الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا هو الطريق
نشرت نحو سنة 1969
إن المسلمين اليوم في نكبات وفي أخطار، قد أحاط بهم أعداؤهم، يرسمون الخطط لحربهم وحرب دينهم، ويبذلون لذلك كرائم الأموال ويسخّرون لذلك أكابر المفكرين ويستعينون على ذلك بكل وسيلة. فما النجاة وأين الطريق؟
إن الجواب في التاريخ، فسائلوا صحائف التاريخ: ما الجواب؟
بل خذوا صفحة منه واحدة، فإن هذا الفصل القصير يضيق عن سرد الصحف الطِّوال. اذكروا يوم قامت أوربا كلها على ساقيها، فمشت إلينا بقضّها وقضيضها على اختلاف أجناسها ولغاتها، يحدوها التعصب الأعمى ويدفعها الحقد الذي يأكل الأكباد، وحطّت بثقلها على فلسطين، على هذه البقعة الضيقة من الوطن الإسلامي. من الذي وقف يومئذ في وجهها ونهض لردّها؟
إنه -يا سادة- البطل التركي المسلم نور الدين، والبطل الكردي المسلم الذي جاء من بعده، صلاح الدين. لقد وضع
الأول الأساس ورفع الثاني الشُّرُفات والذُّرى، وفتح الأول بابَ المعركة وتابع الثاني حتى جنى النصر. فبماذا انتصر صلاح الدين في حطين، وبِمَ استرجع القدس بعدما لبثت في أيدي الصليبيين لا عشرين سنة ولا ثلاثين ولكن أكثر من تسعين؟
إن صلاح الدين انتصر لأنه دعا بدعوة الإسلام، لم يدعُ بدعوة الجاهلية ولا نادى بشعائر الكفار، ولم يرفع راية مذهب باطل ابتدعه أهل الضلال من البشر بل رفع راية القرآن الذي أنزله رب العالمين وخالق البشر، انتصر لأنه ضرب بسيف محمد، وسيف محمد صلى الله عليه وسلم لا ينبو ولا يكِلّ، وسيف محمد صلى الله عليه وسلم لم يضرب به أحدٌ إلا انتصر.
ويوم جاء السيل الطامي من الشرق يقوده هولاكو، يجرف في طريقه المدن والحكومات ويمحو كل ما يمر عليه من مظاهر العمران. وانهارت أمامه بغداد، بغداد العظيمة التي كانت سرّة الدنيا وعاصمة الأرض. مَن وقف أمامه في عين جالوت؟ جيش مصر؟ لا والله، بل وقف أمامه شيخ من دمشق هو قاضي مصر وإمامها، العالم العامل المؤمن العزّ بن عبد السلام، الذي باع المماليك في سوق العبيد يوم كان المماليك أمراء مصر!
هذا الذي وقف في وجهه. لا، بل وقف في وجهه الإيمان الذي أثاره هذا الشيخ في نفوس الجند والأمراء والعامة، وقفت أمامه دعوة الإسلام التي تجد اليوم من أبناء المسلمين من يفزع من ذكرها ويؤذيه سماعها.
الإسلام هو الذي جعل من مصر الضعيفة ومن جيوش
المماليك التي كانت قليلة مفككة، جعل من ذلك قوة استطاعت أن تردّ سيل المغول وتنقذ الإسلام والحضارة.
فيا أيها المسلمون، هذا التاريخ تشهد صفحاته أنه ما نزل بالمسلمين خطب إلا ردّته عنهم دعوة الإسلام إذا صدقوا الدعوة بها، وإن الخطوب التي تحيط بالمسلمين اليوم لا يردها عنهم ولا ينجيهم منها إلا دعوة الإسلام.
* * *
وهذا شاهد آخر على أن المسلمين ما أحاطت بهم يوماً النكبات إلا كانت نجاتهم منها بدعوة الإسلام والرجوع إلى الله. وما أكثر الشواهد على هذه الحقيقة في تاريخنا!
أترون هذا البحر الأبيض المتوسط؟ لقد كان يوماً من الأيام بحيرة إسلامية، وكان المسلمون يملكون معظم شطآنه وأكثر جزائره، ومن ذلك جزيرة كريت (التي كنا نسميها إقريطِش). وكانت تخرج منها السفن المجاهدة المسلمة فتغزو أطراف بلاد الروم، وكان أكثر المجاهدين من قرية معتزلة في طرف الجزيرة الشرقي، حتى تأذّى قيصر الروم وغضب، وحلف ليدمرّنّ هذه القرية ولو كلفه ذلك ملكه.
وأعد لها جيشاً عظيماً وأسطولاً ضخماً نزل عليها فجأة، وحاصرها وسدّ عليها الطرق فلا تستطيع أن تبعث في طلب النجدة. ولم يكن في تلك الأيام برقيات ولا إذاعات، وعلم أهل القرية أنهم لا يقدرون على الحرب فأغلقوا الأبواب وتحصّنوا
بالجدران. وطال الحصار حتى قلَّتْ المُؤَن وشَحّت المياه وبدت بوادر المجاعة والمرض، فتداولوا الرأي وتبادلوا المشورة، ثم قرروا التسليم.
قال أحمد بن يوسف في كتاب «المكافأة» :
وحدّثني رجل مسنّ من أهل القرية (وكان شاهد عيان لما كان) قال: وكان في القرية شيخ صالح متّصل القلب بالله، وكان معتزلاً في مسجده يرقب الحوادث، فلما رآهم قد عزموا على التسليم قال لهم: هل بَقِيت لكم قوة تلجؤون إليها أو حيلة تحتالون بها؟ قالوا: لا.
قال: فاستمعوا مني إذن أدلّكم على طريق النجاة؛ اخرجوا جميعاً إلى ساحة القرية، ولا يَبْقَ في بيته أحدٌ، لا طفل ولا امرأة ولا عجوز ولا مريض، وأخرجوا ما عندكم من المواشي والأنعام. ثم افصلوا الأولاد عن الأمهات والإخوة عن الأخوات، وقفوا كلَّ ناس على حدة، وافصلوا كذلك الأنعام والمواشي.
ففعلوا، وعلا بكاء الأطفال وثُغاء الماشية. قال: أحضروا الآن قلوبكم وأخلوها من أمور الدنيا كلها، وتوبوا إلى الله توبة صادقة نصوحاً.
ففعلوا. قال: عُجّوا الآن إلى الله عَجَّةً واحدة، وقولوا من أعماق قلوبكم: يا الله!
ففعلوا. قال: افتحوا الأبواب وكبّروا واخرجوا إليهم.
فنادوا: «الله أكبر» بصوت ارتجّت له الأرض، وخرجوا
وليس في قلوبهم إلا عظمة الله والإيمان به، قد هانت عليهم الدنيا وصغرت في عيونهم جيوش العدو وأساطيله حتى رأوها في جنب الله كلا شيء، وهجموا على العدو.
يا سادة، لمّا هجموا بهذه القلوب وهذا الإيمان وقعت الأعجوبة؛ شُدِه العدوّ وقطع الرّعبُ أفئدةَ أبطاله، فلم يستطع أحد منهم أن يقف في وجه هذه السيل الأتِيّ الفوّار، وانهزموا لا يلوون على شيء حتى نزلوا البحر، وغلب العددُ القليل هذا الجيشَ العظيم، وانتصروا.
وما انتصروا، وما انتصر أجدادنا في كل معركة خاضوها، ولن ننتصر نحن على إسرائيل وغير إسرائيل، إلا بشيء واحد هو الإيمان.
* * *
وهاكم تاريخ الأمس القريب، أفنسيتم تاريخ الأمس القريب؟ بماذا وقف عبد الكريم الخطابي في وجه فرنسا وإسبانيا معاً، يواجه جيشين فيهما مئة وخمسون ألفاً؟ بماذا قابل حسن الخرّاط في الشام، وهو خفير ليلي عامي، جيشَ فرنسا لمّا كانت فرنسا أقوى دولة برية في العالم في أعقاب الحرب الأولى، حتى احتل دمشق ثلاثة أيام؟ بماذا ناضل الثائرون في فلسطين سنة ست وثلاثين؟ بماذا حارب مجاهدو الجزائر حتى نالوا الاستقلال؟
أما حاربوا بالقرآن الذي تعلّموه في كتاتيب جمعية العلماء التي افتتحها الشيخ ابن باديس؟ فلماذا -يا إخوان- نلقي هذا السلاح؟ لماذا ندع الإسلام فلا نرفع رايته ولا نضرب بسيفه؟
لقد فتح أجدادُنا بالإسلام الأرضَ، وفتح اليهودُ قلبَ بلادنا وقبلتنا الأولى لمّا تركنا الإسلام. فهل اعتبرنا أم نحن نحتاج إلى درس آخر؟
لقد مشيتم أولاً على الطريق فوصلتم، فلماذا تنحرفون عمداً عن الطريق الموصل؟ لماذا تتعمدون الضلال في المتاهات وتسلكون المهالك، والطريق أمامكم؟
يا قرائي ويا إخواني، هذا هو الطريق!
* * *