المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌من روض النبوة

‌من رَوض النبّوة

حديث أذيع من إذاعة دمشق سنة 1961

قال المذيع إنكم ستسمعون الآن حديثاً اجتماعياً للأستاذ علي الطنطاوي، وقد أصاب في هذا القول وأخطأ فيه؛ أصاب إذ وصفه بأنه حديث اجتماعي، وإن كان الحديثُ الذي ستسمعونه اليومَ من النمط العالي الذي لم يجِئ بمثله كاتب، لا من العرب ولا من غير العرب، وهو صادر عن فكر لا تدانيه ولا تقاربه أفكار الفلاسفة والعلماء، لا من العرب ولا من غير العرب.

وأخطأ إذ نسبه إليّ، فليس حديث اليوم لي، ولا أقدر أن آتي بمثل هذا الحديث المُعجِز. إنه حديث لعظيم إذا قيس به العظماء عادوا وكأنهم من الدّهماء، كالشمس إن بارَتْها المصابيحُ غدت من نورها في ظلماء. إنه حديث سيد الرسل وخاتم الأنبياء، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

إن حكمة الحكماء -يا سادة- فكر ليس فيه روح من عاطفة، وأخْيِلَة الشعراء عاطفة ليس لها عماد من فكر. والنمط المفرد من الكلام هو الذي ستسمعونه اليوم، وهو الذي يسوق لك القضية العقلية المسلَّمة في الثوب العاطفي البارع، تستشرف له النفس فتقبله وتألفه، ويرضاه العقل فيؤمن به ويتبعه، وهو -فوق ذلك-

ص: 45

واضح بيّن يفهمه العامي الذي لم يطلب علماً ولم يَروِ أدباً، ويعجز عن مثله العالم والأديب.

وإذا كان في توقيعات الخلفاء وأمثال الأدباء والقليل المتخيَّر من الكلام نفحة من هذا الأريج ووهج من هذه الشمس، فإننا نقرأ ذلك لمتعة البلاغة وهزّة البيان، وفي بلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أكبر من البلاغة والبيان؛ هي أنها قانونٌ مَن عَمِلَ به نال سعادة الدنيا والأخرى.

وبعد، فهاكم زهرات قليلة من ذلك الروض المُمرِع.

* * *

هذه كلمة واحدة جمعت الدين والخلق والتهذيب والأدب، فمَن ذكرها دائماً وعمل بها كان مَرضِيّاً عند الله مُقدَّماً بين الناس، هي قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه» (1).

فتصور نفسك دائماً في موضع مَن تعامله، وانظر ماذا تحب أن تعامَل به فعامله بمثله. إذا كنت بيّاعاً فتصور أنك أنت المشتري وأنك لا تحب أن تُخدَع ولا أن تُغبَن، فلا تخدع المشتري ولا تغبنه. وإذا كنت قوياً فتصور أن الذي أمامك هو أقوى منك، فعامل الضعيف بمثل ما تحب أن يعاملك به القوي.

* * *

(1) أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه (مجاهد).

ص: 46

وهذه كلمة فيها الدين كله، وهي موعظة جمعت المواعظ كلها والتقت فيها طرق الخير جميعاً، وهي قوله صلى الله عليه وسلم:«أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (1).

فمن كان يرى أمامه شيخه الذي يُجلّه أو أباه الذي يوقّره، هل يأتي المنكرات والحماقات؟ وهل يستطيع أن يسرق أو يزني مَن يعلم أن شيخه أو أباه ينظر إليه من نافذته ليرى ما يصنع؟

فكيف يقصّر في فريضة أو يُقدِم على محرَّم أو يَعمد إلى ظلمٍ مَن يعلمُ أن الله جل جلاله مطّلع عليه وأنه يراه؟ ولذلك جاء في الحديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» (2).

* * *

وكن قوياً لا تكن ضعيفاً، وكن معطياً لا تكن آخذاً، وكن غالباً أو عافياً لا تكن مغلوباً أو مَعفُوّاً عنه؛ فإن القوة هي جمال الرجل، لا جمال في الرجل إلا بالقوة: قوة الجسد، وقوة الفكر، وقوة المال، وقوة اللسان.

وقد جمع فلسفةَ القوة كلها حديثٌ واحد في ست كلمات، وعرضها في صورة ملموسة لا في فكرة غامضة، هو قوله صلى الله عليه وسلم:

(1) من الحديث المشهور في الإيمان والإسلام والإحسان، أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأبو داود وأحمد (مجاهد).

(2)

أخرجه الشيخان وأصحاب السنن (مجاهد).

ص: 47

«اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى» (1).

وإذا كان الحديث الماضي دستوراً للفرد فهذا الحديث دستور للفرد وللجماعة وللواحد وللدولة.

* * *

والناس يتحاسدون في الغنى وفي الجاه: ترى من هو أغنى منك أو أوجه فتغبطه ترجو أن تكون مثله، وربما حسدتَه فتمنيت أن تكون أنت مكانه. فبيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا كله أقل من أن يُحسَد عليه، كله لا قيمة له، لا المال ولا الجاه، والحسد شر كله، فإن جاز يوماً فإنما يجوز في إحدى منزلتين: منزلة الغنيّ الذي يجود بماله في الخيرات، في الصدقات وأعمال البِرّ، ومنزلة العالِم الذي يعلّم الناس ما ينفعهم عند ربهم، أو يكون قاضياً فيقضي بينهم بعلمه قضاء الحق.

قال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد (أي لا غبطة) إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلّطه على هَلَكَته بالحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلّمها» (2).

* * *

(1) أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأبو داود (مجاهد).

(2)

الحديث أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجه وأحمد. ومعنى قوله «هلكته» أي إنفاقه، يفسّره لفظُ الحديث في رواية أخرى عند البخاري وأحمد:«فهو يهلكه بالحق» وفي رواية ثالثة «فهو ينفقه في الحق» (مجاهد).

ص: 48

إن المرء لا يعرف قَدْر الصحة إلا عند المرض، فإذا مرض وعجز عن العمل نظر بعينيه وتحسّر وقال: آه، يا ليتني عملت وأنا صحيح!

وإذا كثرت عليك الأشغال وضاق الوقت تمنيتَ أن تجد زيادة ساعة ولو دفعت ثمن كل دقيقة ليرة! يعرف هذا التلميذُ الذي تأتيه ساعةُ الامتحان ولا يزال عليه مئة صفحة من الكتاب، والمتعهد الذي تأتيه ساعةُ التسليم ولا يزال عليه إنجاز شيء من العمل، والمسافر المضطر الذي يصل إلى المطار بعدما طارت الطيّارة بخمس دقائق. بل ربما بلغ ثمن الدقيقة في تقدير الإنسان مئة ألف ليرة، كالوالد الذي يحمل العفو لولده المحكوم فيجد أن حكم الموت قد نُفِّذ فيه منذ دقيقة واحدة!

وإذا كان معك المال الوفير فبذّرته وأضعته ثم احتجتَ إلى القليل فلم تجده، قعدتَ متحسراً. وإذا أدركك المشيب فعجزت وضعفت أسفت على أيام الشباب وتمنيت لو كنت صنعت فيها ما تتمنى الآن عمله وتعجز عنه.

ثم إذا كان الموت، وطُوَيت صفحات الأعمال، ووجدتَ عِظَم ثواب الحسنات وعظم عقاب السيئات، تمنيت أن تسبّح تسبيحة واحدة أو تصلي ركعة فلا تستطيع.

لقد جمع هذه المعاني كلها حديث واحد، حديث أرجو أن يكتبه كل واحد منكم بالخط الجميل ثم يعلقه في صدر مجلسه لينظر فيه دائماً ويجعله دستوراً له: «اغتنم خمساً قبل خمس؛ صحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك،

ص: 49

وشبابك قبل هَرَمك، وحياتك قبل موتك» (1).

لا تضيّعْ أيام الصحة بالكسل ثم تأسى في المرض على العجز عن العمل. ولا تضيّع أوقات الفراغ باللهو والعبث ثم تبكي عليها إذا ازدحمت عليك الأشغال وضاقت الأوقات. ولا تبذّر أيام غناك، تنفق المال في غير مواضعه، ثم تُمضي الليالي متحسراً عليه أيام الحاجة. ولا تضيع شبابك وقواك في الفسوق والعصيان، فإذا انحنى ظهرك ورقّ عظمك وركبتك الأمراض قلت: يا ليت الشباب يعود!

وهل رأيت شباباً عاد؟ كلا، إنه لا يعود الشباب إذا ولّى ولكن يبقى إذا لم تقتله بالمعاصي. وإنك لترى الرجل تحسبه في الستين وما جاوز الأربعين، وآخر تظنه ابن أربعين وهو في الستين. وما ذاك إلا لأن العفافَ والتقوى يحفظان على الرجل شبابه والفسوقَ والعصيان يهدمانه قبل أوان الهدم. وهذه مكافأة عاجلة في الدنيا، فكيف بالمكافأة الكبرى في الآخرة؟ فلا يغترّ الشاب الذي يركب هواه باللذة العاجلة، ولا يأسف الشاب التقي الذي فاتته هذه اللذات، فإنه لا خير في لذة ساعة وراءها عذاب الدنيا بالمرض والهرم وعذاب الآخرة في جهنم، وعذاب جهنم أشد وأنكى.

* * *

(1) صحّحه الشيخ ناصر الدين الألباني في «صحيح الجامع الصغير» .

ص: 50