الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روح الصلاة
نُشرت سنة 1967
كنت في زيارة صديق لي، شيخ من المشايخ الصالحين المُرَبيّن، وكان في المجلس اثنان من رفاق ولده من الشباب الأحداث المتأنّقين. فأذن المغرب فاستعددنا للصلاة، ولكن أحد الشابين لم يتحرك، فقال له الشيخ: ألا تصلي؟ قال: لستُ متوضئاً. قال: هذا الماء. قال: شكراً، لا أريد الوضوء. قال الشيخ: الأمر سهل ما فيه مشقة. قال: لا، شكراً.
فتركناهما وصلينا. فلما قُضيت الصلاة فكّر الشيخ فرأى أنه يأثم إن تركهما، فقال لهما: يا أولادي، يقولون إن المغرب غريب، أي أن وقته قصير، وإذا أردتما الصلاة في داركما لم تلحقاها.
قال الشاب الثاني: أقول لك الصحيح؟ نحن لا نصلي. قال: ولماذا لا تصليان؟ فقال (بلهجة نابية وجفاء ظاهر): هذه أمور شخصية لا دخل لأحد فيها، ويكفي أني لا أضرّ أحداً ولا أسرق مال أحد.
قال الشيخ: هذه أمور شخصية في نظرك ونظر من أخذوا
برأي الأجانب، أما في نظر الإسلام فلا؛ إن من الواجب على كل مسلم أن ينصح أخاه وأن يرشده، وأن يأمره بالمعروف وأن ينهاه عن المنكر.
قال الشاب: وهل الدين بالصلاة؟
فقلت أنا: نعم، بالصلاة؛ لا الإسلام فقط بل الأديان كلها. ليس في الدنيا دين، سواء في ذلك الدين الصحيح الذي هو الإسلام والأديان الباطلة، إلا وعماده الصلاة. وإلا ففيمَ يكون الدين؟ هل يكون بالرقص والتمثيل والقفز على الحبل؟ إن الشيخ يدعوك إلى فرض فرضه الله عليك لم يفرضه عليك هو.
قال: أنا لا أنكر أن الصلاة فرض، وأنا أحبّ أن أصلي، ولكني عندما أرى بعض المصلين أنفر من الصلاة. عندنا في المدرسة شاب يصلي دائماً ويقرأ الأوراد، وهو دجال محتال بعيد عن الأمانة مجانب للاستقامة.
قلت: لهذا تركت الصلاة؟ قال: نعم. قلت: لماذا تأكل إذن؟ قال: لماذا لا آكل؟! قلت: لأن بين من يأكلون من هو لص خبيث ساقط محتال. قال: ما لي وما له؟ الأكل ضروري لحياة الجسد. قلت: والصلاة ضرورية لحياة الروح، فما لك ولهذا الذي قلت إنه دجال؟
فسكت. قلت: وشيء آخر، هل تعتقد أن رفيقك الدجال المحتال يصلي؟ قال: نعم.
قلت: لا يا بني، إنه ما صلّى. {إنّ الصّلاةَ تَنهى عَنِ الفَحْشَاءِ
والمُنْكَر}؛ هذا قول الله، وقد شرحه رسوله صلى الله عليه وسلم فبيّن أن مَن لم تنهَه صلاتُه عن الفحشاء والمنكر، وكان قد فعلها رياء وتظاهراً، لم يزدد من الله إلا بعداً. انظر إلى كاتب الأمير الذي يدخل عليه كل ساعة مرة، هل يخرج من عنده فيتكلم عليه أو يشتغل بما لا يرضيه ويخالف عن أمره؟ وكيف، وهو يعلم أنه سيدخل عليه بعد ساعة وسيسأله عمّا فعله؟
فكيف يأتي الفحشاءَ والمنكر من يدخل الحضرة الإلهية ويقوم بين يدي الله خمس مرات كل يوم؟ لذلك شبه الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصلوات الخمس بنهر على باب المسلم يغتسل فيه خمس مرات في اليوم. هل يكون وسِخَ الجلد قذر الجسد من يغتسل خمس مرات في اليوم؟ لا، إن صاحبك ما صلى، ولو قام وقعد وركع وسجد وتلا وذكر، وأدى الشروط الظاهرة والأركان والواجبات والسنن. هذا كله جسد الصلاة، فإن لم يكن معه الإخلاص وحضور القلب كانت صلاته جسداً بلا روح.
قال أحد الحاضرين: وكيف يكون الإخلاص؟
قلت: بأن يكون قصدك من الصلاة امتثال أمر الله وعبادته وطلب رضاه، لا أن يكون قصدك تقدير الناس وأن يقولوا: فلان متعبد. ولا أن تتخذ من حسن رأيهم فيك وسيلة إلى مالهم أو جاههم، فتكون قد جعلت الدين سلماً إلى الدنيا.
والصلاة أهم الأعمال كلها في نظر المسلم، وقد يترك من أجلها كلّ عمل من الأعمال مهما كان كبيراً، ولا يتركها من أجل عمل من الأعمال مهما كان كبيراً.
وينبغي أن تحدَّد مواعيد الأعمال كلها في المجتمع الإسلامي تبعاً لأوقات الصلاة، مواعيد الدروس في المدارس، والدوام في الوظائف، والتجارات في الأسواق، والحفلات والرحلات والمباريات، وألاّ يُسمَح في المجتمع الإسلامي لعمل من الأعمال أن يعطل الصلاة أو يؤخرها عن وقتها.
وقد غضب الناس في دمشق مرة لأن المجلس النيابي جعل بداية موعد جلسة من جلساته قبل المغرب بنصف ساعة، فاستمرت الجلسة إلى هزيع من الليل فضاعت صلاة المغرب. وقد يقوم من يشاء من الأعضاء فيصلي، ومع ذلك غضب المسلمون لأن هذا التهاون بالصلاة في بلد إسلامي لا يجوز.
وكان في دمشق من سنين احتفال رسمي كبير في الملعب البلدي، يضم أكثر من ثلاثين ألفاً، فبدؤوه قبل المغرب بقليل. فلما حان موعد الصلاة كان الوزير يخطب خطبة الافتتاح، فوقف أحد المشايخ وأذّن بصوت عال وأقام الصلاة، فقام معه جمهور الحاضرين وتركوا الوزير يخطب وحده، فاضطر إلى السكوت. وكان فيمن قام إلى الصلاة هاشم بك الأتاسي رحمة الله عليه، وكان يومئذ رئيس الجمهورية.
وقد لام ناسٌ هذا الشيخَ وكتبوا في الجرائد ينقدونه، فكتبت أدافع عنه وقلت: إن الذنب ذنب مَن حدّد وقت هذا الاحتفال. وقلت لهم: لو أن الاحتفال بدأ الضحوة واستمر إلى الليل ولم يُراعَ فيه وقت الغداء، فهل يُلامُ مَن يترك الاجتماع ويقوم ليأكل أم يلام من دعا إلى الاجتماع وقت الغداء؟ فلماذا لا تنكر على
من يدعو إلى الاجتماع وقت الصلاةِ والصلاةُ خير من النوم ومن الطعام؟ ثم إن الصلاة ليست للفرد وحده ولكن الصلاة للناس كلهم، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي التي تُصلح المجتمع وتمنع العدوان وتهذب الأخلاق، ولا سيما إن صُلِّيت في المساجد مع الجماعات.
* * *
نحن لا نعرف قيمة صلاة الجماعة. إن هذه الجماعة مثل المجالس المحلية التي تعمل على كل ما فيه خير للحارة، تقر التكافل الاجتماعي فتعين المحتاج وتساعد الفقير وتداوي المريض، وإن احتاجت الحارة إلى إصلاح طريق راجعت الجماعةُ الحكومةَ لإصلاحه، وإن ضاقت المدرسة سعت لتوسيعها، وإن كان فيها مَفسَدة أو منكر عملت على إزالته. والمجالس المحلية عند الناس تجتمع مرة في الأسبوع، ولكن مجالسنا المحلية تجتمع خمس مرات كل يوم.
هذه هي المجالس المحلية للحارات. وهناك مجلس محلي للحي كله يجتمع مرة في الأسبوع، وهو صلاة الجمعة، ومجلس للمدينة كلها يجتمع مرتين في السنة، وهو صلاة العيد، ومجلس إسلامي عام، وهو المؤتمر الذي ليس له نظير في الدنيا ولم يعرف البشر قبله ولا معه مثله، وهو الحج.
إن هذه الصلاة هي أساس صرح الحضارة الإسلامية، وهي الدافع لهذه الفتوحات، هي الركيزة لهذا المجد الذي نطح النجم ودان الدهر.
إن المسلمين سادوا الدنيا وكانوا هم ملوكها وكانوا أساتذتها، وكانوا هم حَمَلة منار الحضارة فيها، لمّا كانوا يصلّون حقيقة وكانت صلاتهم جسداً وروحاً، لم تكن كصلاة كثير منا: جسداً بلا روح. فهل نعود إلى مثل تلك الصلاة ليعود لنا مثل ذلك المجد؟
* * *