المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌حي على الصلاة

‌حيّ على الصلاة

نشرت سنة 1964

قرأت مرة قصة لكاتب فرنسي لست أذكر الآن مَن هو كتاباً يؤرخ فيه رحلةً له في الصحراء الكبرى جنوبي الجزائر، صَحِبَ فيها قافلة عربية يقول عن أهلها أنهم كانوا جِنّاً على صورة بني آدم، يُتعبون ولا يَتعبون لا يستريحون ولا يُريحون، لا يسلكهم نظامٌ ولا يُخضعهم قانون، كل فرد منهم أمة وكل واحد فيهم رئيس. وكان يومُ التحاقه بالقافلة يوماً مجنون الرياح ثائر العواصف، تكاد ريحه تقتلع الخيام بمن فيها وتحمل السيارات الثقال وتلقيها.

ثم كان المشهد الذي أدهشه وأعجبه وبلغ إعجابه به حداً سجل وصفاً له، أذكر أنه كان غاية في الدقة وفي الجمال،?يقول:

ما هي إلا أن أذّن مؤذن منهم: «حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح» حتى هدأت ثورة هذه النفوس وذهبت تلك الفوضى وسكت ذلك الضجيج، ورجع هؤلاء الجن بشراً من أفضل البشر، ثم وقفوا صفاً واحداً كأنه صف الجند ساعة التدريب، لا ترى منهم إلا الطاعة لقائدهم ولا تجد منهم إلا الاستقامة والامتثال، يسمعون الإيعاز (التكبير) فيتحركون جميعاً بحركة الإمام. لا تميل

ص: 37

بهم الرياح، رياح الصحراء الكبرى ولا تحركهم، فكأنهم آلة ضخمة في معمل كبير!

* * *

ذكرت هذا الوصف وأنا قائم من عشرين يوماً في آخر جمعة من رمضان على سطح الرّواق الجديد للحرم المكي، أرى صفوف المصلين تحفّ بالكعبة، تتحرك كلها بحركة الإمام، فكأنها -كما قال الكاتب الفرنسي- آلة ضخمة يحركها الإمام. وقد حركت يوماً الدنيا كلها.

لقد وقف رجال القافلة التي صحبها الكاتب صفاً واحداً رآه الكاتب متعجباً فوصفه معجباً، وأنا أرى هذه الصفوف في الحرم وهي تتعاقب دوائر من حول الكعبة تتسع وتكبر كلما نأت عنها، حتى ملأت الحرم كله وبلغت جدرانه، ثم تجاوزته إلى بيوت مكة وشعابها، ثم إلى الجبال والبوادي من حولها، ثم تتسع حتى تبلغ أطراف الجزيرة، ثم تتسع حتى تَطيف بالأرض جميعاً.

دوائر وسط دوائر وصفوف وراء صفوف مركزها البيت الحرام، لا تمنعها الجبال ولا البحار ولا الصحارى ولا القفار أن تتوجه إلى هذه البيت من كل مكان، حتى تطيف به من كل جانب، من الشرق والغرب والشمال والجنوب. من الصحراء الكبرى وأقصى المغرب إلى قلب إفريقيا، إلى أقاصي جزر أندونيسيا، إلى الثلوج المتراكمة على قمم جبال الأفغان وتركستان، إلى كل أرض يُتلى فيها القرآن ويُصدَح فيها بالأذان.

ص: 38

هذه الصفوف التي بدأت «قائمة» للصلاة، ثم تابعت «ماشية» إلى المعارك الخيّرة العادلة المنصورة، ثم «قعدت» في صدور مجالس الحكم والعلم على رؤوس الممالك والإمارات وكراسي المدارس والجامعات، فكان من أهلها أعدل حاكم وأفضل معلم. ثم تعبت «فنامت» !

لقد مرّ بها ليلٌ طويل بعد ذلك النهار الحافل بالأعمال الجِسام، ولكنّ ليلَها بدأ يتصرّم وفجرها قد لاح؛ لقد طلع الآن الفجر الأول الذي يصحو فيه النائم، ولكن لا تصحّ فيه الصلاة إلا أن تكون صلاة التهجد قبل الفجر. لقد ظهرت خيوط من النور تمتد من الأفق إلى الأعالي، وسيأتي بعدها الفجر الصادق ويمتلئ الأفق بالضوء وينادي المنادي «الصلاة خير من النوم» ، فتنهض لتجدد المسيرة الخيّرة ولتكتب في تاريخ المفاخر والأمجاد صفحة كالصفحة التي كتبها الأجداد. لقد كنا في الزمن الأول كما قال شوقي في الزمن الأخير:

وإذا أتَوْنا بالصّفوفِ كثيرةً

جئنا بصَفٍّ واحدٍ لن يُكسَرا

صف واحد لا صفوف شتى، صف واحد له وجهة واحدة وله قائد واحد، هو سيد العرب، بل سيد العالم، بل خاتم الأنبياء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله منهج واحد هو كتاب الله.

لقد كنا نياماً فصحونا، فإذا شئتم أن تجعلوا هذه الصحوة صادقة مستمرّة لا صحوة عارضة نعود بعدها إلى المنام، وإذا صدقتم العزم على أن تجددوا المسيرة، فهذا هو الطريق.

* * *

ص: 39

فيا أيها المسلمون، لا تصرفكم عن الطريق الصحيح صُوَىً (1) كاذبة ولا لوحات مزورة، فالطريق لَحْب (2) واضح، مشينا فيه أول مرة فوصلنا، فإن ضللنا عنه أو بدّلناه لم نصل أبداً. الطريق الذي خطّه وحدّ حدودَه اللهُ وبين مبتدأه ومنتهاه هو طريق الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، يبدأ بالصلاة وربط القلب بالله وينتهي بربط القلب بالله وبالصلاة، جمع الله به بين المسجدين فلا يُفَكّ رباطهما أبداً؛ إنه لا سبيل إلى تحرير القدس إلا إن سرتم على هذا الطريق، من هنا من حول هذا البيت الذي لبس من الديباج ثوباً أسود، لا من البيت الأبيض وراء البحر في الغرب ولا من البيت الأحمر في الشرق.

لقد كانت القافلة تعرف طريقها، يقودها دليلها ويحدو بها حاديها، فلما صحونا بعد نومتنا وجدناها تمشي على ضلال، قد ملّ الحادي وحار الدليل. كنا نعرف منتهانا لأننا عرفنا مبتدانا، إن النهاية هي النصر المؤزَّر إن كانت البداية من الصلاة القائمة.

الذين بدؤوا بالصلاة قياماً بين يدي الله وقاتلوا جهاداً في سبيل الله يطلبون النصر من عند الله، فيكون الله ناصرهم. ومن يقاتل لغير الله، للقومية وحدها أو للوطنية، أو لما شئتم أو شاؤوا من المبادئ والمذاهب التي لم ينزل بها كتاب ولم يُبعث بها رسول، فممّن -لعمري- يطلبون النصر إن لم يطلبوه من الله؟

(1) جمع صُوَّة، وهي العلامات أو الحجارة التي تُنصَب ليُستدَلّ بها على الطريق (مجاهد).

(2)

اللَحْب واللاحِب هو الطريق الواضح (مجاهد).

ص: 40

لما أهوى المسلمون الأولون بجباههم إلى الأرض، حيث تطأ النعال خضوعاً لله، جعل الله رؤوس الجبّارين تنحني خضوعاً لهم وتيجانَ الحكام تتهاوى على نعالهم، وجعلهم بالإسلام سادة الدنيا وأساتذتها. إن الله أعز العرب بالإسلام، فإن ابتغوا العزة بغيره ذلّوا.

الإسلام الذي تخطى كتابُه فوارق الألوان والألسن والبلدان، الإسلام الذي يقسم الناس إلى قسمين فقط: الذين آمنوا، والذين كفروا. لم يقسمهم إلى عرب وعجم، ولا إلى أغنياء وفقراء، ولا إلى سادة وعبيد، ولا إلى برجوازيين وبروليتاريين؛ فكان الفضل عنده بالتقوى وحدها، أي بالمزية الشخصية التي يستطيع مَن شاء اكتسابها، على حين يتفاضل الناس بالأحساب والأنساب والمناصب والأموال.

ولئن كان من ندعوهم بالمتمدنين يثيرون اليوم مشكلة الأجناس أو يتمسك فريق منهم بفوارق الألوان، فلقد جاء الإسلام بعبد أسود وهو بلال الحبشي فجعله وزير الدعاية لأول حكومة إسلامية. وهل المؤذّن إلاّ وزير الدعاية يعلن مبادئ الإسلام كل يوم خمس مرات؟ فقضى بذلك على فوارق الألوان. وعمد محمد عليه الصلاة والسلام إلى الرجل الفارسي، فلم يكفِه أن جعله من السادة بعد أن كان عبداً مملوكاً حتى أصدر قراراً ضمّه به إلى بيت النبوة، فقال:«سلمان منا أهلَ البيت» ، فقضى بذلك على فوارق الجنسيات.

* * *

ص: 41

إني أرى هذه الصفوف قد قامت من جديد لتعيد زحفها الخيّر مرة ثانية. ألا ترونها واقفة لا تحركها الرياح؛ لا رياح الفلوات ولا رياح المطامع والشهوات؟ لقد استوى فيها الحاكم والمحكوم، والملوك والسّوقة، والأغنياء والفقراء.

لقد طالما رأيت بين المصلين ملوكاً ورؤساء ووزراء يَقدُمون حجاجاً أو معتمرين، نستنزلهم من طيّاراتهم التي كانوا يضربون بها في طباق الجو، يعلون بها السحاب حيث لا يبلغ نسر ولا عقاب، فلا نجد في الإكرام لهم عندنا ولا ما هو أحب إليهم منا من أن نقول لهم: انزعوا عنكم ثياب الدنيا التي ترتدونها كما يرتديها الناس، ثياب التفاخر والتكاثر، فما ها هنا مجال لتفاخر ولا لتكاثر، وارتدوا ما يستر الأجساد ويدفع حر الصيف وبرد الشتاء: الإزار والرداء. ثم نقول لهم: طوفوا حول هذا البيت مع الطائفين وادخلوا في هذه الصفوف مع المصلين، فمن هذه البقعة المباركة نبَعَ الخير الذي سالت به الجداول والأنهار حتى عمّ الأرضَ كلها بالخصب والنماء، ومن هنا، من جبل قريب، خرج النور الذي أزاح عن الدنيا ظلمات الشرك والجهل والخرافة ودلها على طريق العقل والحضارة والمدنية والعلم. إن هذه القَفْرة التي ما فيها إلا الصخر والرمل هي التي ولدت جنات الغوطة وبساتين العراق، ومصر التي كان يدعوها أهلها أم الدنيا.

ومن قبل، من عشر سنين، كنت في الباكستان لمّا زارها الملك العربي السعودي المسلم، فلم يجدوا أبلغ في تكريمه من أن يدعوه ليؤمّ المصلين ويضع جبينه معهم على الأرض. ولم يكن في كراتشي يومئذ مسجد يتّسع لهذه الخلائق التي لا يحصيها العدّ

ص: 42

ولا يدرك آخرَها البصرُ، فجمعوهم في الميدان الكبير الذي كانوا يلعبون فيه البولو (1)، لم تمنعهم صلابة الأرض ولا حرارة الشمس من أن يملؤوها وأن يقوموا فيها صفوفاً بين يدي الله، كصفوفهم حينما يقفون للقتال جهاداً في سبيل الله. وحين يستشعر المسلم العبودية لله والذلة بين يديه يعطيه الله السيادة في الدنيا والعزّ في الأرض، ولا تذل هذه الجباه إلا لله وحده لأن الذُّل لله عزّ.

* * *

فإذا أردتم -وقد صحوتم هذه الصحوة المباركة- أن يعود لكم النصر الذي كان لأجدادكم فاسلكوا طريقه، فإن مَن لا يسلك الطريق لا يبلغ الغاية، وادخلوه من بابه، فإن من أخطأ الباب لم يصل إلى المحراب.

ابدؤوا جهادكم في فلسطين (وفي غير فلسطين) بالصلاة. ألا ترون موقفنا مع اليهود، وهم أذل الأمم وهم أقل الأمم؟ لا تقولوا إنها تمدّهم أميركا، فإن أميركا لمّا وقف أمامها الفيتناميون يقاتلونها بإيمان (وإن كانوا يؤمنون بالجبت والطاغوت لا يؤمنون بالله واليوم الآخر) لم تقدر أن تخضعهم بسلاحها.

يا أيها الناس، إن الذي يقاتل عن إيمان لا يمكن أن يُغلَب، فكيف إن كان يؤمن بالله وباليوم الآخر؟ فكيف إن كان الناس يخافون الموت وكان هو يطلب الموت لأنه يرى في الموت الحياة الدائمة الباقية؟

(1) التي كان يسميها أجدادنا الكرة والصَّوْلَجان.

ص: 43

فاستبشروا -يا أيها المسلمون- بالنصر ما بقيت هذه الصفوف قائمة، يقودها الإمام ويسودها النظام، قانونها الإسلام، وشعارها دائماً: إلى الأمام.

إن هذه الصفوف إذا عرفت كيف «تقوم» هنا حقاً، وربط أصحابها قلوبَهم بالله حقاً، وجاهدوا في سبيله حقاً، عرفت كيف «تسير» مرة ثانية إلى مرابع النصر ومراتع الفخر، وعرفت كيف «تقعد» مرة ثانية في الصدر، فيكون لها النهي والأمر ويكون لها عز الدهر.

* * *

ص: 44