الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فطرة الإيمان
نشرت سنة 1967
جاءني يوماً رجل أعرفه رقيق الدين، فقال لي: لقد أصابني البارحةَ مغصٌ موجِع جعلت أتلوّى من ألمه وحسبت أن أمعائي تقطعت منه، فرجعت إلى الله، فتبت من ذنوبي وعزمت على ألاّ أعود إليها.
ومثل هذا يقع لكثير من الطلاب أيام الامتحان، ولكثير من المرضى عند اشتداد الألم وعجز الطبيب؛ يعودون إلى ربهم ويُقبلون على عبادتهم. فهل سألتم أنفسكم: ما السبب في هذا وأمثاله؟ لماذا نجد كل مَن وقع في شدة يرجع إلى الله؟
نذكر جميعاً أيام الحرب الماضية والتي قبلها (1) كيف كان الناس يُقبلون على الدين ويلجؤون إلى الله، والرؤساء والقوّاد يَؤمّون المعابد ويَدْعون الجنود إلى الصلاة. ولقد قرأت في مجلة «المختار» (المترجَمة عن مجلة دايجست الأمريكية) مقالة نُشرت أيام الحرب لشاب من جنود المظلات -يوم كانت المظلات والهبوط بها شيئاً جديداً- يروي قصته فيقول إنه نشأ في بيت ليس
(1) يريد الحربين العالميتين (مجاهد).
فيه من يذكر الله أو يصلي، ودرس في مدارس ليس فيها دروس للدين ولا مدرّس متدين، ونشأ نشأة «علمانية» مادية، أي مثل نشأة الحيوانات التي لا تعرف إلا الأكل والشرب والسّفاد، ولكنه لمّا هبط أول مرة ورأى نفسه ساقطاً في الفضاء قبل أن تنفتح المظلة جعل يقول:«يا الله، يا رب» ويدعو من قلبه. وهو يتعجب: من أين جاءه هذا الإيمان؟
وبنت ستالين نشرت من أيامٍ مذكراتها، فذكرت فيها كيف عادت إلى الدين وقد نشأت في غمرة الإلحاد، وتعجب هي نفسها من هذا المَعاد.
وما في ذلك عجب؛ فالإيمان بوجود الله كامن في كل نفس. إنه فطرة (غريزة) من الفِطَر البشرية، والإنسان «حيوان ذو دين» . ولكن هذه الفطرة قد تغطّيها الشهوات والرغبات والمطامع والمطالب الحيوية المادية، فإذا هزتها المخاوف والأخطار والشدائد ألقت عنها غطاءها فظهرت. ولذلك سُمّي غير المؤمن «كافراً» ، ومعنى الكافر في لسان العرب «الساتر» .
ولقد وجدت تأييد هذه الفكرة في كلمتين متباعدتين في الزمان والمكان والظرف والقصد، ولكنهما متقاربتان في المعنى. كلمة لعابدة مسلمة تقية معروفة هي رابعة العدوية، وكلمة لكاتب فرنسي ملحد معروف هو أناتول فرانس.
أناتول فرانس يقول في معرض كفره وإلحاده إن المرء يؤمن إذا ظهر بنتيجة فحص البول أنه مصاب بالداء السكري (يوم لم يكن قد عُرف الأنسولين). ورابعة قيل لها: إن فلاناً أقام ألف دليل على
وجود الله. فضحكت وقالت: دليل واحد يكفي. قيل: وما هو؟ قالت: لو كنت ماشياً وحدك في الصحراء وزُلّت قدمك فسقطت في بئر لم تستطع الخروج منها، ماذا تصنع؟ قال: أنادي «يا الله» . قالت: ذاك هو الدليل.
في قرارة نفس كل إنسان الإيمان بالله؛ هذه حقيقة نعرفها نحن المسلمين لأن الله خبّرنا أن ذلك فطرة فطَرَ الناسَ عليها، وقد عرفها الإفرنج من جديد.
دوركايم، أستاذ الاجتماع الفرنسي المشهور، له كتاب في أن الإيمان بوجود إله بديهية.
هل تعرفون ما البديهية؟ هي القضية التي لا تحتاج إلى دليل لأن كل العقول على اختلاف الأزمنة والأمكنة تقول بها. «الجزء أصغر من الكل» ، هذه بديهية. مَن يشك أن الرغيف أكبر من نصف الرغيف؟ الطفل إذا أخذتَ منه قطعة حلوى وأعطيته نصف قطعة يبكي، إنه يعرف أن الجزء أصغر من الكل لأنها بديهية.
وكذلك وجود الله؛ لا يمكن أن يعيش الإنسان ويموت من غير أن يفكر في وجود إله لهذا الكون. ربما يقصر عقله فلا يهتدي إلى المعبود بحق فيعبد من دونه أشياء، ولكنه يعبدها على توهّم أنها هي الله أو أنها تقرّب إلى الله، ثم إذا جَدّ الجِدّ وكانت ساعة الخطر رجع إلى الله.
مشركو قريش كانوا يعبدون هُبَل واللات والعُزّى. أتعرفون ما هُبل؟ صنم من العقيق جاء به عمرو بن لحيّ من الشام، من
الحِمّة التي فيها الينابيع المعدنية (1)، قالوا له إنه عظيم قادر فحمله على جمل وجاء به، فسقط على الطريق فانكسرت يده فعملوا له يداً من ذهب.
إله تنكسر يده! وكانوا مع ذلك يعبدونه. يعبدونه في ساعات الأمن، فإذا ركبوا البحر وهاجت الأمواج ولاح شبح الغرق لم يقولوا: يا هُبَل، بل قالوا: يا الله.
وهذا مشاهَد إلى اليوم؛ عندما تغرق السفن أو تشب النيران أو يكون الخطر أو يشتد المرض، تجد الملحدين يرجعون إلى الدين. لماذا؟ لأن الإيمان غريزة، وأصدق تعريف للإنسان أنه «حيوان مؤمن» .
وانظروا إلى هؤلاء الملحدين الماديين عندما يأتيهم الموت. هل تظنون أن ماركس ولينين لمّا أيقنا بالموت دَعَوا «وسائل الإنتاج» التي يؤلّهانها أم دَعَوا الله؟
ثقوا أنهما لم يموتا حتى دعوا الله، ولكن حين لا ينفع الدعاء. وفرعون تكبر وتجبر وقال: أنا ربكم الأعلى! فلما أدركه الغرق قال: آمنتُ بالذي آمنَت به بنو إسرائيل. آمن في الساعة التي لا يفيد فيها الإيمان.
* * *
قالوا: «الطبيعة» ، الطبيعة أوجدت الإنسان، الطبيعة وهبت الغريزة للإنسان. قلنا: ما الطبيعة؟ كلمة «الطَبيعة» في اللغة معناها
(1) والتي أخذها اليهود بعد حرب الثلاثة الأيام.
«مطبوعة» (1)، فمَن طبعها؟ قالوا: الطبيعة هي المصادفة، قانون الاحتمالات.
هل تعرفون ما مثال هذا الكلام؟ إنه مثال اثنين ضاعا في الصحراء، فمرّا على قصر كبير عامر، فيه الجدران المزخرفة المنقوشة والسجاد الثمين والساعات والثُرَيّات. فقال الأول: إن رجلاً بنى هذا القصر وفَرَشه. فردّ عليه الثاني وقال: أنت رجعي متأخر، هذا كله من عمل الطبيعة. قال: كيف كان بفعل الطبيعة؟ قال: كان هنا حجارة فجاءها السيل والريح والعوامل الجوية فتراكمت، وبمرور القرون وبالمصادفة صارت جداراً. قال صاحبه: والسجاد؟ قال: أغنام تطايرت أصوافها وامتزجت، وجاءتها معادن ملوِّنة فانصبغت، وتداخلت فصارت سجّاداً. قال: والساعات؟ قال: حديد تآكل بتأثير العوامل الجوية وتقطع وصار دوائر وتداخل، وبمرور القرون صار على هذه الصورة.
ألا تقولون: إن هذا مجنون!
* * *
يا سادة، إن الإيمان بالله موجود في قرارة كل نفس، ولكن هل يكفي أن نعتقد بوجود الله وأنه خالق كل شيء لنكون مؤمنين؟ إذا جاءك إنسان يقول إنه يؤمن بأن الله هو رب العالمين وهو خالق كل شيء وهو الذي تقوم به الكائنات كلها، هل تعده مع المؤمنين؟
(1) وزن «فَعيل» يأتي بمعنى «مفعول» ، مثل قَتيل (بمعنى مقتول) وجَريح (بمعنى مجروح)، إلخ (مجاهد).
إن العرب الذين كانوا في مكة والذين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسفّهَ عقائدَهم والذين سمّاهم القرآن مشركين كانوا يؤمنون بذلك، ويعترفون بأن الذي خلق السماوات والأرض هو الله. فلو كان هذا الاعتراف يكفي وحده لكانوا مؤمنين لا مشركين. فإذا جاءك هذا الإنسان يقول لك إنه يؤمن أيضاً بأن الذي يملك الموت والحياة ويتصرف في هذا الكون، ويعطي ويمنع ويضر وينفع، هو الله. هل تقول إنه صار من المؤمنين؟
لا، بل لا بد من شرط ثالث؛ هو أن يسلك سلوكاً يوافق هذا الإيمان، فتكون عبادته لله وحده، لا يشرك معه أحداً فيها ولا يجعل وسيطاً يعبده معه ليقربه إليه. قال تعالى:{قُل أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ، مَلِكِ النّاسِ، إلهِ النّاس} .
لقد علمني الله في تفسير هذه السورة معاني لم أجدها في كتاب من كتب التفاسير؛ هي أن الله قال {رَبّ الناس} ، {مَلِك النّاس} ، {إله النّاس} ، ما قال: رب الناس وملكهم وإلههم، إشارة إلى أنها ثلاث حقائق، كل حقيقة قائمة بذاتها مستقلة عن الأخرى، وكلها حق وصدق، وأنتم -يا معشر قريش- تؤمنون بأنه رب الناس وأنه ملك الناس، ولكنكم ترفضون أن تؤمنوا بأنه إله الناس. فلماذا تفرّقون بين قضايا متماثلة؟
إنها حقائق ثلاث سواء في الثبوت والصحة، فلماذا تصدقون باثنتين منها ولا تصدقون بالثالثة؟ مع أن مَن آمن بأن الله رب الناس وملك الناس لزمه لزوماً عقلياً أن يؤمن بأنه إله الناس، فلا يتخذ معه إلهاً غيره ولا يوجّه إلى غيره قليلاً أو كثيراً من معاني العبادة ومظاهرها.
ولعلي أعود -إن شاء الله- إلى عرض المعاني التي انجلت لي عند تلاوة هذه السورة، التي لا يتنبّه لروائع معانيها إلا الأقل الأقل من العلماء (1). وما أقول هذا فخراً ولا ادّعاء، فما أنا إلا طالب علم صغير، ولكن الله ربما منّ على الصغير فكشف له ما يخفى مثله على العالم الكبير.
* * *
(1) تفسير هذه السورة وغيرها (كالفاتحة والعصر والإخلاص والفلق والتكاثر) ستكون بين أيدي القراء حينما يصدر كتاب «نور من القرآن» إن شاء الله (مجاهد).