الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَى أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِدَعْوَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بِمُجَرَّدِهِ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ زَوْجُهَا طَلَاقَهَا بِوِلَادَتِهَا. وَلَنَا أَنَّهَا أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ، فَأَشْبَهَتْ الْأَبَ، وَإِمْكَانُ الْبَيِّنَةِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْقَوْلِ، كَالرَّجُلِ، فَإِنَّهُ تُمْكِنُهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَمَةً، فَهِيَ كَالْحُرَّةِ، إلَّا أَنَّنَا إذَا قَبِلْنَا دَعْوَاهَا فِي نَسَبِهِ، لَمْ نَقْبَلْ قَوْلَهَا فِي رِقِّهِ؛ لِأَنَّنَا لَا نَقْبَلُ الدَّعْوَى فِيمَا يَضُرُّهُ، كَمَا لَمْ نَقْبَلْ الدَّعْوَى فِي كُفْرِهِ إذَا ادَّعَى نَسَبَهُ كَافِرٌ.
(4573)
الْقِسْمُ الثَّانِي، أَنْ يَدَّعِيَ نَسَبَهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي فُصُولٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ إذَا ادَّعَاهُ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ، أَوْ حُرٌّ وَعَبْدٌ، فَهُمَا سَوَاءٌ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنْ الذِّمِّيِّ، وَالْحُرُّ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ عَلَى اللَّقِيطِ ضَرَرًا فِي إلْحَاقِهِ بِالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ، فَكَانَ إلْحَاقُهُ بِالْحُرِّ الْمُسْلِمِ أَوْلَى، كَمَا لَوْ تَنَازَعُوا فِي الْحَضَانَةِ. وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا انْفَرَدَ صَحَّتْ دَعْوَاهُ، فَإِذَا تَنَازَعُوا، تَسَاوَوْا فِي الدَّعْوَى، كَالْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الضَّرَرِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَإِنَّنَا لَا نَحْكُمُ بِرِقِّهِ وَلَا كُفْرِهِ. وَلَا يُشْبِهُ النَّسَبُ الْحَضَانَةَ، بِدَلِيلِ أَنَّنَا نُقَدِّمُ فِي الْحَضَانَةِ الْمُوسِرَ وَالْحَضَرِيَّ، وَلَا نُقَدِّمُهُمَا فِي دَعْوَى النَّسَبِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إذَا كَانَ عَبْدٌ، امْرَأَتُهُ أَمَةٌ، فِي أَيْدِيهِمَا صَبِيٌّ، فَادَّعَى رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ امْرَأَتُهُ عَرَبِيَّةٌ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ، فَأَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ أَنَّهُ ابْنُهُ، فَهُوَ ابْنُهُ فِي قَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُقْضَى بِهِ لِلْعَرَبِيِّ، لِلْعِتْقِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي مِنْ الْمَوَالِي عَبْدَهُمْ. وَقَوْلُهُمْ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ وَغَيْرَهُمْ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ بِهِمْ سَوَاءٌ.
[فَصْلٌ ادَّعَى نَسُبّ اللَّقِيط اثْنَانِ وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا بِهِ بَيِّنَةٌ]
(4574)
الْفَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا ادَّعَاهُ اثْنَانِ، فَكَانَ لِأَحَدِهِمَا بِهِ بَيِّنَةٌ، فَهُوَ ابْنُهُ. وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، تَعَارَضَتَا، وَسَقَطَتَا، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُمَا هَا هُنَا؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُمَا فِي الْمَالِ إمَّا بِقِسْمَتِهِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ هَا هُنَا، وَإِمَّا بِالْإِقْرَاعِ بَيْنَهُمَا، وَالْقُرْعَةُ لَا يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ ثُبُوتَهُ هَا هُنَا يَكُونُ بِالْبَيِّنَةِ لَا بِالْقُرْعَةِ، وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ مُرَجَّحَةٌ. قُلْنَا: فَيَلْزَمُ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ، يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ لُحُوقُهُ بِالْوَطْءِ لَا بِالْقُرْعَةِ.
[فَصْلُ إذَا لَمْ تَكُنْ بِنَسَبِ اللَّقِيط بَيِّنَةٌ أَوْ تَعَارَضَتْ بِهِ بَيِّنَتَانِ وَسَقَطَتَا]
(4575)
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ بِهِ بَيِّنَةٌ، أَوْ تَعَارَضَتْ بِهِ بَيِّنَتَانِ، وَسَقَطَتَا، فَإِنَّا نُرِيهِ الْقَافَةَ مَعَهُمَا، أَوْ مَعَ عَصَبَتِهِمَا عِنْدَ فَقْدِهِمَا، فَنُلْحِقُهُ بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ مِنْهُمَا. هَذَا قَوْلُ أَنَسٍ، وَعَطَاءٍ، وَيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا حُكْمَ لِلْقَافَةِ، وَيُلْحَقُ بِالْمُدَّعِيَيْنِ جَمِيعًا؛
لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْقَافَةِ تَعْوِيلٌ عَلَى مُجَرَّدِ الشَّبَهِ وَالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ، فَإِنَّ الشَّبَهَ يُوجَدُ بَيْنَ الْأَجَانِبِ، وَيَنْتَفِي بَيْنَ الْأَقَارِبِ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ: هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ . قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ. قَالَ: وَهَذَا لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الشَّبَهُ كَافِيًا لَاكْتُفِيَ بِهِ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ، وَفِيمَا إذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِأَخٍ وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ. وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها «، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا مَسْرُورًا، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ نَظَرَ آنِفًا إلَى زَيْدٍ وَأُسَامَةَ، وَقَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ؟» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَلَوْلَا جَوَازُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْقَافَةِ لَمَا سُرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَضَى بِهِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ:«اُنْظُرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ حَمْشَ السَّاقَيْنِ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ، جَعْدًا، جُمَالِيًّا، سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ. فَأَتَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» . فَقَدْ حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي أَشْبَهَهُ مِنْهُمَا. وَقَوْلُهُ: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» . يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْعَمَلِ بِالشَّبَهِ إلَّا الْأَيْمَانُ، فَإِذَا انْتَفَى الْمَانِعُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ لِوُجُودِ مُقْتَضِيه. وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، حِينَ رَأَى بِهِ شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ:«احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» . فَعَمِلَ بِالشَّبَهِ فِي حَجْبِ سَوْدَةَ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْحَدِيثَانِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، إذْ لَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشَّبَهِ فِيهِمَا، بَلْ أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِزَمْعَةَ، «وَقَالَ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ: هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . وَلَمْ يَعْمَلْ بِشَبَهِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، لِشَبَهِهِ بِالْمَقْذُوفِ. قُلْنَا: إنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمَعَةَ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ أَقْوَى، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا، لَا يُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَنْهَا إذَا خَلَتْ عَنْ الْمُعَارِضِ. وَكَذَلِكَ تَرْكُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِ أَيْمَانِهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:«لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ.»