المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌طريق الإسلام نشرت سنة 1988   [وجدت اليوم شيئاً فرحتُ به: شريطاً مسجّلاً - نور وهداية

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌طريق الإسلام نشرت سنة 1988   [وجدت اليوم شيئاً فرحتُ به: شريطاً مسجّلاً

‌طريق الإسلام

نشرت سنة 1988

[وجدت اليوم شيئاً فرحتُ به: شريطاً مسجّلاً عليه خطبة الجمعة التي كنت ألقيتها في مسجد عمّان الكبير يوم الجمعة الثالث عشر من جمادى الأولى سنة 1391هـ (9 تموز 1971)، وأُذيعت من الإذاعة الأردنية.

ولم يكن من عادتي أن أُعِدّ خطبي أو أن أكتبها، ولكن هذه الخطبة قد سُجّلت، ففرحت بها واستخرجتها من الشريط وبعثت بها إلى «الشرق الأوسط» لتعم الفائدة إن شاء الله منها.]

إن مثَلَنا مَثَل قافلة كانت ماشية في طريقها، تتبع دليلها ويحدو بها حاديها، ففُقد الدليل وسكت الحادي، ثم كثر الأدلاّء وتعدد الحُداة وتشعّبت الطرق، فانقسمنا، ثم اختلفنا، ثم افترقنا فمشى كلٌّ في طريق واتخذ كلٌّ لنفسه غاية. فقفوا قليلاً وانظروا: إلى أين نمشي؟ ومن منا الذي يمشي على الصواب؟

منّا مَن مشى غرباً ومِنّا مَن مشى شرقاً، فما انتهى المشرّقون ولا المغرّبون إلا إلى الفرقة والهوان. والطريق واضح والقبلة

ص: 171

معروفة، ليست قبلتنا البيت «الأبيض» ولا البيت «الأحمر» ، ولكن قبلتنا بيت عليه ستار أسود. وليست وجهتنا الشرق ولا الغرب، ولكن وجهتنا إلى حيث يقوم هذا البيت. فحين ندع الشرق والغرب ونتوجه إليه، إلى منزل الوحي، إلى الكعبة، نكون قد عرفنا الطريق.

يا إخواني، أنا ما جئت أدعو إلى خيالات وأوهام، ولا أتعمّد اليوم تزويق الكلام، بل جئت بالحقيقة. وهذه الحقيقة ماثلة أمامكم، لا تحتاج إلى قيل وقال ولا تحتمل الجدال. فلو مرض عندك مريض فراجعت طبيبين وأعطياك دواءين، جربت هذا الدواء فكان فيه الشفاء وجربت الثاني فاشتدّ منه الداء، فأي الدواءين تختار؟

لقد جربَت هذه الأمة الإسلام وجرّبت المذاهب والنِّحَل من دونه ومن ورائه: لما كانت في جاهليتها، في مرض الجهل والانقسام والعزلة والبعد عن دنيا التمدن والعلم، جعلها الإسلام أمة التمدن والعلم وسلمها مفاتيح الأرض. وكانت يوماً بعد إسلامها في مثل حالنا اليوم: كانت متفرقة شيعاً ومنقسمة دولاً، تتجادل وتتقاتل وتتصايح وتتذابح والأجنبي الغاصب الصليبي يحتل الساحل السوري كله، وتنصرف إلى اللغو واللهو وتتبع الهوى وتعيش في الغفلة، والعدو إلى جنبها ما بينها وبين العدو حاجز ولا ستار.

كانت في معركة غاب الإسلام عنها حيناً، فأخذ الصليبيون القدس وبقيت في أيديهم أكثر من تسعين سنة. مات منا جيل ووُلد

ص: 172

جيل، ثم مات الجيل المولود ووُلد الثالث والقدس في أيديهم، فلما دخل الإسلام المعركةَ على يد عماد الدين، ثم نور الدين، ثم صلاح الدين، كانت معركة حطين وكان النصر المبين، واسترددنا القدس وطهّرنا بلادنا كلها من الغاصب الدخيل.

والإسلام لا يزال كما كان، وهو يستطيع -إن أدخلناه في المعركة- أن يكسبنا بعون الله المعركة، ولكن ناساً يدّعون أنهم منا يفزعون كلما ذُكر الإسلام. يفزعون من ذكر الإسلام لأنهم لم يعرفوه؛ للإسلام في أذهانهم صورة مشوهة، لذلك يفزعون من ذكر الإسلام. يظنون الإسلام هو ما كنا عليه منذ مئة سنة وأن ما عليه المتمدنون اليوم لا يكون إلا بمخالفة الإسلام، لذلك جاءت صورة الإسلام مقرونةً عندهم بالتخلف والجهل بعلوم العصر، وصورة الدعوات المخالفة له مقرونة بمنجزات العلم وثمرات الحضارة والصعود إلى القمر!

المرأة تظن أن الإسلام هو ما كانت عليه في القرن الماضي حين كانت تنادي بتحرير المرأة، وأعداء الإسلام والمغفلون من أبناء المسلمين يحسبون أننا إن دعونا إلى الإسلام إنما ندعو إلى هجر المدارس وترك العلوم الحديثة، وأن نتداوى بوصفات العجائز وندع الطب، وأن نركب الجمل بدلاً من السيارة، وأن نحارب بالسيف والرمح بدل المدافع والصواريخ!

لا يا سادة، ليس هذا هو الإسلام، بل إن هذا كله ليس من الإسلام؛ الإسلام أن نُقبل على العلم، العلم كله: علم الأديان، وعلم الأبدان، وعلم الأكوان، وعلم البلدان، وعلم الحيوان، وعلم الإنسان، حتى نكون في ذلك كله أعلم الأمم. الإسلام أن

ص: 173

نكون نحن سادة الدنيا، وأن نكون نحن أساتذتها، وأن نكون حكامها.

فإذا كنتم تريدون استرداد مقدساتكم واسترجاع مسجدكم الأقصى، واستعادة بلادكم والعودة إلى أمجادكم التي كانت لأجدادكم، فبالإسلام وحده تستطيعون ذلك ولا تستطيعونه بغير الإسلام. والتجربة أكبر برهان:

صلاح الدين استردّها من جيوش أوربا كلها بعدما لبثت في أيديهم قريباً من القرن، استردها بالإسلام، ونحن نعجز أن نستردّها من أيدي اليهود لأننا نحاول أن نصل إلى ذلك من غير طريق الإسلام، فأقنعوا هؤلاء الذين يفزعون من ذكر الإسلام ويتصورونه رجعية وتخلفاً أنهم على خطأ مُبين، أثبتوا لهم أن الخطوة الأولى في طريق الظفر أن نتفق على مبدأ الرجوع إلى الإسلام.

* * *

أنا أسأل هؤلاء: ماذا يريدون من خير ولا يجدونه في الإسلام؟ أيريدون عدالة تحمي الضعيف من ظلم القوي، وتدفع عن الفقير تحكم الغني، وتنصف العامل والفلاح، وتطرد من بلادنا الغاصب الدخيل وتعيد إلينا السيادة والمجد؟

الإسلام يحقق ذلك كله. بل لقد حقق الإسلام ذلك كله في الصدر الأول، حين أجرى أول إحصاء عام للسكان في الدنيا ثم جعل لكل فرد في الأمة، نعم، لكل فرد حتى الذي وُلد من ساعة، راتباً من خزانة الدولة، وكان ذلك على عهد عمر.

ص: 174

وعلى عهد أمية حين جعل الوليدُ لكل أعمى مرافقاً يقوده وراتب هذا المرافق من خزانة الدولة، ولكل مريض مزمن ممرّضاً يصحبه وراتب هذا الممرض من خزانة الدولة، وحين جاء -من بعد- عمر بن عبد العزيز فأعاد حكومة المَثَل الأعلى التي تحققت على عهد أبي بكر وعمر.

بل لقد تحققت هذه العدالة في عهد التأخر والانحطاط على أيدي أمراء تلك الدول الصغيرة، على يد واحد منهم هو الملك المظفَّر صاحب إربل في العراق، حين جعل الخبز مجانياً كالماء يصل إليه أي إنسان. ولقد أقرت الدولة الإسلامية من تلك القرون البعيدة مجانية الطب ومجانية التعليم، فأباحتهما للجميع.

أتطلبون العدالة بغير الإسلام وعندكم مبدأ نفقات الأقارب وعندكم الزكاة، وعندكم مبدأ إسهام بيت المال في نفقة كل فقيرة ليس لها معين ولكل فقير عاجز عن الكسب؟

لا تستقلّوا الزكاة، فلقد خبّرني الثقة أن الأموال التي تجب فيها الزكاة في عمّان وحدها (ولا تنسوا أن الخطبة أُلقيت سنة 1971)، أموال الشركات والتجّار والموسرين والمدّخرين العاديين، تزيد عن أربعمئة مليون، زكاتها عشرة ملايين دينار.

فتصوروا حال البلد لو وُزِّع فيه على وجوه البِرّ والخير التي هي مصارف الزكاة عشرة ملايين دينار في كل سنة، تعطى للفقير يتّخذ منها رأسَ مال يبدأ به عملاً شريفاً يقوم به على قدميه لا يحتاج إلى أحد، ويكون منها سداد دين المدين، وثمن أدوات عمل للصانع، ونفقات دراسة للطالب النابغة الفقير، وللمرأة يعصمها من ويلات

ص: 175

الحاجة. لا تُعطى صدقةً يكون فيها هوان للفقير وفيها تحقير له، فهي ليست صدقة، إنها حق معلوم للسائل والمحروم.

ونفقة الأقارب مبدأ للتضامن الاجتماعي ما له نظير، ألقيت فيه بحثاً مرة أمام حلقة الدراسات الاجتماعية التي تقيمها جامعة الدول العربية بمشاركة الأمم المتحدة (1)، فدُهش منها السامعون. كل امرأة فقيرة وكل رجل فقير عاجز عن العمل يستطيع أن يطلب من القاضي فرضَ نفقة له على وارثه الغني، فإن لم يدفع طوعاً أجبره القاضي على الدفع بقوة القانون. لقد اكتفى من المرأة بالفقر واشترط على الرجل العجزَ عن العمل، لأن من مبادئ الإسلام أن المرأة لا تكلَّف العمل وأن الرجل لا يُسمَح له بالبطالة والكسل. فإن لم يكن لهما قريب فالنفقة على بيت المال يحكم بها القاضي.

هذه هي عدالة الإسلام الاجتماعية، ليست مجرد كلام ولا مذهباً ولا ميثاقاً يُدوَّن على الورق، ولكنها مبادئ عملية طُبقت قروناً وقروناً.

* * *

أتريدون قانوناً يحقق العدالة ويضمن لكم أفضل ما عند الأمم من مبادئ حقوقية؟ نحن نقدّمه لكم من الإسلام. لا نقتصر على الكتب المدوَّنة في المذاهب الأربعة وحدها، لأن هذه

(1) هذا البحث منشور في كتاب «فِكَر ومباحث» بعنوان «النفقات والتكافل الاجتماعي» (مجاهد).

ص: 176

الكتب ليست هي الإسلام كله كما يظن البعض؛ هذه الكتب كالصيدليات، إن لم نلقَ الدواء في مذهب من المذاهب طلبناه في المذهب الآخر، فإن لم نجده فيها كلها عمدنا إلى عمله بأيدينا، والمواد موجودة والطريقة معروفة: المواد هي ما جاء في الكتاب والسنة، والطريقة هي أصول الاجتهاد.

ففي كتب المذاهب الأربعة أحكام اجتماعية استُنبطت في زمانهم ويمكن استنباط مثلها في زماننا، لأن القاعدة الشرعية في هذا المقام أنه «لا يُنكَر تبدل الأحكام بتبدل الأزمان» . أما الأصول التي نستمدها منها -وهي الكتاب والسنة الثابتة- فلا نحتاج إلى تبديلها لأنها تصلح لكل زمان، بل إنها تُصلح كلَّ زمان.

أفتريدون أن ندع شرع ربنا لشرع نابليون، أي لقانونه الذي هو أبو القوانين المدنية؟ إن اللجنة التي وضعت قانون نابليون استندت إلى كتب كثيرة في الفقه أخذتها من مصر واعتمدت عليها، ولا سيما كتب المالكية. يقول هذا أستاذ القانون المدني في جامعة ليون، وفيها أرقى كلية حقوق في فرنسا، مستنداً إلى ضبوط جلسات اللجنة التي وضعت هذا القانون. فلماذا نترك رأس العين ثم نمشي حتى نشرب من السواقي التي تفرعت عنها بعدما تعكّر ماؤها؟ مَن ترك له أهله ثلاجة مملوءة بشهيّ الأطعمة وهو جوعان يشتهي رغيفاً، أفيترك الثلاجة بما فيها ويدور على بيوت الناس يشحد رغيفاً؟

أتريد المرأة التحرر من ظلم بعض الرجال، ومنع العبث بحق الطلاق الذي وضعه الله في أيديهم، وأن لا يتخذ أحدٌ من

ص: 177

إباحة تعدد الزوجات دليلاً للإساءة إلى النساء والإضرار بهن، وأن تتحقق لها المساواة مع الرجال في الحقوق المدنية وفي الواجبات؟

هذا كله يحققه لها الإسلام. فلماذا يفزع بعض النساء من العودة إلى أحكام الإسلام؟

الإسلام يقول للمرأة: صوني جمالك عمّن يريد أن يجعلك عبدة مسخّرة لشهواته، عمّن ألغى رقّ الأجساد فشرع رقّ الأعراض، يُقبل عليك ما دام فيك ماء الشباب فإذا جفّ رمى بك كما تُرمى برتقالة قد امتُصّ ما فيها من ماء. الإسلام يقول للمرأة: لا تمنحي الرجل شيئاً من المتعة بهذا الجمال إلا بعد أن تربطيه من رقبته برباط الزواج، لتكوني في شيخوختك أمّاً وجدة في موضع الاحترام من الأبناء والأحفاد، لا عجوزاً منبوذة لا يبالي بها أحد.

إن معك جوهرة إن ضاعت منك لا تعوَّض، والسوق أمامك فيه التجار الأمناء يشترونها بأغلى الأثمان، وعلى الطريق لصوص يريدون أن يضحكوا عليك وأن يسلبوها منك. فهل تجزعين إن قال لك الإسلام أخفي الجوهرة حتى لا تراها أعين اللصوص ولا تبذليها إلا بثمنها المشروع، أي بالزواج الدائم لا باللذة العارضة التي تستمتعين بها مع الرجل دقيقة، ثم يمضي هو خفيفاً وتحملين أنت نتائجها ثقلاً في بطنك ووصمة على جبينك؟

* * *

ص: 178

هل يفزع ناس من الإسلام لأنه يقيد النفس الأمّارة بالسوء حتى لا تنساق وراء الكفر والشرك والفسق والضلال وتهوي بصاحبها في جهنم؟ هل يجزعون لأن الإسلام يقيّد الشهوة أن لا تنطلق فتصبح بالتكشف والاختلاط ناراً مدمرة محرقة، لا تدع في نفوس الشباب طاقة على قتال ولا على نافع من الأعمال لأنها تغرقهم في بحر من الغرائز؟ هل يجزعون لأن الإسلام يقول: يا ناس، إن بعد الحياة موتاً وبعد الدنيا آخرة، وإن لهذا الكون رباً سيحاسبكم غداً على الصغيرة والكبيرة، لا منجى لأحد ولا مهرب من هذا الحساب، فأعدوا لما لا بد منه وفكروا من الآن في الجواب؟

هل يجزعون لأن الإسلام يقول لهم: اتركوا الظلم والعدوان وكونوا أهل عدالة وإحسان، وفكروا وتعلموا ولا تسمحوا لليهود والموضات التي يخترعها اليهود وللمذاهب الباطلة التي يضع أسسها اليهود، لا تسمحوا لليهود ولا لعملاء اليهود أن يعبثوا بكم ويحققوا مآربهم على أيديكم؟

هل يجزعون لأن الإسلام يقول لهم: لا تتبعوا الهوى ولا تأكلوا الربا، ولا تسمعوا كلام الشيطان بل اتبعوا شرع الرحمن؟

فماذا تريدون من خير لا يقدمه لكم الإسلام؟ عندنا في الإسلام دواء لكل داء من أدواء الفرد والمجتمع، عندنا حل كل مشكلة، عندنا جواب كل معضلة. فيا أيتها المرأة التي تستمع إليّ الآن في بيتها، ويا من يستمع إليّ هنا في المسجد، ويا من يصل صوتي إليه اليوم من المذياع أو يسمعه مسجَّلاً غداً على الشريط: هذا والله الحق والذي يدعونك إليه الباطل، هذا الحق مؤيَّداً بالأدلة

ص: 179

والبراهين والوقائع والأرقام، وما يَدْعون إليه خيالات ونظريات وأوهام. ولقد جربنا المذاهب كلها وسلكنا الطرق كلها فما أوصلتنا إلا إلى ما ترون، أفما آن لنا أن نعود إلى تجربة طريق الإسلام؟

* * *

يا ناس، الطريقان أمامكم، فإن أعجبكم ما نحن فيه فتابعوا مسيركم، وإن أردتم أن يبدّلنا الله بما نحن عليه حالاً خيراً من حالنا، وأن يردّ علينا ما خسرنا من أمجادنا وفضائلنا، وأن يعود إلينا تحت الشمس مكاننا، فعودوا إلى الإسلام، فهذا هو الطريق.

* * *

ص: 180