إذا نالها الإنسان وأَلِفَها ذهبت الألفة بمتعتها، وصارت عادة له يَالَمُ لفقدها ولكنْ لا يحسّ بوجودها، إنها كالسراب. ألا تعرفون السراب؟ ترونه من بعيد ماءً صافياً، فإذا وصلتم إليه لم تجدوا إلا الرمل والتراب. وكذلك لذائذ الدنيا، لا تُرى إلا من بعيد. لقد كنتم في النهار وأنتم صائمون في هذا الحرّ تشتهون شربة ماء بارد وطبق طعام شهي، فها أنتم أولاء الآن وقد أكلتم حتى شبعتم وشربتم حتى رويتم، لو أُجبرتم على ما كنتم
(1) أخرجه النسائي وأحمد (مجاهد).
تتمنونه في النهار من الطعام والشراب ألا ترونه تعذيباً؟ ذلك لأن اللذّات المادية لها حدّ تقف عنده، واللذة الباقية التي لا حدّ لها هي لذة الروح.
يحرص الإنسان على جمع المال ونيل الجاه، يكِدّ ويتعب ويسعى ويذهب ليزداد مرتّبه ويعلو منصبه ويكثر ربحه ويرتفع جاهه، فإذا مرض المرض العضال أو ذهب سمعه أو بصره تمنى أن يخسر ماله فيعود فقيراً أو يضيع جاهه كله فيكون صعلوكاً ليخلص من مرضه وتعود صحته. وإذا ابتلي بداء العشق وعرف لوعة الحب، سهر ليله وترك طعامه وأفنى جسده وأذهب صحته، ليفوز من الحبيب بساعة لقاء وينعم منه بلحظة وصال. فإذا ذاق لذة الخلوة بالله ومتعة المناجاة في الأسحار والصلاة في الليل والناس نيام، وجد أوهام العشق قد تبددت وذهبت كما ذهب تمثال من الثلج سطعت عليه الشمس.
فالمتع واللذات درجات أدناها اللذات المادية، لذة المال والجاه، وفوقها لذة الصحة التي يكون بها بقاء الجسد، وفوقها لذة العاطفة التي تكون بها متعة النفس، وفوقها كلها لذة الروح التي تكون بها سعادة الدنيا والآخرة. وكل هذا مشاهَد محسوس، ولكن من الناس من يقف عند الدرجة الأولى فلا يهمّه إلا المال، ومنهم من يرقى درجة أخرى فيهتم بالصحة، ومنهم من يرقى الدرجة الثالثة فيكون من أهل العاطفة وأرباب القلوب، ومنهم صفوة قليلة مختارة تبلغ ذروة السلّم وتصل إلى الدرجة العليا، وهؤلاء هم خِيار البشر.
لذلك جعل الرسولُ صلى الله عليه وسلم الصلاةَ متعة لا تعدلها متع الدنيا. هذا إذا أدرك المسلم وهو يصلي معنى الصلاة، فقام لله رب العالمين مخلصاً محتسباً، يفكر في معاني ما يقول وما يتلو، يَرِد عليه من الخواطر السامية ومن الإلهامات ما لا يمكن حصره بالألفاظ ونقله بالكلام.
لذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «جُعِلَت قُرّة عيني في الصلاة» ، ولذلك كان يقول:«أرحنا بها يا بلال» (1)؛ أرحنا «بها» لا أرحنا «منها» ! ولذلك قال بعض الصالحين: لو عرف الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف.
فالذي يقوم هذا المقام خمس مرات كل يوم لا يمكن أن يصرّ على الفحشاء والمنكر، لأنه إذا زلّ ونسي لحظة ذكّرته الصلاة. ولذلك شبّه النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمسَ بنهر على باب الإنسان يغتسل فيه خمسَ مرات كل يوم (2). من يغتسل خمس مرات كل يوم هل يكون وسخ الجلد؟ فكيف تكون وساخة النفس مع الصلوات الخمس؟
* * *
والمسلم حين يقوم في الصلاة ويقول: «الله أكبر» تَصْغُرُ في قلبه الدنيا كلها. وما الدنيا كلها؟ إن كرة الأرض إذا قيست
(1) من حديث أبي داود (مجاهد).
(2)
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَل الصلوات الخمس كمَثَل نهرٍ جَارٍ غَمْرٍ على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، فماذا يُبقي ذلك من الدّرَن؟» . أخرجه مسلم وأحمد (مجاهد).
بالشمس كانت حصاة في جبل، والشمس كلها إذا ألقيت في بعض النجوم العملاقة التي تبدو لنا نقطاً مضيئة في الليلة الصافية كانت كرملة في صحراء. وهذه النجوم كلها، وهي ملايين، إذا قيست بالسماوات كانت كنقطة في بحر، والسماوات كلها أصغر من العرش والكرسي. فما هي قيمتك أنت في هذا الكون العظيم؟ وما عمرك على هذه الأرض؟
فإذا تصورت عظم هذه الكون وكبره الهائل فاذكر أن هذا هو المخلوق، وأن الله وحده هو الخالق، وأنك قائم بين يدي الله تقول: الله أكبر!
لذلك كانت كلمة «الله أكبر» شعارَنا في سلمنا وحربنا، وكانت مدخلنا إلى صلاتنا. لذلك نرددها في كل حركة من حركات الصلاة: إذا جاء الشيطان يوسوس لك أنْ عجّل في صلاتك فإن أمامك عملاً كثيراً، فقل: الله أكبر. إذا قال لك: أسرع فإن ضيفاً كبيراً ينتظرك لتفرغ من صلاتك، فقل: الله أكبر.
«الله أكبر» ، هذا النشيد العلوي الذي لم يهتف لسان الأرض ومَن فيها، ولم تسمع أُذُن الكون نشيداً أسمى منه سُموّاً ولا أروع منه روعة، هذا الذي هتف به المسلمون في كل معركة خاضوها وأمام كل عدو واجهوه، هتفوا به في السهل والجبل، وفي البر والبحر، فكان النصر حليفهم في معاركهم كلها، لأن من كان مع الله لا يغلبه عدو مهما كبر لأن «الله أكبر» .
* * *