المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌يا أيها المذنبون

‌يا أيّها المذنبون

حديث أذيع سنة 1956 (1)

سأحدثكم اليوم عن واحد من ذوي الجاه والسلطان، كان له ولد عني به وربّاه ويسّر له أسباب السعادة وأمدّه بالمال الوفير، ولم يكلفه إلا شيئاً واحداً، قال له: إن فلاناً مفسد شرير وهو عدو لي ولك، فابتعد عنه ولا تستمع إليه، فإنه لا يقول إلا الكذب ولا يريد بك إلا الأذى.

فما كان من الولد إلا أن أسرع إلى هذا العدو فصادقه وصافاه ونسي أباه، فأورده موارد الفجور ودله على طريق المعاصي، وأعرض عن أبيه ونسيه وصار يقع كل يوم في ورطة. فإذا اضطر ولم يجد أحداً يدعوه يدعو أباه فينقذه، فإذا نجا منها عاد إلى قطيعة أبيه وجفائه. حتى إذا أحاط به الأعداء واشتدّ عليه البلاء وتعاقبت عليه الورطات، جاء مَن ينصحه يقول له: إنه ليس لك إلا أبوك، فاعتذر إليه وعد إلى حِماه، واسأله بعد ذلك ما شئت.

هذا هو مَثَلنا مع الله، وله المَثَل الأعلى.

(1) * هذا الحديث هو خطبة الجمعة التي ألقاها علي الطنطاوي في مسجد الجامعة بدمشق يوم 23/ 11/1956، ونقلته الإذاعة على الهواء، وكان المألوف أن تذيع خطبه التي يلقيها في ذلك المسجد (مجاهد).

ص: 219

لقد أنعم الله علينا النعم التي لا تحصى، وأمدّنا بالصحة والمال والقوة والعقل، وتكفل لنا بالرزق، وأعطانا كل ما نريد، فكل خير عندنا منه. وقال لنا: إن الشيطان عدو لي ولكم وإنه يريد أن يغويكم ويضلكم، فلا تتّبعوا خطوات الشيطان. وشقّ لنا طريقين، طريقاً طويلاً شاقاً ولكنه يوصل إلى عزّ الدنيا وسعادة الآخرة، وطريقاً سهلاً قصيراً فيه اللذائذ والمتع، ولكنه لا يوصل إلا إلى جهنم.

وأقام لنا أدلّة على مفرق الطريقين: رسلاً مبشِّرين ومُنذِرين، ينادون: يا أيها السالكون، لا تغترّوا بقِصَر هذا الطريق وجماله، ولا تخافوا من طول هذا الطريق ووعورته، فالعبرة بالغايات، وهذا غايته جنة فيها النعيم الدائم، وهذا غايته جهنم التي فيها العذاب المقيم. ووسوس لنا الشيطان أن لا تبيعوا بعاجل ملموس آجلاً مجهولاً، وامشوا من هنا! فمشينا من حيث دعانا الشيطان، وأعلنّا على الله العصيان، وجاهرناه بالمعاصي، وهو مع ذلك يمدنا بالمال والبنين وبالنعم التي لا تحصى.

تركنا هَديَ الرّسل وحِدْنا عن طريق الفلاح، فتكاثرت علينا الأمم وتعاقبت علينا المحن، بعدما كنا بالإسلام ملوكَ الأمم وأساتذة العالم وبعدما نشرنا لسان العربية ودين محمد ما بين قلب فرنسا وآخر الشرق.

كان أجدادنا يعودون إلى الله يدعونه يبتغون منه النصر، فنسينا نحن الدعاء وغفلنا عن ذكر الله. فمَن ينصرنا من بعده؟ هل في الوجود رب آخر نهرب من الله لنلجأ إليه، كما يهرب الرجل من حكومة ليلجأ إلى حكومة أخرى؟ {يَا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ:

ص: 220

إنِ اسْتَطَعْتُم أنْ تَنْفُذوا مِنْ أقْطَارِ السّمَاواتِ والأرْضِ فَانْفُذوا، لا تَنْفُذونَ إلاّ بِسُلْطان}. هل من إله غير الله ينصرنا؟ لا إله إلا الله. أفلا نعود إليه فنعتذر إليه ونسأله العفو؟ ألم يحن الوقت لنصلح ما بيننا وبين الله؟ {ألَمْ يَانِ للذينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلوبُهُمْ لِذِكْرِ الله؟} .

* * *

يا أيها الناس، هذا أوان الرجوع إليه بالتوبة والاستغفار، ثم بالدعاء والتضرع وطلب المغفرة. وما النصر إلا من عند الله.

ولا تستكثروا الذنوب، فليس في الذنوب ما يجِلّ عن العفو إلا من مات مشركاً:{إنّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .

فيا مَن يسمع كلامي من العصاة المذنبين، ممّن يصغي إلى الرادّ وهو في داره أو في قهوته وهو تارك لصلاة الجمعة، أو من هو مقيم على معصية، يا من اتبع الشهوات وانغمس في الذنوب، إن باب التوبة مفتوح، والدعوة عامة، والخير عميم، فادخلوها بسلام آمنين:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الذين أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، إنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنوبَ جَميعاً} .

إن الله أعطى التائبين ثلاث خصال هي: حبّ الله، ومن أحبه الله لم يغدر به. وأن الملائكة تستغفر له، ومن استغفرت له الملائكة غفر الله له. وأن الله يبدل بالتوبة سيئاتهم حسنات.

قال تعالى: {إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابينَ} . وقال: {الذينَ يَحْمِلونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ للذينَ آمَنُوا،

ص: 221

رَبَّنا وَسِعْتَ كُلّ شَيءٍ رَحْمَةً وَعِلْمَاً فَاغْفِرْ للذينَ تَابوا وَاتَّبَعُوا سَبيلَكَ}. وقال: {إلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحَاً، فَأولئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ} .

والتوبة هي أول محطة في طريق الوصول إلى الله وإلى سعادة الآخرة. وليست التوبة كلمة باللسان مع البقاء على الذنوب، فإن التائب من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربّه والعياذ بالله. ولكن التوبة النَّصوح هي التي يكون معها الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم على ألاّ يعود.

فمن ترك الذنب نادماً على ما فات ناوياً ألاّ يرجع إليه، فهذا الذي يقبل الله توبته، وهذا الذي ورد فيه أن التائب من الذنب كمَن لا ذَنْبَ له. فإن تاب بهذه الشروط، ثم غلبته نفسه فعاد إلى الذنب ثم تاب قُبلت توبته، ولو تكررت عودته.

هذا في حقوق الله، أما حقوق العباد فلا بد فيها من شرط آخر، وهو أداء الحق أو مسامحة صاحبه؛ فمَن أكل أموال الناس أو أساء إليهم بقول أو فعل، أو أعان عدوّهم عليهم فأخفى أقواتهم واحتكر أرزاقهم وتمنى أن تقوم الحرب فتهلك الحرث والنسل وتدمر البلاد والعباد ليملأ صندوقه بالذهب، والمرأة التي تخدع زوجها وتكذب عليه، والرجل الذي يخون زوجته ويسيء إليها، والغشّاش والمخادع والمرابي

كل هؤلاء وأمثالهم لا تُقبَل توبتهم حتى يؤدّوا ما عليهم من حق أو يسامحَهم صاحبُ الحق.

فتوبوا إلى الله جميعاً يا أيها المؤمنون.

* * *

ص: 222