الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما قَدَروا الله حقّ قدره
!
حديث أذيع سنة 1969
كان حديث المجالس في الأسبوع الذي مضى هو وصول البشر إلى القمر. وهو حادث عظيم يستحق أن يُتكلَّم فيه وأن يُعلَّق عليه، وأن يُعجَب به ويُعجَب منه، ولكنه لا يستحق أن يزلزل عقائدنا أو يزعزع إيماننا. فلقد ظن قوم أن البشر قهروا الطبيعة وأنهم وصلوا إلى السماء، وسمعت هذه الأقوال من الأفواه وقرأتها في الصحف، فتعجبت والله من قائليها.
وهَبْهُم فرحوا بصاروخ أوصلوه إلى القمر وحسبوا -من جهلهم- أنهم شاركوا بذلك الله في ملكه، فخبّروني: ما القمر بالنسبة إلى هذا الكون؟ أين القمر من السماء؟ بل أين القمر من الشمس؟ إذا فرضنا أن القمر يبعد عنا بمقدار ما يبعد باب الحرم عن مقام إبراهيم فإن الشمس تكون أبعدَ من جاوة عن باب الحرم!
هل تصورتم الآن بُعد الشمس عنا؟ إن هذا البعد إذا قسناه بسرعة الضوء كان نحو ثمان دقائق، فاعلموا أن من بين هذه النجوم التي تبدو نقطة في الظلام أو هي تضيع في هذا الوهج الذي نسميه
«نهر المجرّة» ، من بينها ما يصل ضوؤه إلينا في عشرة آلاف ألف ألف سنة، أي في عشرة مليارات سنة (1)؛ فالشمس بالنسبة إليها كأنها لاصقة بنا، وما قيمة ثمان دقائق بالنسبة لعشرة مليارات من السنين؟ فكيف إذن بالقمر؟
فما قيمة القمر؟ وما بعده عنا بالنسبة إلى هذا الفضاء وما فيه؟
هل تريدون أن تعرفوا ما هي السماء؟ لقد ذكرت لكم طرفاً من هذا في حديث مضى، لا أعرف تاريخه وليس عندي نصه، ولا بأس من العودة إليه. السماء -يا سادة- كرة عظيمة. وكلمة «عظيمة» لا تصف حقيقتها، ولكن ليس عندي غيرها. كرة مغلقة تحيط بهذا الفضاء كله، أي أن هذا الفضاء الهائل بكل ما فيه داخل هذه الكرة، وهذه الكرة هي السماء الدنيا وسمكُها اللهُ أعلم به. وبعدها أخرى أكبر منها هي السماء الثانية، إلى سبع سماوات؛
(1) عدد النجوم في مجرّتنا («دَرْب التبّانة» كما سمّاها العرب أو «الطريق اللبَني» كما هي في لغات الغرب) يزيد على مئتَي مليار نجم، وقطرها نحو مئة ألف سنة ضوئية. أقرب نجم إلينا من هذه النجوم -بعد الشمس- هو «بروكسيما قنطورس» ، ويصل ضوؤه إلينا في نحو أربع سنوات وربع السنة. أما الأجرام القَصِيّة التي بلغت بُعداً حيّر العلماء فهي «الكوازَرات» (وتسمى أحياناً «أشباه النجوم»)، وأقصى ما اكتُشف منها إلى اليوم يبعد عن مجرّتنا نحو أربعة عشر مليار سنة ضوئية. ويُظَنّ أن هذه الكوازرات ليست سوى مراكز مجرات بالغة القوة تحتوي على ثقوب سوداء هائلة الضخامة، قد تبلغ كتلةُ الواحد منها كتلةَ مئة مليار شمس كشمسنا! (مجاهد).
كرات كل واحدة تحيط بالتي قبلها، وبين كل واحدة والأخرى فضاء لعله أكبر من هذا الفضاء، تأتي بعدها مخلوقات أكبر منها وأعظم لا يتصور عقل البشر مدى كبرها وعظمها، هي العرش والكرسي، والجنة التي عرضها كعرض السماوات والأرض، والنار التي بين كل طبقة منها وطبقة مسيرة خمسمئة عام (1).
وهذا الذي قلته لم أجده في كتاب ولم أنقله عن أحد، ولكن هو الذي فهمته من نصوص الكتاب والسنة. وقد فسّر شيخنا المغربي رحمه الله (في تفسير جزء تبارك) السماء بأنها مدارات الكواكب، وهذا خطأ مردود؛ فالله قد وصف السماء بأنها بناء، أي جسم مادي لا حدّ وهمي، وأنها سقف مرفوع، وأنهنّ سبع سماوات طِباقاً. ولا تكون طباقاً إلا إذا كانت مثل الكرة التي تحيط بها كرة أكبر. وجاء في حديث المعراج بأن لها أبواباً تُفتَح وتُغلَق، وفي القرآن {فَفَتَحْنا أبْوَابَ السّماء} وفيه {باباً مِنَ السّماء}. وورد فيه أن السماء تُفتَح يوم القيامة وأنها تنفطر وتتشقق. أما أن هذه الكواكب دون السماء فقد أخذته من قوله تعالى:{وَزَيَّنّا السّمَاءَ الدُّنْيا بِمَصابيحَ} ، وهذه المصابيح هي الكواكب لقوله في الآية الثانية:{بِزينَةٍ الكَواكِب} .
* * *
فهل معنى الوصول إلى القمر الوصول إلى السماء؟ أين القمر
(1) لهذا الإيجاز تفصيل في مقالة «ما هي السماء؟» ، فمن أحب قراءتها فليرقبها في كتاب علي الطنطاوي:«فصول في الثقافة والأدب» الذي أرجو أن يصدر عمّا قريب بإذن الله (مجاهد).
من الشمس؟ ولو نحن وصلنا إلى الشمس فأين الشمس من أحد هذه الكواكب (أي النجوم)؟ فهل يمكن أن نصل إلى واحد منها؟ إننا لو اخترعنا مركبة تسير بسرعة الضوء، أي أنها تقطع ثلاثمئة ألف كيل في الثانية، لوصلنا إلى بعضها بعد مليارات من السنين. فكيف نصل إلى السماء؟
وفي مقابلة هذا العالَم الذي لا يتصور العقل البشري مدى اتساعه عالَم آخر لا يتصور العقل دقته؛ هو عالَم الذرة. إن في الذرّة التي لا يمكن أن تراها العين ولا بالمجهر الإلكتروني فضاء مصغراً عن هذا الفضاء، تسبح فيه أجسام صغيرة، كهارب (إلكترونات)، تدور من حول النواة كما تدور السيارات من حول الشمس.
فتصوروا الفرق بين سعة عالَم السماء وضيق عالَم الذرة، هذه الدقة التي لا يتصورها العقل مقابل ذلك الكبر الذي لا يتخيله العقل! وما الإنسان بينهما؟ إنه إذا قاس نفسه بعالم الذرة فأخذته العزة لكبره فليقسها بعالم الكواكب، بالسماء، ليستشعر الهوان من صغره وضآلته. ولكنّ طبيعة البشر من الغرور:{قُتِلَ الإنْسَانُ ما أكْفَرَه} !
* * *
وهذا كله المخلوق، فما بالكم بالخالق؟ هل تظنون أننا إذا وصلنا إلى القمر أو إلى المريخ نكون قد شاركنا الله في ملكه؟
إن مَثَلَ الذين فتنهم عن دينهم أن البشر طيّروا صاروخاً إلى القمر مَثَلُ جماعة من النمل خرجت من وكرها في يوم عاصف،
فجرّت قشة حتى وضعتها في مهب الريح فحملتها الريحُ مسافة خمسة أذرع، فقالت: لقد سيّرنا كوكباً وصرنا آلهة! وكفرت بذلك بعض سخيفات النمل كما كفر بالصاروخ بعض سخفاء البشر. أمّا أهل الفكر فإنهم يجدون في كل كشف جديد لبعض ما أودع الله في هذا الكون من أسرار دليلاً جديداً على وجود الله ووحدانيته، وأنه لا إله إلا هو.
إن الله قد أودع الكون هذه الأسرار لتكون داعية إلى الإيمان لا حافزاً إلى الكفر: {إنّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللَيْلِ والنّهارِ لآياتٍ لأولي الألبَابِ، الذينَ يَذكُرونَ اللهَ قِياماً وقُعوداً وَعَلى جُنُوبِهِم، وَيَتفكّرونَ في خَلْقِ السّماواتِ والأرْضِ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً، سُبحانَكَ فَقِنَا عَذابَ النّار} .
فلا تغترّوا يا أيها الناس ولا تنسوا ربكم، فإن مُلك ربّنا أعظم مما يظن الجاهلون؛ إن ملك ربنا أكبر بكثير. لا إله إلا الله؛ ما قَدَروا الله حق قدره، سبحانه وتعالى عما يشركون!
* * *