الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعرابي في بلودان
نشرت سنة 1962
لا يعجبني قول من يقابل بين القرآن والعلم ويفخر بأن القرآن سبق العلم الحديث إلى كذا وكذا، وجوابه هذه القصة.
هل قرأتم قصص الأعرابي الذي صَحِبَنا دليلاً لنا لمّا سافرنا من سبع وعشرين سنة لنفتح طريقاً للسيارات من دمشق إلى مكة؟ لقد كتبتُ عنه في «الرسالة» فصولاً وصفت فيها قدومه الشام من بَعدُ (1)، وكان ذلك سنة 1935، ثم انقطعت أخباره عني حتى
(1) انظر مقالة «أعرابي في حمام» وأخواتها، وهي منشورة في كتاب «صور وخواطر» . وهذا الأعرابي لم يكن قَطّ، بل هو خيال ابتكره علي الطنطاوي ليبني عليه هاتيك الفصول، استوحى شخصيته من شخصية دليل صحبه في رحلة الحجاز. وإن شئت فانظر تفصيل خبره في الجزء الثالث من «الذكريات» ، في الحلقة الثالثة والسبعين. وذكره أيضاً في الحلقة الثامنة والتسعين فقال: كتبت مرّة قصصاً متخيَّلة عن أعرابي صَحِبَنا في رحلة الحجاز، منها «أعرابي في حمّام»
…
إلخ.
وكذلك الحال في قصة هذا المقال، ليس لها أصل من الواقع، بل هي قصة نسجها -للعبرة- من الخيال (مجاهد).
سافرت من سنوات وجزعت عرض الجزيرة من البحر إلى البحر، من جدة إلى الظهران، فلقيت صاحبنا في إحدى المحطات التي وقف عليها قطارنا في نجد، ووجدته قد أثرى واغتنى وصار ذا مال وبنين، ولكنه لا يزال على جفوته، لا يعرف من مظاهر الحضارة التي يتمتع بها الناس إلا خيمته والوعاء الذي يستقي به الماء من البئر والسّراج الذي يشعله إذا أظلم الليل؛ لا يدخل مدن نجد ولا يرى ما فيها فضلاً عن أن يؤمّ غيرها، ولا يعرف ضوء الكهرباء، ولا ركب الطيارة ولا سمع بالرادّ ولا بشيء من أدوات المدنية الحديثة. فتركت القطار وبقيت معه يوماً أنِستُ فيه بلقائه وجدّدت العهد به، ثم دعوته لزيارة الشام كَرّةً أخرى، فتأبّى ثم لان ولبّى، فأخذتُه معي إلى الظهران ومعه ثلاثة من أولاده، ثم ركبنا الطيارة إلى دمشق.
وكان معه مال كثير، فأحببت أن أريه من مظاهر الحضارة ونِعَم الله على أهلها (وإن كان أكثرهم لا يحسن الشكر عليها)، فاستأجرت له في بلودان (1) قصراً مُنيفاً لواحد من المُترَفين المسرفين لم يَدَعْ شيئاً مما وصلت إليه مدنية العصر إلا أودع منه في هذا القصر، ففيه التدفئة المركزية للشتاء وفيه المكيفات للصيف، وفيه المصعد الآلي، وفي مطبخه البرّاد والغسّالة والعصّارة وأجهزة تقشير الخُضَر وغسل الأواني وتقطيع الخبز وتجميره، كل ذلك على الكهرباء، وفيه الماء جارياً أبداً حاراً وبارداً.
(1) يلفظونها بباء ساكنة في أولها. وهي بُلَيدة إلى الغرب من دمشق غيرَ بعيد عنها ذات هواء عليل وجو جميل، يتخذها أهل دمشق مَصيفاً هي والبلدات القريبة منها، بُقَّيْن ومَضَايا والزَّبَداني (مجاهد).
أوصلته إليه وتركته فغبت عنه في دمشق أسبوعين، ثم عدت إليه فوجدته قد ترك القصر بكل ما كان فيه، وأقام في رحبة أمامَه خيمةً ينام فيها هو وأولاده على نحو ما كان يصنع في البادية، واشترى قِربة وطلب عينَ الماء البعيدة فكان يملأ قربته فيها ويعود بها، لا يدخل القصر ولا يعلم أن الماء في الحنفيّة. وابتاع شمعاً، فكان إذا أظلم الليل أشعل شمعة، فإذا انتهت أو أطفأتها الريح نام مكانه، لا يعرف الكهرباء ولا يهتدي إلى مفتاح ضوئها.
ولبث على ذلك أياماً. إلى أن كانت ليلة من ليالي السَّرار غاب فيها القمر، ولم يجد ما يشعل به السراج فدخل الدار وهو خائف يتلمّس الجدران بيديه، فوقعت يده بالمصادفة على مفتاح الكهرباء، وكان في بهو الدار الثُّرَيّات ذوات العشرات من المصابيح الصغار فأضاءت كلها معاً.
فغارت جرأة الأعرابي كما يغور ماءُ الحوض انشقّت من تحته الأرض، وغاص قلبه في صدره حتى أحس به في قدميه، وأراد الصياح فلم يطاوعه صوته، وطلب الهرب فما حملته رجلاه. وظن أن الجنّ هي التي أشعلت الأنوار، ووقف أمام الباب ينتظر أن يذهب الجني فينطفئ الضوء، فوجده لا يزال مشتعلاً، فتشجع ودخل يلمس الجدران كما كان يفعل أول مرة، فوقعت يده على الزر فانطفأ، فخاف وكاد يهرب، ولكن يده مست الزر مرة ثانية فأضاء، فعرف أن النور يشتعل وينطفئ من هنا.
ورأى الأولاد النور فدخلوا، فوجدوا في الدار ما لم ترَ مثلَه عينُ أحد في القبيلة ولم تسمع به أذناه، وجالوا فيها فرحين، وزال
عن الأب ما كان فيه فجال معهم حتى دخلوا المطبخ، فوجدوا فيه طعاماً كثيراً طيباً لم يروا مثله ولم يعرفوا ما هو، ولكن رأوا سَواغه في حلوقهم وعرفوا خفته على بطونهم. وعبث الرجل بالحَنَفيّة فسال منها الماء، فدخل عليه الغرور ولم يبقَ عنده شك في أنه قد أصبح من السحَرة وأنه غدا فوق البشر، إذ أشعل النور بلا كبريت وأسال الماء من الحديد وعمل هذه المعجزات.
وبلغني أنه لما جاء صاحب القصر بعد ذلك يطلب الأجرة تنكّر له صلبي وجحده حقه ومنعه أجرته، وقال له: لقد كنت أتعرف إليك وأنا في عهد الشمعة والقِرْبة، أما الآن وأنا في عهد الكهرباء والحنفيات، في عهد التقدمية والرقي، فلست أعرفك.
قال: ويحك، أنا الذي بنى هذه الدار ووضع فيها أسلاك الكهرباء وأنابيب الماء، ولقد وضعت لك أشياء أُخَر أعجبَ من هذا وأغرب، فإذا كان وقوفك على مفتاح الكهرباء وحنفية الماء جعلك تنكر حقي، فكيف إذا عرفت سرّ ما بقي؟ أفما كان أولى بك أن تشكرني على ما أعددت لك وتخجل مني لأنك لبثت أسبوعاً لا تدري به، وأنك لا تعرف إلى الآن بقية ما في الدار؟ وكيف إذا عرفت المصعد فرأيت غرفة تصعد بك وتنزل، والغسّالة وهي حديد تعمل عمل الأيدي، ولو عرفت -بعدُ- الرادَّ والرائي وشريط التسجيل وهاتيك العجائب؟
* * *
يا سادة، هذا هو مثال البشر إذ يغترّ ناسٌ منهم بهذه المكتشَفات العلمية ويظنون أنهم شاركوا الله في ملكه وقدروا على
ما لا يقدر عليه البشر. تقول للرجل: اتّقِ الله واتبع سبيل الشرع، فيقول لك: ما لنا وللدين؟ نحن في عصر الذرّة والصاروخ والقمر الصناعي والتقدمية والرقي.
ولو عقلنا لأقررنا بعجزنا إذ لم نكشف هذه الأسرار كلها من أول يوم، ولازددنا إيماناً بالذي خبّأها لنا، والذي عنده من الأسرار ما لا يبلغ كلُّ ما اكتشفنا نقطةً من بحره.
إننا مثل ذلك الأعرابي الذي عرف قليلاً مما وضعه له صاحب الدار، فبدلاً من أن يشكره عليه ويعترف بفضله ويسعى لمعرفة المزيد أنكر عليه حقه وقصر في أدائه وامتنع عن دفع الأجرة. هذا هو المثال، ولله المَثَل الأعلى.
إن الله هو الذي خلق الكون، وهو الذي وضع فيه هذه الأسرار الهائلة وهذه القوانين الطبيعية العجيبة. إنه جعل لكل مرض دواء، ووضع ذلك أمام أعيننا كما وضع صاحبُ الدار المفروشات والأدوات أمام الأعرابي، فكنا مثله في جهالته وأمضينا الدهر الأطول فلم نبصر إلا الأقل الأقل منها، عرفناه مصادفة كما عرف الأعرابي وأولاده مفتاحَ النور وحنفيةَ الماء، لم نعرفه بخطة مرسومة ولا نهج بيّن.
ما علمنا أن في هذا العفن الأخضر مادة البنسيلين التي تقتل الجراثيم وتشفي الناس إلا من عشر سنين، مع أن هذه المادة موجودة فيه وضعها الله تحت أبصارنا من يوم خلق العالم. وهو الذي جعل في الهواء القدرة على حمل الطيارات وجعل في الذرة هذا القوة الهائلة، وكان ذلك موجوداً من أول الدنيا ولكنّا لم نعرفه
إلا من قريب. فلما عرفناه حسبنا أننا نحن طيّرنا الطيارة، وأننا نحن خلقنا البنسلين، وأننا نحن سيّرنا الصاروخ، وأننا نحن وضعنا هذه القوة العظيمة في الذرة الصغيرة!
الله أودع في الكون هذه الأسرار من يوم خلق العالم، وقال لنا: فكروا واعملوا بعقولكم وابحثوا عن هذه الأسرار. فلما فكرنا ووقفنا على بعضها لم نحمد الله لأنه وضعها لنا ووفقنا إلى اكتشافها، بل جحَدْنا بها فضلَ ربنا وكدنا نكفر بديننا!
* * *
إن هذه المخترعات تزيد الإيمان بالله ولا تنقصه. كفار قريش وكبار عقلائهم لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم إنه ذهب من مكة إلى القدس ورجع في ليلة واحدة كذّبوه ولم يستطيعوا أن يصدقوا أن هذا الأمر ممكن. وأجهل رجل اليوم لو قلت له: "أنا ذاهب إلى الشام وأعود غداً" لقال لك: "مع السلامة"، وما تعجّب ولا اندهش.
لم يعد يكذّب أحدٌ بمعجزة الإسراء لأن اختراع الطيارة قوى إيماننا بها.
والذين كانوا يسمعون أن اليد تنطق والرجل تنطق يوم القيامة كانوا يشكّون في هذا ويقولون: كيف تنطق اليد؟ وهل لليد لسان؟ فلما رأوا شريط التسجيل ينطق وأسطوانة الحاكي تنطق علموا أن الله الذي أنطق الشريط والأسطوانة في الدنيا قادر على أن يُنطق اليدَ والرجل في الآخرة، فزالت شكوكهم وقوي إيمانهم.
يا سادة، إن البشر كلما ازداد علمهم بأسرار هذه الطبيعة
التي طبعها الله وبما أودع فيها من أسرار زاد إيمانُ العقلاء منهم بالله، أما الذين يتزعزع منها إيمانهم فإن مثلهم مثل ذلك الأعرابي الأحمق الذي ظن أنه هو الذي أسال الماء من الحديد وأخرج الضياء من الجدار!
لقد أودع الله الكونَ هذه الأسرارَ لتكون داعياً إلى الإيمان لا حافزاً على الكفر.
اللهم اجعلنا من أولي الألباب.
* * *