المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌طريق الدنيا وطريق الآخرة

‌طريق الدنيا وطريق الآخرة

نشرت سنة 1988 (1)

قلت إنها ظهرت فينا أفكار غريبة ما كنا نعرفها ونحن صغار، وسَرَت فينا كلمات جاءتنا على عهد الاستعمار، وردّدها ولا يزال يرددها مَن تخرجوا في مدارس المستعمرين وتربوا على أيديهم، وصدّق بها كثير من الناشئين وظنوها -لسكوتنا عن إنكارها- حقائق مسلَّمة.

من ذلك قولهم: «الدين لله والوطن للجميع» ، وقولهم بفصل الدين عن السياسة، وتسميتهم العلماء برجال الدين. وأمثال ذلك من الكلمات التي قَبِلها قومٌ منا على أنها حقائق، وشكّ فيها قوم وسألوا عن صحتها. ولا يمكن الحكم عليها إلا بعد معرفة معنى كلمة «الدين» .

إن الذين وضعوا هذه القواعد هم من النصارى، ونحن

(1) * نُشرت هذه المقالة في سلسلة «صور وخواطر» في جريدة «الشرق الأوسط» يوم الخميس 28/ 1/1988، ثم أصدرتها دار المنارة في رسالة مستقلّة كتب لها الشيخ رحمه الله مقدمة قصيرة لطيفة، فمن شاء قرأها فيها (مجاهد).

ص: 229

أخذناها منهم وطبّقناها على الإسلام، مع اختلاف معنى كلمة «الدين» عندنا وعندهم. الدين عند النصارى -كما جاء في أكبر المعاجم، كدائرة المعارف البريطانية ومعجم لاروس الكبير- هو ما يحدد صلة العبد بالله؛ أي أن الدين عندهم قاصر على الكنيسة ولا علاقة له بالحياة ونظمها ومعاملاتها، وذلك ما يقابل عندنا «باب العبادات» .

ولكن الإسلام ليس ديناً فقط لأنه لا يقتصر على العبادات، ويكفي أن تمدوا أيديكم إلى كتاب من كتب الفقه وتنظروا في أبوابه لتروا أن فيه باب العبادات (وهذا هو الدين بعرف النصارى) وباب المعاملات (وهو ما يسمى بالقانون المدني) وباب الزواج والطلاق (وهو ما يسمى بقانون الأحوال الشخصية) وباب السِّيَر أو الجهاد (وهو ما يعرف بالحقوق الدولية) وباب الإمامة العظمى (وهو ما يسمى بالحقوق الدستورية) وباب الحدود (وهو القانون الجنائي أو الجزائي) وباب الوصايا والمواريث وباب الآداب.

فالإسلام دين، وقانون مدني، وقانون جزائي، ودستور وقانون دولي، وأخلاق وتوجيه وآداب.

فإذا قالوا بفصل الدين عن السياسة وأخذنا بهذا القول كان معناه أن لا ندخل باب العبادات في السياسة. والعبادات لا دخل لها في السياسة ولا دخل للسياسة فيها، ولكن ماذا نصنع إذا كانت السياسة نفسها جزءاً من ديننا؟ لا أعني بالسياسة النزاع الحزبي ولا التزاحم على كرسي الوزارة ولا السباق إلى مقاعد النيابة، بل أعني المبادئ السياسية والخطوط العريضة فيها.

ص: 230

وإذا سمّوا قساوستهم رجال الدين فلأن القساوسة لا عمل لهم إلا إقامة الصلاة وما يدعونه بالقُدّاس وسماع الاعترافات، أما العالِم المسلم فهو رجل دين ورجل دنيا، لأن الدين والدنيا في الإسلام أخَوان لا ينفصلان، لا كما يقول بعض جَهَلة الخطباء على منابر الجمعة أنهما ضرتان لا تأتلفان.

وإذا قال النصارى إن الغني لا يدخل ملكوت السماوات فإن الإسلام سمّى المال في القرآن «خيراً» فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْراً الوّصِيَّةُ} ، وقال عن الإنسان:{وإنّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَديد} . وقرّر أن الغني الشاكر والفقير الصابر في الفضل سواء.

وإذا ألزم النصارى دينهُم (أو ما يقولون إنه دينهم) أن يدير المضروب على خده الأيمن خدّه الأيسر للضارب فإن الإسلام أمر المسلمين بأن يردوا العدوان بمثله فقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} وقال: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، وهذا هو العدل، {فَمَنْ عَفَا وَأصْلَحَ فأجْرُهُ عَلَى اللهِ} وهذا هو الإحسان، والله يأمر بالعدل والإحسان.

أي أن الإسلام أمر المسلمين أن يدفعوا القوة الظالمة الباغية بالقوة العادلة الرادعة، فإذا ظفروا وتمكنوا من الخصم وعفوا فإن العفو أفضل. والمسلم إنما يعفو عن حقه الشخصي لأنه صاحبه يتنازل إن شاء عنه، أما حق الله فليس لأحد أن يتنازل عنه.

* * *

فالإسلام -إذن- دين ودنيا وعبادة وأخلاق وقانون، لا ينطبق

ص: 231

عليه ما ينطبق على غيره؛ فلا ينفصل الإسلام عن السياسة لأن سورة براءة مثلاً -وهي من القرآن- من صميم السياسة الدولية، فهل نفصل سورة براءة عن القرآن ونقرّ مَحْوَها من المصاحف؟

والإسلام فيه حل لكل المشكلات البشرية، وفيه نظام اقتصادي كامل هو الحق بين الباطلين: باطل الرأسمالية المعروفة بالأثرة وباطل الشيوعية.

والإسلام لكل زمان ومكان. في الكتاب والسنة حكم المعاملات المصرفية على اختلافها، لكنها ليست مذكورة في كتب الفقه. وكيف تُذكَر فيها ولم تكن في الدنيا مصارف لمّا أُلِّفت هذه الكتب ولا معاملات مصرفية؟ كيف يذكر كتاب «المغني» حكم التأمين على السيارة وقد أُلِّف قبل أن تخترع السيارة وقبل أن يوجد نظام التأمين؟

إن علماءنا الأوّلين استنبطوا من الكتاب والسنة الحلول الكاملة لمشكلات عصورهم، فعلينا أن نستخرج نحن الحلول لمشكلات عصرنا. إن الحل موجود ولكنه يحتاج إلى تنقيب وبحث عنه لاستخراجه، كما نستخرج من المناجم التي نشقّها المعادنَ التي أودعها الله باطن الأرض. وهذا فرض كفاية على القادرين عليه من العلماء، فإذا لم يَقُم به أحد منهم أثموا جميعاً، ودفعوا الحكام إلى أخذ القوانين الأجنبية التي لم تُستمَدّ من الإسلام ولم توضع لبلاد المسلمين. إنها كالثياب الجاهزة المُعَدّة على مقياس واحد، والإسلام ثوب فصّله الله لنا على مقياس أجسامنا، فسد فيه حاجاتنا وحقق فيه آمالنا ودلنا فيه على طريق السعادة في دنيانا وأخرانا.

ص: 232

ولقد صدق ابن القيم رحمه الله حين قرر في كتابه العظيم «الطرُق الحُكميّة» أن جمود الفقهاء وتضييقهم الواسعَ من شرع الله هو الذي دفع الحكام إلى أخذ الأحكام من عند غير المسلمين. ولما كنت أيام الوحدة مستشاراً في محكمة النقض، في القاهرة وفي دمشق، كانت مناقشات بيننا وبين إخواننا المستشارين، فكتبت مقالة في مجلة القانون التي كانت تصدرها وزارة العدل في سوريا عنوانها «حلول قديمة لمشكلات جديدة» استخرجت فيها من كتب الفقه حلولاً لمشكلات يحسبها الناس قد جَدّت الآن، فمَن شاء منكم رجع إليها فاطّلع عليها (1).

إن من مشكلاتنا أننا نمشي مع الناس، لا ننظر أيسيرون في طريق الحق أو في طريق الباطل، نتخذ ذلك سنة لنا في حياتنا الفردية وفي حياتنا العامة، حتى إننا أخذنا من غيرنا مبدأ اتّباع الأكثرية ولو كانت على ضلال.

إن مما يعوقنا عن سلوك سبيل الشرع هو اتّباع الناس. وأنا لا أقول لكم خالفوا الناس واخرجوا عن مألوف العادات، فإذا لبس الناس الحذاء بأرجلهم علقتموه أنتم بأعناقكم، وإذا ناموا على الفراش ناموا أنتم في مغطس (بانيو) الحمّام، ولا أقول لكم: إذا رأيتموهم يمشون إلى اليمين فامشوا أنتم إلى اليسار لتخالفوهم!

بل أقول لكم: اجعلوا الدين هو المقياس، فإن رأيتم الناس يمشون في طريق الحرام فلا تمشوا معهم، ولا تحتجّوا بالأكثرية

(1) وهي منشورة في كتاب «فصول إسلامية» (مجاهد).

ص: 233

فإن أكثر الناس غالباً على ضلال، والله يقول:{وإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَنْ في الأرْضِ يُضِلّوكَ عَنْ سَبيلِ الله} ويقول: {وَمَا أكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنين} .

وهل الحق دائماً مع الكثرة؟ لو قرر أطباء المستشفى الثلاثة وجوب إجراء العملية الجراحية للمريض، واجتمع الخدم والممرّضون والبوّابون والفرّاشون، وكانوا ثلاثين، وطالبوا بترك العملية وإهمالها، هل نتّبع رأي الثلاثين من الخدم والممرضين والبوابين والفراشين أم نتبع رأي الأطباء الثلاثة؟ ولو قرر ربان الطيارة الهبوط بها لأن الوقود أوشك أن ينفد منها وطالب الركابُ الثمانون باستمرار الطيران، هل نأخذ برأي الثمانين لأنهم هم الأكثرية أم برأي الربان الواحد؟

يا إخواننا، الرجال تُعرف بالحق والحق لا يُعرَف بالرجال، ورأي الواحد إن كان معه الدليل الساطع أولى من رأي الألف إن لم يكن معهم دليل.

لو بلغ أتباع المبطلين مئة مليون، بل ألف مليون، وبقي على الأرض محق واحد، لكان هذا الواحد أهدى سبيلاً من ألف المليون (1).

ألا تذكرون أن هتلر وموسوليني وأمثالهما من المتسلطين كانوا يخطبون في الدعوة إلى باطل النازية والفاشية فيهتف لهم مئة ألف أو يزيدون، فأين اليوم هؤلاء الهاتفون؟ وكم رأينا من زعماء

(1) هذا هو التعبير الفصيح، ولو قلت «الألف المليون» لصحّ قولك أيضاً.

ص: 234

العرب من يخطب قوماً يَسمعون ولا يفهمون! والدليل على ذلك أنهم يقاطعون الخطيب ويتركونه بين المبتدأ والخبر أو بين الفعل والفاعل، قبل أن يتم الجملة، ليهتفوا ويهرّجوا ويصرخوا مثل المجانين! أليس هؤلاء الهاتفون هم أنفسهم الذين كانوا يُجمَعون فيهتفون لمن كان قبله على عهده؟ وإنهم سيُجمَعون فيهتفون لمن سيجيء من بعده؛ يقولون ما يُقال لهم ويرددون ما ألقي عليهم، الطبل يجمعهم والعصا تفرقهم! كلا؛ لا يعبأ الله بهم.

* * *

يقولون إنه لا يَصِحّ إلا الصحيح ولا يبقى إلا الأصلح، هذا هو عندهم قانون التطور، ولعله سنّة من سنن الله في الكائنات. فإذا كانت هذه المذاهب الأرضية الملحدة هي الصحيحة وكانت هي الأصلح فستبقى، وإن كان الصحيح هو دين الله وكان الأصلح ما شرعه الله لعباده فإن الباقي هو كتاب الله الذي أنزله وتعهد بحفظه، وستذهب ضلالات العصر كما ذهبت من قبلها مئات من الضلالات. أين ما كان يدعو إليه هتلر وموسوليني؟ وأين مِن قبلهما ما دعا إليه فرعون وهامان؟ إنها ستُنسى هذه المذاهب ولا يبقى من الناس من يعرفها إلا طلاب الدراسات العليا في الجامعات، وسيأتي يومٌ يسأل عنها الطلاب ليعرفوا ما هي، كما يسألون اليوم: ما هي القُرْمُطية؟ وما هي المَزْدَكية؟ وما هي المانَويّة؟

إن للباطل جولة، ولكن العاقبة للحق. فلا تغترّوا بجولة الباطل، ولا تشكّوا في إسلامكم، ولا تقدّموا واقع الناس على حقيقة دينكم، ولا تكونوا إمّعة تقولون: إنْ أحسنَ الناس أحسنّا

ص: 235

وإن أساؤوا أسأنا، إن تعامل الناس بالربا تعاملنا بالربا مثل الناس، وإن كشف الناس العورات كشف نساؤنا العورات مثل الناس، وإن ترك الناس حكم الله وأخذوا قوانين البشر فحكموا بها في محاكمهم عملنا مثل ما يعمل الناس.

لا، ولكن اتبعوا الحق.

كثير من المسلمين قد انحرفوا اليوم عن طريق الشرع، وتعارفوا ما ينكره الدين، ورجع بعضهم في بعض بلاد الإسلام إلى أخلاق الجاهلية الأولى، بل إلى ما هو شر منها، لأن الجاهلية الأولى كان فيها الشرك، وهو رأس الذنوب وأكبر الخطايا، ولكن كان فيها الصدق والشهامة والغيرة على الأعراض. هل قرأتم أو سمعتم بحفلة يختلط فيها النساء متكشفات بالرجال الأجانب، فيراقص فيها أبو لهب زوجةَ أبي جهل؟ هل سمعتم عن نساء الجاهليين من كانت تُبدي للرجال عورتها أو تنزل البحر لتسبح أمامهم وما في جسمها مستور إلا السوأتان والثديان؟ أوَليس فيمن يدّعي اليوم أنه من المسلمين (الذين سمّاهم الأمير شكيب أرسلان بالمسلمين الجغرافيين) من يصنع هذا؟

أنا لا أذمّ أحداً بعينه ولا أتكلم عن أحد، وهذه حال المسلمين ظاهرة تعرفونها بأنفسكم ولا تحتاجون لمن يصفها لكم.

* * *

يا إخوان، الذي أريد أن أقوله لكم هو أن تتبعوا حكم الشرع ولو خالف ما عليه الناس، ولا تتبعوا الناس إذا خالفوا الشرع، فإن الناس لا يغنون عنكم من الله شيئاً والله يعصمكم من الناس.

ص: 236

وهذا الذي أطلبه منكم أعلمُ أنه صعبٌ عليكم، لا يقدر عليه إلا مَن أمدّه الله بقوة من عنده. ونحن الآن في آخر الزمان، الذي خبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر.

والصبر على مثل جمر الدنيا أهون من الصبر على جمر الآخرة، واذكروا دائماً حديثاً من أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، أتمنى أن يكتبه كل واحد منا وأن يضعه أمامه على مكتبه، أو أن يعلقه في جدار مجلسه حتى يراه في صباحه ومسائه. يقول صلى الله عليه وسلم:«من طلب رضا الله بسَخَط الناس رضي عنه الله وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله سخط عليه الله وأسخط عليه الناس» (1).

إن في هذه البقعة من الأرض دعوات كثيرات: دعوات يسارية، ودعوات قومية، ودعوات إلى حزبيات متعددة مختلفة، فدعوها كلها وتمسكوا بدعوة الإسلام.

أنا أضرب لكم مثلاً (2): صحراء كبيرة يمر فيها طريق

ص: 237

للسيارات يصل بلدانها الشرقية العامرة ببلدانها الغربية العامرة، وفي وسط الطريق مناطق قد جرف السيل فيها الطريق المعبد فصار وعراً صعباً كله حجارة متراكمة، ولكن لا بد من المرور عليها ريثما يتم إصلاح الطريق. وقد اغتنم بعض المفسدين هذه الفرصة، وهم عصابات كثيرة في تلك البلاد، فشقّوا على جوانب الطريق الوعر طرقاً فرعية عبّدوا أولها ليخدعوا الناس، وأقاموا على جانبيها المقاهي والملاهي والمطاعم تخرج منها أصوات الموسيقى والغناء، يحسبها الجاهل مقاهي ومطاعم حقيقية مع أنها أماكن خادعة أُعِدّت لسلب الأموال عن طريق الخمر والنساء والمفاسد، فمن دخلها لم يخرج منها إلا مفلساً، وربما خرج وقد حمل معه بعض الأمراض السارية التي لا تفارقه حتى تفارق جسده روحه. وقد كتبت الحكومة لوحات فيها تحذير منها وبيان للطريق الموصل، ولو كان وعراً.

فإذا جئت تلك البلاد ورأيت أمامك الطريق الوعر الذي فيه الحجارة والمصاعب، ولكنه يوصل إلى الأمان والاطمئنان والمدن الكبيرة التي تبتغي فيها الإقامة الدائمة، ورأيت فيها هذه الطرق الفرعية السهلة المعبَّدة التي فيها الطعام والشراب واللذة والراحة، ولكنّ مَن سلكها يخسر صحته وماله ولا يرجع منها إلا مريضاً مفلساً. فأي الطريقين تسلك؟

هل تصبر على صعوبة الطريق المستقيم ووعورته أملاً ببلوغ الأمن والسعادة في نهايته، أم أنت تغترّ باللذة العاجلة في هذه الطرق الفرعية؟

ص: 238

هذا -يا إخوان- مثال طريق الجنة وطريق النار، هذا هو المثال تماماً. طريق الجنة صعب ولكن آخره السعادة الدائمة، وطريق النار سهل ولكن آخره الشقاء الباقي. حُفَّت الجنة بالمكارِهِ وحُفَّت النار بالشهوات.

الداعي إلى النار عنده كل شيء لذيذ، يقول لك: انظر إلى العورات الجميلة، تمتع بالمال الحرام، افعل كل ما تميل إليه نفسك، إذا اشتهيت فآت نفسَك شهوتها، وإذا غضبت فابطش، وإذا رغبت في شيء فخذه، لا تفكر إلا في الساعة التي أنت فيها، كن إباحياً، كن وجودياً، لا تذكر الموت ولا تشغل فكرك بالآخرة.

وهذا كله سهل لذيذ على النفس. الإفساد سهل لأن المفسد يأخذك إلى المرقص لترى ما تميل إليه نفسك، يعطيك المجلات الخليعة والقصص المكشوفة والصور الداعرة، وقد يدلك على أماكن وجودها، وربما ساقك إليها. أما المصلح فماذا عنده؟ ما عنده إلا المنع من اتباع الهوى؛ إذا عرض لك الجمال المحرم قال لك: إياك أن تنظر. وإن أمكنك الربح المحرم قال لك: إياك أن تأخذ، إياك أن تتبع الهوى. ويقول لك: اترك نومك اللذيذ وقم إلى صلاة الفجر، خالف رغبتك في الطعام وصم رمضان، احمل المشاقّ واذهب إلى الحج. وإن سمعت الغيبة ومالت نفسك إلى المشاركة فيها قال لك: لا تغتب، بل اترك المجلس وقُم إذا لم يبدّلوا الحديث. وإن اتبع النساء الموضة ولبسن القصير قال لكِ: لا تعملي مثلهنّ واثبتي على الحجاب.

ص: 239

طريق الجنة أوله صعب، ولكن إن صبرت على صعوبته وصلت إلى دار اللذة الدائمة. وطريق النار أوله سهل جميل، ولكن إذا غرّك جماله أبلغك دار الشقاء الدائم.

كالطالب ليلةَ الامتحان إذا كان أهله كلهم مجتمعين على الرائي (التلفزيون) يرون الفلم الجميل وكانت نفسه تميل إلى مشاركتهم، إذا اتبع هوى نفسه وآثر هذه اللذة المؤقتة سقط في الامتحان، وإن قاوم رغبة نفسه وقام إلى كتابه ودرسه، نال لذة النجاح التي هي أكبر من لذة النظر إلى الفلم.

والقوة في مقاومة النفس. إذا سمعت من الإذاعة حديثاً دينياً جدياً أو قرأته في الجريدة، وسمعت من المحطة الأخرى أغنية لذيذة لفلانة المغنية أو فلان، وتركت الأغنية للحديث، فأنت قوي الإرادة لأنك سلكت الطريق الأصعب. إنك تكون قد صعدت، والصعود إلى العلاء صعب، أما الهبوط فهو هيّن.

اتباع الشهوات مثل الصخرة التي تتدحرج من رأس الجبل، حرّكْها من مكانها تنزِلْ وحدَها بلا تعب، إن التعب والصعوبة في إعادتها إلى مكانها. خزّان الماء المبني في رأس الجبل اثقبه بالمحفار ينزل ماؤه كله إلى الوادي بلا تعب، إنما التعب والصعوبة في إعادته إلى مكانه.

فمن كان يحب الراحة ولا يريد أن ينزعج ولا أن يخالف نفسه ولا أن يتحمل مشقة، فهذا لا يستطيع سلوك طريق الجنة.

إن من يريد أن يسلك طريقها عليه أن يعد نفسه للمتاعب والمشقات، وأن يصبر عن المعاصي اللذيذة فلا يقربها، وأن يصبر

ص: 240

على الطاعات الصعبة فلا يقصّر فيها. {أمْ حَسِبْتُم أنْ تَدْخُلوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الذينَ جَاهَدوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرين؟} .

إني أرى الناس عندما تُقرَأ في الإذاعة أحاديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي فيها النور وفيها الهدى لا يكاد أكثرهم يهتمّ، إلا إن سمع أنّ دعاء يُدعَى به أو كلمات تقال فيكون منها الغفران ويكون بسببها دخول الجنة. أمّا إن سمع في الحديث دعوة إلى عمل فلا يكاد يتنبه إليه.

يا أيها الإخوان، يبدو أننا لا نريد أن نعمل وإنما نريد أن ندخل الجنة بالكلام!

* * *

ص: 241