الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا الله
!
حديث أذيع سنة 1962 (1)
حدثتكم في الأسبوع الماضي حديث تلك الأسرة الأميركية التي أصيبت رِجلُ ولدها بالمرض حتى قضى عليها الطبيب بالقَطع، وقلت لكم إنهم لما استشعروا العجز ولم تبقَ في أيديهم حيلة مدّوا أيديهم إلى الله يطلبون منه الشفاء وحده، يطلبونه بلا سبب يعرفونه لأنها قد تقطّعت بهم الأسباب. فلمّا دعوا نظروا فإذا الورم بدأ يخفّ والزرقة تمّحي والألم يتناقص، ثم لم يمضِ يومان حتى شفيت الرِّجْل تماماً، وجاء الطبيب فلم يكد يصدق ما يراه.
وأنا لا أقول: اتركوا المريض بلا دواء واسألوا الله له الشفاء. ولا أقول: دعوا النار تمشي في الدار، لا تصبّوا عليها دلوَ ماء واسألوا الله الإطفاء. ولا أقول: اقعدوا لا تطلبوا الرزق وانتظروا أن يهبط عليكم الذهب من السماء.
(1) * هذا هو حديث الاستسقاء الذي أذيع من إذاعة دمشق يوم الجمعة 21/ 10/1960، وقد سبقه حديث وأعقبه حديث أشار إليهما جدي رحمه الله في ذكرياته المنشورة ونقل فقرات منهما (انظر الحلقة 157 في أول الجزء السادس)، أما هذا الحديث فلم يُنشَر منه قبل اليوم شيء قط (مجاهد).
لا، بل اتخذوا الأسباب كلها واعملوا ما استطعتم، ولكن اعلموا أن الأسباب لا تخلق النتيجة؛ فقد تُحضر لمريضك مَهَرة الأطباء وتشتري غالي الدواء فلا يشفى، ويشفى مريضٌ مثله بلا عناية ولا علاج. وتُعِدّ لأولادك أطيبَ الطعام فلا يهضمونه ولا يستفيدون منه، ويصحّ أولاد الفقراء وهم لا يأكلون إلا الخبز والبصل. وقد تفتح الدكانَ وتعد فيها أجود الأشياء وتبيع بأرخص الأسعار وتتخذ لذلك ألوان الدعاية والإعلان، فلا تربح إلا ألفاً، ويقع جارك على صفقة عارضة فيربح منها عشرة آلاف بلا دعاية ولا إعلان.
ذلك أن وراء الأسباب إرادةً عليا تصرّف هذا الكون، هي إرادة الله؛ فأنت حين تدعو الله تقول: يا الله، أنا عملت ما عليّ ولكن النفع والضرر بيدك وحدك، أنت إن شئت تجعل الدواء شافياً، وأنت تجعل إن شئت الطعام نافعاً، وأنت الرازق وأنت النافع، فاكتب لي النجاح وأجب السؤال.
فالأسباب لا تُنكَر، ولكن الدعاء هو أقوى الأسباب.
فإذا وصل الداعي إلى منزلة الاضطرار ويئس من الأسباب، وقنط من الخلق وعلق أمله بالله وحده، فإن الله يستجيب له كما استجاب لهذه الأسرة الأميركية. قال تعالى:{أمَّنْ يُجيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ ويَكْشِفُ السّوءَ ويَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَرْضِ؟ أإلهٌ مَعَ الله؟ قَليلاً ما تَذَكّرون} . يجيب المضطرَّ ولو كان كافراً، فلقد كان المشركون إذا ركبوا البحر وغَشِيهم موجٌ كالظُّلَل يدعون الله دعوة المضطر فيستجيب الله دعاءهم وهم مشركون، بل إن إبليس نفسه
لما دعا الله ربَّه دعوة المضطر فقال: «ربّ أنظرني إلى يومِ يُبعَثون» قال: «إنك من المنظَرين» !
* * *
فيا أيها السامعون، إن سُدَّت الطرق أمامكم وضاقت عليكم الأرض فإن طريق السماء لا يُسَدّ أبداً، وإنّ كرم الله لا يضيق بسائل. وإذا كانت أبواب الملوك عليها الأقفال والحُجّاب فباب ملك الملوك مفتوحٌ دائماً. وإذا رأيتم أنهارَكم قد صارت سواقي وجنّاتكم أوشكت أن تغدو صحاري، وينابيعكم شحّت بالماء ومواشيكم هلكت من العطش، ورأيتم أنكم في تشرين والجوّ كأنه جوّ آب ما في السماء قطعة سحاب، فلا تقنطوا ولا تيأسوا، واعلموا أنه ليس بينكم وبين الفرج إلا أن تَمُدّوا أكفَّ الضراعة وتتوجهوا إلى الله بقلوب قد أخلصت التوبة وصدقت التوجّه وتقولوا: يا الله.
كلما دهمكم خَطْبٌ وابتغيتم المعونة فقولوا: «يا الله» . وكلما أصابتكم شدة وفقدتم المساعد فقولوا: «يا الله» . قولوا: «يا الله» تُحسّوا بأن قلوبكم قد غمرها الاطمئنان وبأن نفوسكم قد عاد إليها الأمل. ولكن لا تقولوها وأنتم مقيمون على المنكرات، تعصون الله وتنادون: يا الله! ولا تقولوها وأنتم ظالمون آكلون لحقوق الناس، ولا تقولوها تجربة لربكم، كما قال لي أمس أحد المشايخ: ألا تخاف أن نخرج إلى الاستسقاء ونحن علماء البلد، فلا ينزل المطر فيشمت الناس بنا؟ فقلت له: أرجو ألاّ تخرج، لأن الله لن يستجيب دعاءك ولا حاجة لنا بخروجك!
إننا نريد ناساً يخرجون معنا الجمعةَ القادمة للاستسقاء وهم يعلمون أنهم يُحيون سنّة ويقومون بعبادة، لا يفكرون بجاه ولا منزلة ولا يبالون بالناس. ولذلك كان من سنّة الاستسقاء أن يكون الخروج بالثياب العتيقة التي ليس فيها أناقة ولا مفاخرة، المقصود من ذلك أن نطرح الأنانية وحب الجاه ونخلص النية لله.
علينا أن ندعو ونتضرع، أما نزول المطر فبيد الله وحده، إن أنزله علينا فبرحمته لا بعملنا، وإن منعه فبذنوبنا وبهذه المنكَرات الفاشية فينا.
أفما سمعتم بحادثة بورسعيد التي روتها الجرائد كلها ومشى بحديثها الركبان؟ حين أشعل المستعمرون (أيام العدوان) الحرائق، وانحصرت فئة من المجاهدين في بقعة أحاطت بها من أطرافها كلها النار وعزّ منها الفرار، وأكلت النار كل شيء حتى التهبَ زفتُ الشارع ووصلت إليهم. وكان فيهم نفر قلائل سبّوا وشتموا، ولكن الأكثرين رجعوا إلى الله لمّا رأوا الموت، ورفعوا أعينهم إلى السماء حين قطعوا الأمل من الأرض، ونادوا نداء المضطر من قلوب قطعت علائقها بكل شيء ووصلتها بالله، يجأرون ينادون: يا الله!
وكان الصيف وكانت الشمس ساطعة زرقاء، فما هي إلا أن ضجّوا بالدعاء حتى تلبّدت السحب وهطلت الأمطار كأفواه القِرَب، وأطفأ الله النار. أنزل الله المطر لمّا دعوا بإخلاص واثقين من الإجابة. أمّا الذي يقول مثل الذي قال لي الشيخ أمس، لا يهمّه إلا الناس وأقوال الناس، فليطلب المطر من الناس.
* * *
إن كل إنسان يعود في ساعة الخطر مؤمناً، لأن الإيمان مستقر في كل نفس؛ عندما تغرق السفينة وتبقى وحدك على لوح من الخشب بين السماء والماء لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي:«يا الله» ! وعندما تضلّ في الصحراء المقفرة ويحرق العطش جوفك، وترى الموت من كل مكان لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي:«يا الله» ! وعندما يُزمِن المرض ويشرف المريض وينفض الأيدي الأطباءُ لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: «يا الله» ! وعندما تتعاقب سنوات القحط ويمتدّ انقطاع المطر وتغور الآبار وتشحّ العيون لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: «يا الله» !
هنالك لا يبقى إلا الله، وهنالك ينسى الملحدُ إلحادَه والماديّ ماديتَه ويقول الجميع: يا الله!
ولكن لا تنتظروا ساعة الخطر لترجعوا إلى الله، فقد جاء في الحديث أن مَن دعا الله في الرخاء يستجيب له في الشدة. وإن على الداعي أن يدعو وهو واثق من الإجابة، فإن الله إن لم يعطِه ما سأل أعطاه غيره، والمرء لا يعرف مصلحته وقد يدعو بما فيه مضرّته، كالولد الذي يرى الدواء فيقول لأبيه: أريد منه. فالأب لمعرفته بمصلحته ورحمةً به لا يعطيه ما يضره. والله أرحم بعباده من الأب بولده، لأن الأب إذا سبّه ولده أو أساء إليه قطع عنه رِفْدَه وأعرض عنه، والبشر يسبّون الدين ويكفرون بالله وهو يطعمهم ويسقيهم ويعطيهم كل خير. فإذا دعوتم ولم تجدوا الإجابة فلا تيأسوا؛ فإن الله أعرف بما يصلحكم.
* * *
فيا أيها الناس، اكدحوا في الحياة واسعوا وجِدّوا وغامروا في هذه الدنيا وسابقوا الأمم، ولكن لا تعتمدوا على أنفسكم وحدها ولا تقطعوا الصلة بالله، بل كونوا معه دائماً، كونوا معه باتّباع أوامر الشرع، واجتناب المحرَّمات، وستر العورات، وابتغاء الصالحات.
كونوا كمن يخترق الصحراء بسيارته أو يقتحم الجوّ بطيارته أو يركب مَتن الموج بسفينته، يعتمد على نفسه وخبرته ودقة آلاته، ولكنه لا يرفع سماعة اللاسلكي عن أذنه، حتى إذا ضلّ أو خاف استنجد بمَن يهديه أو يحميه. واللاسلكي عندكم هو الدعاء.
ولكن لا تَدْعوا دعاء الكسالى الخاملين الذين يقعدون عن اتخاذ الأسباب ويتمنون على الله الأماني، ولا دعاء القوّالين الكذّابين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم والذين يريدون بدعائهم إعجاب الناس وإظهار سعة الحفظ وكثرة العلم. إن الدعاء الذي هو «لاسلكيّ» الأمان هو ما يصدر عن قلب حاضر ولسان صادق وثقة من الإجابة، أما الدعاء باللسان فقط -مهما كان الداعي جيد اللفظ بليغ العبارة واسع المحفوظ- فهو كمن يتكلم في سماعة الهاتف كلاماً جميلاً جيداً، ولكن الشريط مقطوع!
* * *